04 نوفمبر 2024
نتنياهو والجيل الفلسطيني الجديد
لم يشأ وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أن يغادر عمّان بخفي حُنَين. وفي ظل حربه ضد داعش، وجولات من المواجهة تخوضها الحكومة الأردنية مع الإسلاميين، ونوستالجيا هاشمية متنامية، يحرص الملك عبد الله الثاني على أن يبدو حارساً للمقدسات الإسلامية. أما رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، فلم يجد غضاضة في الإعلان عن اتفاق غامض، لا يضطر معه إلى تقديم أي ضمانات، يقضي بالحفاظ على الوضع القائم في المسجد الأقصى، وأن يكون دخول غير المسلمين إليه مقتصرا على الزيارة دون الصلاة. وبكل حال، لا يعني ذلك أن التهدئة باتت في متناول اليد، لا سيما بعد أن سارع مستوطنون رافضون للاتفاق إلى اقتحام المسجد الأقصى مجددا.
لا تكمن القضية الأساسية في الحفاظ على الوضع القائم في الحرم القدسي، صحيح أن تعدّي المتطرفين اليهود على مقدسات الفلسطينيين تحت حماية قوات الاحتلال، كان الشرارة التي أجّجت هذا الحراك الشعبي الفلسطيني الغاضب، لكن الفلسطينيين لا يدافعون عن حرمة مقدساتهم وحسب، بل أيضاً عن حقهم في الحياة بكرامة، ولم يتخلوا بعد عن حلمهم بالاستقلال. ولم يكن نتنياهو، طوال سنوات حكمه، على استعداد لتقديم خطوات جوهرية، تغيّر الوضع القائم في عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ سياسة التمييز العنصري تجاه فلسطينيي الأراضي المحتلة العام 1948، الحروب على غزة وحصارها وتجويع أهلها، تقطيع أوصال الضفة وقضم أراضيها ومصادرتها، الاعتقالات وجرائم المستوطنين المتكررة، الإذلال اليومي للفلسطينيين على الحواجز ونقاط العبور، والتحكم في لقمة عيشهم ومياههم... وغيرها.
واليوم، يكتفي نتنياهو بمحاولات قمع هذا الحراك، عبر مزيد من الإجرام الممنهج بحق الفلسطينيين، وإطلاق أيدي جماعات المستوطنين، لممارسة إجرامهم الجمعي، بينما يستثمر، في المقابل، حالات العنف الفلسطيني الفردي إعلامياً، من دون أن تتردد أجهزته الأمنية في تلفيق عمليات طعن لتبرير قتل مزيد من الفلسطينيين، بمن فيهم النساء والأطفال، بدم بارد، أو بتركهم ينزفون حتى الموت. كما امتدت عمليات الإعدام الميداني لتشمل الفلسطينيين في الأراضي المحتلة العام 1948، ولم توفر عمليات القتل حتى من يُشتبه في كونه عربياً، فلم يعد بإمكان الحقد الإسرائيلي أن يتريّث. ومع كلفتها الباهظة وتوظيفها إعلامياً في مزيد من التحريض على الفلسطينيين، لا يزال فلسطينيون كثيرون، للأسف، يهللون لهذا النمط الفردي من المقاومة، ويحرّضون على مزيد من عمليات الدهس والطعن.
