08 نوفمبر 2024
أزمة "الإخوان" وتداعياتها المحتملة
كما أن عين الشمس لا تُغطى بغربال، كما يقول المثل الشعبي، فإن أزمة جماعة الإخوان المسلمين، بِجُلِّ فروعها، لا يمكن حجبها خلف التصريحات النافية لها، أو المُهَوِّنَةِ من أمرها. تذهب الأزمة، اليوم، إلى أبعد من خلافات تنظيمية حول هوية الجهة القيادية المفوضة، كما في السياق الإخواني المصري، أو الإطار الشرعي للجماعة، كما في السياق الإخواني الأردني، إذ إنها تمس صميم الفكر الإخواني التقليدي والأعراف الراسخة التي قامت عليها.
ولكن، وقبل أن نواصل السياق السابق، لا بد أن نسجل، أولاً، من باب الموضوعية، أن أزمة "الإخوان" ليست منبتة، ولا منفصلة عن القمع الذي تعرّضت له، ولا زالت، من بعض الأنظمة العربية، خصوصاً في مصر. فعملية السحق التي تعيشها الجماعة في مصر هَزَّت أسسها التنظيمية، وَخَلْخَلَت هياكلها المؤسسية، وَشَتَتَت أطرها القيادية وقواعدها التنظيمية ما بين المعتقلات والمنافي والمقابر، دع عنك الهاربين داخل وطنهم من قبضة القمع. وهكذا، فإن الجماعة لا تعمل اليوم في ظروف طبيعية، ولا في مكان واحد، بل إنها محكومة، في الغالب، بردود الأفعال، وتورطت في غياب خيارات عملية للتعاطي مع الواقع المُرِّ الذي ترتب على انقلاب صيف عام 2013. كذلك جماعة الإخوان في الأردن، فهي وإن كان حالها أفضل مئات المرات من حال شقيقتها الكبرى في مصر، غير أنها تجد نفسها، اليوم، في ظل استهداف إقليمي للجماعة، موضوعاً لإعادة الصياغة من النظام ضمن مقاسات واشتراطات جديدة. الأمر الثاني الذي ينبغي تسجيله هنا، أن الجماعة، وكأي حركة "إصلاحية" أو "تغييرية"، تختزن كثيراً من أمراض مجتمعاتها وأنظمتها. فالإخوان، كما غيرهم في الفضاء العربي، بمن في ذلك من يزعمون الليبرالية، لم يتعوّدوا على ثقافة الحوار، والاختلاف في الرأي والمواقف يتحول إلى خلاف وخصومة وتخوين وإقصاء. هذا واقع مرير نعيشه، نحن العرب، لكن كثيرين منا لا يقبل الإقرار به، وتلكم هي المصيبة الأكبر.
.. ما نراه اليوم من خلافات في التنظيمين المصري والأردني، أخطر مما رأيناه سابقا في
خلافات فروع أخرى للجماعة، كما في سورية والجزائر. فإذا كانت خلافات إخوان سورية، غالبا، ما تمحورت على أسس مناطقية وشخصية، وخلافات إخوان الجزائر على أسس شخصية وسياسية، فإن خلافات إخوان مصر والأردن اليوم تذهب أعمق من ذلك وأبعد، إنها تمس ما كان يُظَنُّ أنها "ثوابت" في المدرسة الأيديولوجية الإخوانية. صحيح أن ثمة صراعاً بَيِّناً بين الأجيال في كلا التنظيمين، غير أن اختزال الخلافات في هذا المعطى فيه عسف كبير، ذلك أن صفوف كل طرف من أطراف الخلاف تحوي عناصر من كل الأجيال. ما يحدث، اليوم، في بعض فروع الجماعة، من ناحية، ارتدادات للاستهداف الذي يصل، في بعض الدول، إلى حدِّ الاجتثاث الذي تتعرّض له الجماعة، وعمليات الارتداد هذه من القسوة بمكان أنها عَرَّتْ اختلالات بنيوية وفكرية، كانت تتشكل وتتراكم منذ عقود. وإذا كانت الأطر التنظيمية الصارمة للجماعة قادرةً، في الماضي، على كَبْتِ تلك الاختلالات، فإن ما بعد مرحلة انحسار رياح التغيير العربي، وضعف أداء الجماعة في التعامل معها، إن لم يكن فشلها، كما يرى بعضهم، أو تَفْشِيلها، كما يرى بعض آخر، حَدَّ من قدرة الجماعة على الاستمرار على النهج نفسه. أيضا، وكما أن وسائل التواصل الاجتماعي كانت وسيلة لتنظيم الثورات والحراكات الشعبية ضد أنظمة جور، فإن فضاءها الواسع وقدرتها على الربط المباشر بين الأفراد والأفكار أوجد مساحةً لأبناء الإخوان للتعبير عن آرائهم ومراراتهم نحو الجماعة وقيادتها، بعيداً عن قدرة التنظيم على السيطرة والكَبْت والتوجيه.
