06 نوفمبر 2024
الحنين إلى زمن أم كلثوم
كنت، مثل غيري من أبناء جيلي، مولعاً بأغنيات أم كلثوم، أحرص على أن لا تفوتني حفلة من حفلاتها التي اعتاد راديو القاهرة نقلها، وعندما عملت في إذاعة بغداد بداية الستينيات، وجدت الفرصة في أن أعطي أغنياتها المكانة التي تستحقها في البرنامج اليومي. ولم يكن عشريني مثلي، وفي مستهل حياته العملية، ليطمح إلى أكثر من ذلك، أما لقاء أم كلثوم والحديث معها، فلم يخطر في بالي أبداً، لكنه حصل في مصادفة حظ، إذ كنت أواسط الستينيات ضمن فريق يتلقى تدريباً في إذاعة القاهرة عندما كلفنا بالتفاوض على حصول التلفزيون العراقي على الحق الحصري لنقل أغنية جديدة لها وتسجيلها، وكان علينا اللقاء بـ"الست"، فقد قيل لنا إنها وحدها التي تبت في أمر كهذا. ذهبت والزميل الراحل المخرج عبد الهادي مبارك، يرافقنا مندوب من التلفزيون المصري، إلى "فيلا أم كلثوم" في الزمالك.
في صالة الاستقبال التي قادنا إليها مهندس الصوت، محمد دسوقي، (عرفنا فيما بعد أنه ابن شقيقتها، ومدير أعمالها) أطلت أم كلثوم بهيئتها المهيبة. لم نصدّق أننا في حضرتها، وأنها تبادلنا الحديث. قالت لنا إنها تحب العراق، وعلى صلة طيبة بأسر عراقية معروفة، وإن التمر والرز العنبر يصلان إليها من بغداد كل عام، وتمنت لو تسنح لها الفرصة لزيارة بغداد مرة أخرى، وكانت قد زارتها مرتين، ثم تركتنا مع دسوقي، موضحة أنه سيتولى التفاوض معنا. أبلغنا أن أم كلثوم تطلب ثلاثين ألف جنيه إسترليني، وأنه "يمكن لكم أن تحولوا المبلغ مباشرة للخزينة المصرية، حيث إن الست تبرعت بكل عوائد العقود الخارجية لدعم المجهود الحربي"، عرفنا فيما بعد أنها خصصت جزءاً مما يصل إليها بالعملة المحلية لإعانة أسر فقيرة من بلدتها طماي الزهايرة.
تصلح هذه الواقعة لمراجعة حكم فيه تعسف، أطلقته فرجينيا دانيلدسون الأميركية المتخصصة في موسيقى الشعوب، كتبت أن أم كلثوم "امرأة أعمال فطينة، كونت نفسها من خلال حسن إدارتها أعمالها التجارية، (...) وكانت تطالب بالكثير في مفاوضاتها المتعلقة بعقودها وارتباطاتها المالية، وكانت تصر على استلام أعلى مورد مالي، من دون أن تتردد أن تكون مفاوضة شديدة البأس، ومن دون أن تخشى أحداً عندما تقول: لا، وقد جنت أجوراً عالية عن أعمالها الفنية". كنت أتمنى لو كانت دانيلدسون أكثر دقة في تمحيص الحكايات التي سمعتها.
رأت أيضاً في أم كلثوم "أسطورة باعتبارها واحدة من الناس، وباعتبارها مصرية حقيقية، ومثقفة عربية، وامرأة ذات روح دينية حقة"، ونقلت عن عالم سياسي مصري قوله "أم كلثوم لم تكن شخصية سياسية، غير أنها بالتأكيد عاشت في بيئة سياسية خالصة. ولذلك، أثار هلع نقادها أنها واظبت على الاعتزاز بالكبرياء الثقافي العربي والمصري، في الوقت نفسه اعتقد بعضهم أن قيم الماضي يجب أن تخضع للنقد. وفي مواجهة مثل هذا النقد، قرّرت أم كلثوم أن تتراجع بصمت إلى صفتها مغنية. ولهذا، لم تعد الصوت السياسي الذي كان المفكرون الإصلاحيون يعقدونه عليها. وعلى الرغم من هذا، كان لأغانيها وقع خاص، لأنها خلقت عالماً عاطفياً، مفاده أن كل شيء كان مناسباً، وأن على المرء أن يترك المستقبل لقدره".
وفي الحالين، تقول دانيلدسون "تبقى أم كلثوم، مثل جمال عبد الناصر، جزءاً من العصر الحلو، المر، الذي مضى، ومن حين إلى آخر، يعبر الناس عن حنينهم إلى الماضي الذي مثلته، كما الحال مع الذين يحنون إلى عبد الناصر"، مضيفة: "الحب والاحترام للاثنين غالباً ما يطفو على قلوب الطبقة العاملة المصرية، لأنهما معا رمزان لقيم وذروة وروح المجتمع والثقافة المصرية، وبما أن هؤلاء المعجبين بأم كلثوم وعبد الناصر يواجهون تحديات اقتصادية حادة، فإنهم يتمنون، اليوم، أن يعيشوا في مجتمع الأمل الذي قدمته الخمسينيات".