يبدو أن القراءة الصحيحة لخطاب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في الأمم المتحدة، جاءت من الجانب الإسرائيلي، فعلى الرغم من الجدل الفلسطيني حول ما غاب عن الخطاب، وما توجب عليه قوله، فقد مارس الخطاب دوراً تحريضياً، في ظل توفر العوامل التي منحت هذا التحريض فاعليته. ولم يكن رفع العلم الفلسطيني في الأمم المتحدة مجرد خطوة رمزية، بل تبين أنها كانت تعني للفلسطينيين الكثير. يراهن أبو مازن على استثمار هذا الحراك الشعبي للعودة بالقضية الفلسطينية إلى واجهة المشهد الدولي، وكسر حالة الاستعصاء في العملية السياسية، عبر الضغط على نتنياهو باتجاه وقف الاستيطان والعودة إلى طاولة المفاوضات، أو
البديل المتمثل في الحصول على حماية دولية للشعب الفلسطيني توفرها الأمم المتحدة، وقرار من مجلس الأمن ينهي الاحتلال. صحيح أن أبو مازن يخشى حراكاً طويل الأمد، لا يستطيع التحكم بمساره، تتعاظم كلفته، ويضع السلطة الفلسطينية تحت ضغوط مختلفة، لن تكون قادرة على تحملها. فإنه، أيضا، غير مستعد للمغامرة في توريط الأجهزة الأمنية في قمع الحراك الشعبي. وإلا ضحى بما تبقى له من رصيد جماهيري، ناهيك عن أن غالبية المواجهات، مع قوات الاحتلال، تتركز في مناطق غير خاضعة للسلطة الفلسطينية، بما فيها القدس.
أما حركة حماس فكفت، مع انطلاق الحراك، عن تصريحاتها عن هدنة طويلة الأمد مع الاحتلال الإسرائيلي، ومع أنها أدركت النتائج العكسية التي سوف يتسبب بها إطلاق الصواريخ من غزة، فإنها قد لا تتردد في اللجوء إلى عمليات انتحارية في الضفة الغربية، ومحاولة الدفع بهذا الحراك باتجاه العسكرة، بدلاً من دعم مساره الشعبي الحالي. ولكونها تحرص على تصدرها المشهد المقاوم، تجد في الإعلان عن قرب إتمام صفقة "وفاء الأحرار- 2" لتحرير أسرى في سجون الاحتلال، توقيتاً مناسباً.
بالنسبة لناشطي هذا الحراك، هم في غالبيتهم من طلبة وطالبات المدارس والجامعات، غير مرتهنين لتصاريح العمل في إسرائيل، أو لرواتب السلطة الفلسطينية، وليس لديهم قرار حزبي أو حركي يلزمهم في تحركاتهم. وهم، في غالبيتهم، أيضاً ليسوا من المناضلين السابقين الذين تسميهم سلطات الاحتلال "أصحاب السوابق"، وإنما أفراد شبكيّون، ينظمون تحركاتهم وفعالياتهم مستخدمين مواقع التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا المعلومات، ما يجعل رصدهم وتتبعهم من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أمراً بالغ الصعوبة. هم جيل جديد من الفلسطينيين لا يحركهم اليأس، بل يحدوهم الأمل. ولا الغضب، بل حب الحياة. نستطيع أن نشعر بذلك من خلال بريق ابتساماتهم لحظة اعتقالهم، واحتفالهم بأعياد ميلادهم عند نقاط التماس، وقذفهم الحجارة وهم يتراقصون. هم غير مدفوعين بالرغبة في الانتقام، بل يستمتعون بما يقومون به، بقدر رغبتهم في الحياة والحرية.
تحت ركام التصريحات الإعلامية للفصائل والقوى الفلسطينية، المُرحّبة بهذا الحراك الشعبي وضرورة استمراره، لا نجد، حتى الآن، أي استراتيجية فعلية لدعمه وإسناده. ويبدو أن كل طرف في الساحة الفلسطينية يكتفي بمحاولة استثمار هذا الحراك بما يخدم رؤيته وتوجهاته. وفي ظل الانقسام الفلسطيني الحالي، وحالة الترهل السياسي والتنظيمي، يكمن كل الخطأ، في محاولة الهيمنة عليه وتحويله إلى حراك هرمي، تحت ذرائع مختلفة، ربما أبرزها قلة خبرة هؤلاء الناشطين، في مقابل خبرة الفصائل الفلسطينية وكوادرها. لكن الشعب الفلسطيني لم يعد يراهن على تلك الخبرة، وقد فقد الثقة بنخبه السياسية التقليدية. وهؤلاء الناشطون الجدد ماضون في بلورة رؤى وتصورات مشتركة، ووضع خطط للعمل وآليات للتنفيذ، وجهاز إعلامي. إنهم دماء جديدة بدأت تفرض نفسها في الساحة السياسية الفلسطينية، وهي متمسكة بحقها في خوض تجربتها وممارسة دورها.
