06 نوفمبر 2024
البحث عن إبرة في كومة قش
يقول "غوغل"، إن في العراق نحو خمسة عشر ألف مجموعة، تسمي نفسها "منظمة مدنية" أو "غير حكومية"، ولتقريب العدد، لكل 2400 مواطن عراقي منظمة مدنية، لا يتجاوز عدد أعضاء بعضها أصابع اليدين. وإذا اجتهدت في فك ألغاز هذا العدد الضخم من "المجموعات" ومغاليقه، وأن تصل إلى "إنجازاتها" طوال أكثر من عقد من عمر العراق "المحرّر"، لن تجد سوى كومة من القش التي يصعب العثور فيها على إبرة.
غالباً ما تكون مداخلات دعاة "المجتمع المدني" في المؤتمرات معنية بتطوير عقول البشر، المتخلفين مثلنا، وهم يعبّرون دائماً، وبحماس مفرط، عن قدرتهم على حل المعضلات الصعبة التي يعاني منها مجتمعنا. وهنا، لا أقصد منظمات المجتمع المدني في بلاد الله الأخرى، ولا أزعم المعرفة بواقعها في السويد أو فرنسا أو سواهما، وإنما أكتب عن المجتمع العراقي الذي عمل المحتلون، وتابعهم المحليون، على تفكيكه وإغراقه في حمّى التناحر الطائفي والعرقي والعشائري، وجاءت صورة ما تسمى المنظمات المدنية تمثيلاً له في أسوأ حالات تناحره وتشرذمه. ولذلك، تجرّدت هذه، في غالبيتها، من الهوية الوطنية الجامعة، وتنازعتها هوياتٌ دنيا، انعكست على معظم نشاطاتها، حتى أفقدتها صفة "المدنية" التي يحلو لها أن تسمي نفسها بها.
نلمح في أدبيات هذه المنظمات خليطاً من الأهداف، لا يقدم تصوراً واضحاً، لأن المقصود منه، كما يبدو، التعمية على الأهداف الحقيقية، وإغراق المتلقي في أحجيات وألغاز، مثل "تشجيع قدرات القيادة لدى الشباب، دفع المؤسسات الفكرية للمشاركة في صنع القرار، غرس مهارات القيادة لدى الشباب، توفير العون لترسيخ الديمقراطية، السعي إلى إيقاظ الأمل في نفوس الفقراء، مشاركة النساء في بناء السلام وحل النزاعات، التمكين السلمي لأنهاء العنف ... إلخ".
تموّل جهات دولية هذه المنظمات، لها أهدافها السياسية والاقتصادية والثقافية التي تصب، في النهاية، في غير صالح الأمن الوطني لبلدنا، وقد نشر مرّة، الموقع الإلكتروني لسفارة الولايات المتحدة في بغداد، أنها موّلت 175 منظمة عراقية بما قيمته 75 مليون دولار، جزءاً من ميزانية 740 مليون دولار، خصصت لدعم المجتمع المدني العراقي عاماً واحداً، ولم نسمع كلمة من جهة عراقية، رسمية أو غير رسمية، عن المنظمات التي تسلمت هذه الأموال، وأوجه صرفها.
وقد أقامت الوكالة الأميركية للتنمية ما تسميها "ورشات عمل" و"دورات تدريبية" لـ"إعادة تأهيل المجتمع العراقي" في أكثر من عاصمة غربية، بالتعاون مع منظمات مدنية عراقية، من دون مرورها بالقنوات الرسمية، واختارت المشاركين بشروطٍ خاصة، لتأهيلهم ليكونوا "ناشطين مؤثرين في قطاعاتهم"، وندرك أن لا ضمانات واضحة لرقابة، أو مساءلة، أو شفافية يستطيع المواطن العادي فيها التعامل مع تلك المنظمات التي تزعم خدمته والدفاع عنه.
نسمع، أيضاً، عن حيتانٍ كبيرة، تزعّمت أو وقفت وراء تأسيس منظمات معينة، تسلمت منحاً من جهات دولية، وغادرت العراق بما خفّ حمله، ومن دون حساب. كما نقرأ عن نشاطاتٍ وهمية، أو فعاليات عديمة الجدوى، تقيمها منظماتٌ، ليس لخداع الجمهور فقط، وإنما لخداع مموليها أيضاً، وإلا ما معنى إقامة دورة لتعليم الموسيقى لأطفال قريةٍ نائية لا يحصلون على كفايتهم من الغذاء أو الدواء؟
وعلى هامش الكتابة عن نشاطاتٍ مشبوهة، ترافقنا خشية مشروعة من أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية ربما فعلت في العراق ما فعلته في دول أميركا اللاتينية، عندما موّلت مشاريع وورشات عمل ودورات تأهيل وتدريب لناشطي المجتمع المدني، تحت ستار "عملية تطوير مجتمعات أميركا اللاتينية"، واكتشف المعنيون، لاحقاً، أن الهدف زج هؤلاء في نشاطات وفعاليات متعلقة ببلدانهم، تخدم التوجهات الأميركية في السياسة والاقتصاد والثقافة، وتمتد إلى نشاطات استخباراتية وسياسية.