وتخلص دانيلدسون إلى أن أم كلثوم تمثل "صوت مصر، وتبدو وكأنها صوت فرد ناجح ومدهش، لكنها كانت أيضاً صوتاً جماعياً، تم بناؤه في فترات تاريخية متعددة"، ونضيف نحن أنها أيضاً كانت صوت العالم العربي كله، بمشارقه ومغاربه، عكست همومه وأحلامه وتطلعاته، في فترة من أخصب فترات التاريخ العربي الحديث، ونالت مكانةً لم تبلغها مغنية عربية حتى اليوم.
في صالة الاستقبال التي قادنا إليها مهندس الصوت، محمد دسوقي، (عرفنا فيما بعد أنه ابن شقيقتها، ومدير أعمالها) أطلت أم كلثوم بهيئتها المهيبة. لم نصدّق أننا في حضرتها، وأنها تبادلنا الحديث. قالت لنا إنها تحب العراق، وعلى صلة طيبة بأسر عراقية معروفة، وإن التمر والرز العنبر يصلان إليها من بغداد كل عام، وتمنت لو تسنح لها الفرصة لزيارة بغداد مرة أخرى، وكانت قد زارتها مرتين، ثم تركتنا مع دسوقي، موضحة أنه سيتولى التفاوض معنا. أبلغنا أن أم كلثوم تطلب ثلاثين ألف جنيه إسترليني، وأنه "يمكن لكم أن تحولوا المبلغ مباشرة للخزينة المصرية، حيث إن الست تبرعت بكل عوائد العقود الخارجية لدعم المجهود الحربي"، عرفنا فيما بعد أنها خصصت جزءاً مما يصل إليها بالعملة المحلية لإعانة أسر فقيرة من بلدتها طماي الزهايرة.
تصلح هذه الواقعة لمراجعة حكم فيه تعسف، أطلقته فرجينيا دانيلدسون الأميركية المتخصصة في موسيقى الشعوب، كتبت أن أم كلثوم "امرأة أعمال فطينة، كونت نفسها من خلال حسن إدارتها أعمالها التجارية، (...) وكانت تطالب بالكثير في مفاوضاتها المتعلقة بعقودها وارتباطاتها المالية، وكانت تصر على استلام أعلى مورد مالي، من دون أن تتردد أن تكون مفاوضة شديدة البأس، ومن دون أن تخشى أحداً عندما تقول: لا، وقد جنت أجوراً عالية عن أعمالها الفنية". كنت أتمنى لو كانت دانيلدسون أكثر دقة في تمحيص الحكايات التي سمعتها.
رأت أيضاً في أم كلثوم "أسطورة باعتبارها واحدة من الناس، وباعتبارها مصرية حقيقية، ومثقفة عربية، وامرأة ذات روح دينية حقة"، ونقلت عن عالم سياسي مصري قوله "أم كلثوم لم تكن شخصية سياسية، غير أنها بالتأكيد عاشت في بيئة سياسية خالصة. ولذلك، أثار هلع نقادها أنها واظبت على الاعتزاز بالكبرياء الثقافي العربي والمصري، في الوقت نفسه اعتقد بعضهم أن قيم الماضي يجب أن تخضع للنقد. وفي مواجهة مثل هذا النقد، قرّرت أم كلثوم أن تتراجع بصمت إلى صفتها مغنية. ولهذا، لم تعد الصوت السياسي الذي كان المفكرون الإصلاحيون يعقدونه عليها. وعلى الرغم من هذا، كان لأغانيها وقع خاص، لأنها خلقت عالماً عاطفياً، مفاده أن كل شيء كان مناسباً، وأن على المرء أن يترك المستقبل لقدره".
وفي الحالين، تقول دانيلدسون "تبقى أم كلثوم، مثل جمال عبد الناصر، جزءاً من العصر الحلو، المر، الذي مضى، ومن حين إلى آخر، يعبر الناس عن حنينهم إلى الماضي الذي مثلته، كما الحال مع الذين يحنون إلى عبد الناصر"، مضيفة: "الحب والاحترام للاثنين غالباً ما يطفو على قلوب الطبقة العاملة المصرية، لأنهما معا رمزان لقيم وذروة وروح المجتمع والثقافة المصرية، وبما أن هؤلاء المعجبين بأم كلثوم وعبد الناصر يواجهون تحديات اقتصادية حادة، فإنهم يتمنون، اليوم، أن يعيشوا في مجتمع الأمل الذي قدمته الخمسينيات".
وتخلص دانيلدسون إلى أن أم كلثوم تمثل "صوت مصر، وتبدو وكأنها صوت فرد ناجح ومدهش، لكنها كانت أيضاً صوتاً جماعياً، تم بناؤه في فترات تاريخية متعددة"، ونضيف نحن أنها أيضاً كانت صوت العالم العربي كله، بمشارقه ومغاربه، عكست همومه وأحلامه وتطلعاته، في فترة من أخصب فترات التاريخ العربي الحديث، ونالت مكانةً لم تبلغها مغنية عربية حتى اليوم.