هذا الحراك الأفقي الذي تشهده الساحة الفلسطينية، اليوم، حتى في حال إخفاقه، يؤكد استعادة الشعب الفلسطيني زمام المبادرة، وأنه قادر على توفير بدائل غير تقليدية، وهو ما يشكل ضمانة حقيقية للمستقبل. إنه جيل فلسطيني جديد، على نتنياهو، وغيره من زعماء إسرائيل، أن يجربوا حظوظهم معه.
لا تكمن القضية الأساسية في الحفاظ على الوضع القائم في الحرم القدسي، صحيح أن تعدّي المتطرفين اليهود على مقدسات الفلسطينيين تحت حماية قوات الاحتلال، كان الشرارة التي أجّجت هذا الحراك الشعبي الفلسطيني الغاضب، لكن الفلسطينيين لا يدافعون عن حرمة مقدساتهم وحسب، بل أيضاً عن حقهم في الحياة بكرامة، ولم يتخلوا بعد عن حلمهم بالاستقلال. ولم يكن نتنياهو، طوال سنوات حكمه، على استعداد لتقديم خطوات جوهرية، تغيّر الوضع القائم في عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ سياسة التمييز العنصري تجاه فلسطينيي الأراضي المحتلة العام 1948، الحروب على غزة وحصارها وتجويع أهلها، تقطيع أوصال الضفة وقضم أراضيها ومصادرتها، الاعتقالات وجرائم المستوطنين المتكررة، الإذلال اليومي للفلسطينيين على الحواجز ونقاط العبور، والتحكم في لقمة عيشهم ومياههم... وغيرها.
واليوم، يكتفي نتنياهو بمحاولات قمع هذا الحراك، عبر مزيد من الإجرام الممنهج بحق الفلسطينيين، وإطلاق أيدي جماعات المستوطنين، لممارسة إجرامهم الجمعي، بينما يستثمر، في المقابل، حالات العنف الفلسطيني الفردي إعلامياً، من دون أن تتردد أجهزته الأمنية في تلفيق عمليات طعن لتبرير قتل مزيد من الفلسطينيين، بمن فيهم النساء والأطفال، بدم بارد، أو بتركهم ينزفون حتى الموت. كما امتدت عمليات الإعدام الميداني لتشمل الفلسطينيين في الأراضي المحتلة العام 1948، ولم توفر عمليات القتل حتى من يُشتبه في كونه عربياً، فلم يعد بإمكان الحقد الإسرائيلي أن يتريّث. ومع كلفتها الباهظة وتوظيفها إعلامياً في مزيد من التحريض على الفلسطينيين، لا يزال فلسطينيون كثيرون، للأسف، يهللون لهذا النمط الفردي من المقاومة، ويحرّضون على مزيد من عمليات الدهس والطعن.