في سياق "الثوابت" في التفكير الإخواني التي يتم خلخلة أساساتها اليوم، بشكلٍ ينذر بإعادة صياغة الجماعة من جديد، أو انشطارها إلى جماعات، ثمة اثنان يمسّان هوية الجماعة وجوهرها اللذين قامت عليهما.
يتعلق "الثابت" الأول بِكُنْهِ الجماعة "حركة إصلاحية"، وهو بيت القصيد في سياق الخلافات الإخوانية المصرية الحالية، حيث لا تخفي الهيئتان المتنافستان على أحقية القيادة، وهما ما تبقى من "مكتب الإرشاد"، و"اللجنة الإدارية العليا" للإخوان، ذلك أبدا. فقدامى مكتب الإرشاد، كمحمود حسين ومحمود غزلان، يؤكدون على "السلمية" في مواجهة الانقلاب، انسجاماً مع مفهومهما التقليدي للإخوان "حركة إصلاحية"، أو كما كتب غزلان قبل أشهر: "والذي نريد أن نؤكده، هنا، أن السلمية ونبذ العنف من ثوابتنا التي لن نحيد عنها، أو نفرط فيها، وهي الخيار الأصعب، لكنه الأوفق بإذن الله، وأنها كانت أحد أسباب بقائنا وقوتنا طوال ما يقرب من تسعين عاما". في حين أن "اللجنة الإدارية العليا" المنتخبة بعد الانقلاب والفض الدموي لاعتصام رابعة في أغسطس/آب 2013، تتبنى نهجا "ثورياً" بهدف: "إسقاط النظام العسكري المستبد وتحرير الإرادة الشعبية واستعادة الشرعية والقصاص للشهداء وتحرير المعتقلين والأسرى والأسيرات". وترى "اللجنة" في ذلك "تعبيراً عن روح العصر واستجابة لتطلعات شبابها (الجماعة) وطموحاتهم لجماعتهم وقياداتهم". وعلى الرغم من أن "اللجنة" تؤكد أن تبنيها النهج "الثوري" لا يعني التوجه إلى العنف أو العسكرة، غير أنها لا تقدم تصوراً واضحاً دقيقاً لما تعنيه بذلك، وهو ما يثير حفيظة القيادات التاريخية للإخوان. اللافت في الأمر أن الخلاف الجديد بين الهيئتين بشأن موضوع الناطق الرسمي باسم الجماعة أبان، بوضوح، أن غالبية مكاتب الجماعة ومجالسها وقواعدها، في مصر وخارجها، يتبنون موقف "اللجنة الإدارية العليا" في موضوع "الثورية"، ما يعني أن مفهوم "الحركة الإصلاحية" قد مُسَّ بشكل مباشر.
"الثابت" الثاني في سياق التفكير الإخواني الذي يتعرّض إلى تشكيك ومساءلة اليوم، يتعلق بمفهوم "شمولية الإسلام" الذي يتبناه الإخوان، خصوصا في مسألة رفض الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي، الأمر الذي يؤكد عليه مؤسس الجماعة، حسن البنا. ففي خلافات إخوان الأردن اليوم، ثمّة حديث مباشر من بعض المستائين من قيادة الجماعة الحالية عن ضرورة فصل "الدعوي"، أي الجماعة، عن السياسي، أي حزب جبهة العمل الإسلامي التابع لها. ولا يتردّد بعض هؤلاء في الحديث، صراحة، عن ضرورة فصل الديني عن السياسي في العمل الإخواني، وهو أمر يمكن رصده ومتابعته في سياق النقاشات الحادة الجارية بين أبناء الجماعة على صفحات "فيسبوك". بل إن قيادات في الجماعة الأردنية التاريخية، كإسحاق الفرحان وعبد اللطيف عربيات وحمزة منصور، تفكر بإنشاء حزب سياسي مستقل عن الجماعة الأم، مع إصرارهم على الاحتفاظ بعضويتهم فيها، هذا إن لم تفصلهم قيادة الجماعة الحالية، إن أقدموا على مثل تلك الخطوة.