ومع كل ما نعرفه، ونسمع به، ومع أنني قرأت كثيراً، وكتبت مراتٍ عن منظمات ما يسمى "المجتمع المدني" في العراق، إلا أنني أشعر أن أمامي كومة من القش، يصعب العثور فيها على إبرة.
غالباً ما تكون مداخلات دعاة "المجتمع المدني" في المؤتمرات معنية بتطوير عقول البشر، المتخلفين مثلنا، وهم يعبّرون دائماً، وبحماس مفرط، عن قدرتهم على حل المعضلات الصعبة التي يعاني منها مجتمعنا. وهنا، لا أقصد منظمات المجتمع المدني في بلاد الله الأخرى، ولا أزعم المعرفة بواقعها في السويد أو فرنسا أو سواهما، وإنما أكتب عن المجتمع العراقي الذي عمل المحتلون، وتابعهم المحليون، على تفكيكه وإغراقه في حمّى التناحر الطائفي والعرقي والعشائري، وجاءت صورة ما تسمى المنظمات المدنية تمثيلاً له في أسوأ حالات تناحره وتشرذمه. ولذلك، تجرّدت هذه، في غالبيتها، من الهوية الوطنية الجامعة، وتنازعتها هوياتٌ دنيا، انعكست على معظم نشاطاتها، حتى أفقدتها صفة "المدنية" التي يحلو لها أن تسمي نفسها بها.
نلمح في أدبيات هذه المنظمات خليطاً من الأهداف، لا يقدم تصوراً واضحاً، لأن المقصود منه، كما يبدو، التعمية على الأهداف الحقيقية، وإغراق المتلقي في أحجيات وألغاز، مثل "تشجيع قدرات القيادة لدى الشباب، دفع المؤسسات الفكرية للمشاركة في صنع القرار، غرس مهارات القيادة لدى الشباب، توفير العون لترسيخ الديمقراطية، السعي إلى إيقاظ الأمل في نفوس الفقراء، مشاركة النساء في بناء السلام وحل النزاعات، التمكين السلمي لأنهاء العنف ... إلخ".
تموّل جهات دولية هذه المنظمات، لها أهدافها السياسية والاقتصادية والثقافية التي تصب، في النهاية، في غير صالح الأمن الوطني لبلدنا، وقد نشر مرّة، الموقع الإلكتروني لسفارة الولايات المتحدة في بغداد، أنها موّلت 175 منظمة عراقية بما قيمته 75 مليون دولار، جزءاً من ميزانية 740 مليون دولار، خصصت لدعم المجتمع المدني العراقي عاماً واحداً، ولم نسمع كلمة من جهة عراقية، رسمية أو غير رسمية، عن المنظمات التي تسلمت هذه الأموال، وأوجه صرفها.
وقد أقامت الوكالة الأميركية للتنمية ما تسميها "ورشات عمل" و"دورات تدريبية" لـ"إعادة تأهيل المجتمع العراقي" في أكثر من عاصمة غربية، بالتعاون مع منظمات مدنية عراقية، من دون مرورها بالقنوات الرسمية، واختارت المشاركين بشروطٍ خاصة، لتأهيلهم ليكونوا "ناشطين مؤثرين في قطاعاتهم"، وندرك أن لا ضمانات واضحة لرقابة، أو مساءلة، أو شفافية يستطيع المواطن العادي فيها التعامل مع تلك المنظمات التي تزعم خدمته والدفاع عنه.
نسمع، أيضاً، عن حيتانٍ كبيرة، تزعّمت أو وقفت وراء تأسيس منظمات معينة، تسلمت منحاً من جهات دولية، وغادرت العراق بما خفّ حمله، ومن دون حساب. كما نقرأ عن نشاطاتٍ وهمية، أو فعاليات عديمة الجدوى، تقيمها منظماتٌ، ليس لخداع الجمهور فقط، وإنما لخداع مموليها أيضاً، وإلا ما معنى إقامة دورة لتعليم الموسيقى لأطفال قريةٍ نائية لا يحصلون على كفايتهم من الغذاء أو الدواء؟
وعلى هامش الكتابة عن نشاطاتٍ مشبوهة، ترافقنا خشية مشروعة من أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية ربما فعلت في العراق ما فعلته في دول أميركا اللاتينية، عندما موّلت مشاريع وورشات عمل ودورات تأهيل وتدريب لناشطي المجتمع المدني، تحت ستار "عملية تطوير مجتمعات أميركا اللاتينية"، واكتشف المعنيون، لاحقاً، أن الهدف زج هؤلاء في نشاطات وفعاليات متعلقة ببلدانهم، تخدم التوجهات الأميركية في السياسة والاقتصاد والثقافة، وتمتد إلى نشاطات استخباراتية وسياسية.
ومع كل ما نعرفه، ونسمع به، ومع أنني قرأت كثيراً، وكتبت مراتٍ عن منظمات ما يسمى "المجتمع المدني" في العراق، إلا أنني أشعر أن أمامي كومة من القش، يصعب العثور فيها على إبرة.