يبدو أن القراءة الصحيحة لخطاب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في الأمم المتحدة، جاءت من الجانب الإسرائيلي، فعلى الرغم من الجدل الفلسطيني حول ما غاب عن الخطاب، وما توجب عليه قوله، فقد مارس الخطاب دوراً تحريضياً، في ظل توفر العوامل التي منحت هذا التحريض فاعليته. ولم يكن رفع العلم الفلسطيني في الأمم المتحدة مجرد خطوة رمزية، بل تبين أنها كانت تعني للفلسطينيين الكثير. يراهن أبو مازن على استثمار هذا الحراك الشعبي للعودة بالقضية الفلسطينية إلى واجهة المشهد الدولي، وكسر حالة الاستعصاء في العملية السياسية، عبر الضغط على نتنياهو باتجاه وقف الاستيطان والعودة إلى طاولة المفاوضات، أو
أما حركة حماس فكفت، مع انطلاق الحراك، عن تصريحاتها عن هدنة طويلة الأمد مع الاحتلال الإسرائيلي، ومع أنها أدركت النتائج العكسية التي سوف يتسبب بها إطلاق الصواريخ من غزة، فإنها قد لا تتردد في اللجوء إلى عمليات انتحارية في الضفة الغربية، ومحاولة الدفع بهذا الحراك باتجاه العسكرة، بدلاً من دعم مساره الشعبي الحالي. ولكونها تحرص على تصدرها المشهد المقاوم، تجد في الإعلان عن قرب إتمام صفقة "وفاء الأحرار- 2" لتحرير أسرى في سجون الاحتلال، توقيتاً مناسباً.
بالنسبة لناشطي هذا الحراك، هم في غالبيتهم من طلبة وطالبات المدارس والجامعات، غير مرتهنين لتصاريح العمل في إسرائيل، أو لرواتب السلطة الفلسطينية، وليس لديهم قرار حزبي أو حركي يلزمهم في تحركاتهم. وهم، في غالبيتهم، أيضاً ليسوا من المناضلين السابقين الذين تسميهم سلطات الاحتلال "أصحاب السوابق"، وإنما أفراد شبكيّون، ينظمون تحركاتهم وفعالياتهم مستخدمين مواقع التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا المعلومات، ما يجعل رصدهم وتتبعهم من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أمراً بالغ الصعوبة. هم جيل جديد من الفلسطينيين لا يحركهم اليأس، بل يحدوهم الأمل. ولا الغضب، بل حب الحياة. نستطيع أن نشعر بذلك من خلال بريق ابتساماتهم لحظة اعتقالهم، واحتفالهم بأعياد ميلادهم عند نقاط التماس، وقذفهم الحجارة وهم يتراقصون. هم غير مدفوعين بالرغبة في الانتقام، بل يستمتعون بما يقومون به، بقدر رغبتهم في الحياة والحرية.
تحت ركام التصريحات الإعلامية للفصائل والقوى الفلسطينية، المُرحّبة بهذا الحراك الشعبي وضرورة استمراره، لا نجد، حتى الآن، أي استراتيجية فعلية لدعمه وإسناده. ويبدو أن كل طرف في الساحة الفلسطينية يكتفي بمحاولة استثمار هذا الحراك بما يخدم رؤيته وتوجهاته. وفي ظل الانقسام الفلسطيني الحالي، وحالة الترهل السياسي والتنظيمي، يكمن كل الخطأ، في محاولة الهيمنة عليه وتحويله إلى حراك هرمي، تحت ذرائع مختلفة، ربما أبرزها قلة خبرة هؤلاء الناشطين، في مقابل خبرة الفصائل الفلسطينية وكوادرها. لكن الشعب الفلسطيني لم يعد يراهن على تلك الخبرة، وقد فقد الثقة بنخبه السياسية التقليدية. وهؤلاء الناشطون الجدد ماضون في بلورة رؤى وتصورات مشتركة، ووضع خطط للعمل وآليات للتنفيذ، وجهاز إعلامي. إنهم دماء جديدة بدأت تفرض نفسها في الساحة السياسية الفلسطينية، وهي متمسكة بحقها في خوض تجربتها وممارسة دورها.
هذا الحراك الأفقي الذي تشهده الساحة الفلسطينية، اليوم، حتى في حال إخفاقه، يؤكد استعادة الشعب الفلسطيني زمام المبادرة، وأنه قادر على توفير بدائل غير تقليدية، وهو ما يشكل ضمانة حقيقية للمستقبل. إنه جيل فلسطيني جديد، على نتنياهو، وغيره من زعماء إسرائيل، أن يجربوا حظوظهم معه.