ثمة "ثوابت" أخرى تعصف بها رياح الأزمة الإخوانية اليوم، وجميعها، في المحصلة، تشير إلى أننا قد نشهد ولادة نسخة إخوانية جديدة، أو تفسخاً وانشطاراً للجماعة قبل حلول عقدها التاسع، وذلك في حال عجزت عن استيعاب التناقضات في صفوفها. المشكلة أن النقاشات الجارية في إطار الجماعة تأتي، من ناحية، استجابة لضغوط وتحديات خارجية، بالدرجة الأولى، وليس بالضرورة نتيجة نضوج داخلي، والأخطر من ذلك أنها لا تتم بعمق واستيعاب كافيين للقضايا محل البحث والجدال. بمعنى أن ما يجري، اليوم، محاولات لتقديم صياغات اعتباطية جديدة لبعض "الثوابت"، من دون تأسيس فكري وفلسفي لازمين وضروريين، ما قد يعني ضحالة في التأسيس والطرح، لن يلبثا أن يسببا انفجاراً لأزمات أخرى في الجماعة ومجتمعاتها. فتحلل الإطار الفكري للإخوان وتآكله سيترك فراغاً يملأه غيرهم، وما إطار تفكير "داعش" إلا خيار واحد، قد يأتي ما هو أسوأ منه.
ولكن، وقبل أن نواصل السياق السابق، لا بد أن نسجل، أولاً، من باب الموضوعية، أن أزمة "الإخوان" ليست منبتة، ولا منفصلة عن القمع الذي تعرّضت له، ولا زالت، من بعض الأنظمة العربية، خصوصاً في مصر. فعملية السحق التي تعيشها الجماعة في مصر هَزَّت أسسها التنظيمية، وَخَلْخَلَت هياكلها المؤسسية، وَشَتَتَت أطرها القيادية وقواعدها التنظيمية ما بين المعتقلات والمنافي والمقابر، دع عنك الهاربين داخل وطنهم من قبضة القمع. وهكذا، فإن الجماعة لا تعمل اليوم في ظروف طبيعية، ولا في مكان واحد، بل إنها محكومة، في الغالب، بردود الأفعال، وتورطت في غياب خيارات عملية للتعاطي مع الواقع المُرِّ الذي ترتب على انقلاب صيف عام 2013. كذلك جماعة الإخوان في الأردن، فهي وإن كان حالها أفضل مئات المرات من حال شقيقتها الكبرى في مصر، غير أنها تجد نفسها، اليوم، في ظل استهداف إقليمي للجماعة، موضوعاً لإعادة الصياغة من النظام ضمن مقاسات واشتراطات جديدة. الأمر الثاني الذي ينبغي تسجيله هنا، أن الجماعة، وكأي حركة "إصلاحية" أو "تغييرية"، تختزن كثيراً من أمراض مجتمعاتها وأنظمتها. فالإخوان، كما غيرهم في الفضاء العربي، بمن في ذلك من يزعمون الليبرالية، لم يتعوّدوا على ثقافة الحوار، والاختلاف في الرأي والمواقف يتحول إلى خلاف وخصومة وتخوين وإقصاء. هذا واقع مرير نعيشه، نحن العرب، لكن كثيرين منا لا يقبل الإقرار به، وتلكم هي المصيبة الأكبر.
.. ما نراه اليوم من خلافات في التنظيمين المصري والأردني، أخطر مما رأيناه سابقا في
في سياق "الثوابت" في التفكير الإخواني التي يتم خلخلة أساساتها اليوم، بشكلٍ ينذر بإعادة صياغة الجماعة من جديد، أو انشطارها إلى جماعات، ثمة اثنان يمسّان هوية الجماعة وجوهرها اللذين قامت عليهما.
يتعلق "الثابت" الأول بِكُنْهِ الجماعة "حركة إصلاحية"، وهو بيت القصيد في سياق الخلافات الإخوانية المصرية الحالية، حيث لا تخفي الهيئتان المتنافستان على أحقية القيادة، وهما ما تبقى من "مكتب الإرشاد"، و"اللجنة الإدارية العليا" للإخوان، ذلك أبدا. فقدامى مكتب الإرشاد، كمحمود حسين ومحمود غزلان، يؤكدون على "السلمية" في مواجهة الانقلاب، انسجاماً مع مفهومهما التقليدي للإخوان "حركة إصلاحية"، أو كما كتب غزلان قبل أشهر: "والذي نريد أن نؤكده، هنا، أن السلمية ونبذ العنف من ثوابتنا التي لن نحيد عنها، أو نفرط فيها، وهي الخيار الأصعب، لكنه الأوفق بإذن الله، وأنها كانت أحد أسباب بقائنا وقوتنا طوال ما يقرب من تسعين عاما". في حين أن "اللجنة الإدارية العليا" المنتخبة بعد الانقلاب والفض الدموي لاعتصام رابعة في أغسطس/آب 2013، تتبنى نهجا "ثورياً" بهدف: "إسقاط النظام العسكري المستبد وتحرير الإرادة الشعبية واستعادة الشرعية والقصاص للشهداء وتحرير المعتقلين والأسرى والأسيرات". وترى "اللجنة" في ذلك "تعبيراً عن روح العصر واستجابة لتطلعات شبابها (الجماعة) وطموحاتهم لجماعتهم وقياداتهم". وعلى الرغم من أن "اللجنة" تؤكد أن تبنيها النهج "الثوري" لا يعني التوجه إلى العنف أو العسكرة، غير أنها لا تقدم تصوراً واضحاً دقيقاً لما تعنيه بذلك، وهو ما يثير حفيظة القيادات التاريخية للإخوان. اللافت في الأمر أن الخلاف الجديد بين الهيئتين بشأن موضوع الناطق الرسمي باسم الجماعة أبان، بوضوح، أن غالبية مكاتب الجماعة ومجالسها وقواعدها، في مصر وخارجها، يتبنون موقف "اللجنة الإدارية العليا" في موضوع "الثورية"، ما يعني أن مفهوم "الحركة الإصلاحية" قد مُسَّ بشكل مباشر.
"الثابت" الثاني في سياق التفكير الإخواني الذي يتعرّض إلى تشكيك ومساءلة اليوم، يتعلق بمفهوم "شمولية الإسلام" الذي يتبناه الإخوان، خصوصا في مسألة رفض الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي، الأمر الذي يؤكد عليه مؤسس الجماعة، حسن البنا. ففي خلافات إخوان الأردن اليوم، ثمّة حديث مباشر من بعض المستائين من قيادة الجماعة الحالية عن ضرورة فصل "الدعوي"، أي الجماعة، عن السياسي، أي حزب جبهة العمل الإسلامي التابع لها. ولا يتردّد بعض هؤلاء في الحديث، صراحة، عن ضرورة فصل الديني عن السياسي في العمل الإخواني، وهو أمر يمكن رصده ومتابعته في سياق النقاشات الحادة الجارية بين أبناء الجماعة على صفحات "فيسبوك". بل إن قيادات في الجماعة الأردنية التاريخية، كإسحاق الفرحان وعبد اللطيف عربيات وحمزة منصور، تفكر بإنشاء حزب سياسي مستقل عن الجماعة الأم، مع إصرارهم على الاحتفاظ بعضويتهم فيها، هذا إن لم تفصلهم قيادة الجماعة الحالية، إن أقدموا على مثل تلك الخطوة.
ثمة "ثوابت" أخرى تعصف بها رياح الأزمة الإخوانية اليوم، وجميعها، في المحصلة، تشير إلى أننا قد نشهد ولادة نسخة إخوانية جديدة، أو تفسخاً وانشطاراً للجماعة قبل حلول عقدها التاسع، وذلك في حال عجزت عن استيعاب التناقضات في صفوفها. المشكلة أن النقاشات الجارية في إطار الجماعة تأتي، من ناحية، استجابة لضغوط وتحديات خارجية، بالدرجة الأولى، وليس بالضرورة نتيجة نضوج داخلي، والأخطر من ذلك أنها لا تتم بعمق واستيعاب كافيين للقضايا محل البحث والجدال. بمعنى أن ما يجري، اليوم، محاولات لتقديم صياغات اعتباطية جديدة لبعض "الثوابت"، من دون تأسيس فكري وفلسفي لازمين وضروريين، ما قد يعني ضحالة في التأسيس والطرح، لن يلبثا أن يسببا انفجاراً لأزمات أخرى في الجماعة ومجتمعاتها. فتحلل الإطار الفكري للإخوان وتآكله سيترك فراغاً يملأه غيرهم، وما إطار تفكير "داعش" إلا خيار واحد، قد يأتي ما هو أسوأ منه.