السادات وما أدراك ما السادات (4)
وأن يمشي على طريق عبد الناصر بأستيكة!
هل تأخر أنور السادات عن حضور جنازة جمال عبد الناصر، لأنه كان مريضا كما قال؟ أم لأنه كان خائفاً من محاولة اغتيال كانت مدبرة له في أثناء الجنازة، كما قال بعض خصومه؟ هل كان السادات صادقاً حين انحنى لتمثال عبد الناصر في أول جلسات مجلس الأمة، أم أن أحداً ما، مثل محمد حسنين هيكل، نصحه بهذه الحركة المسرحية التي كانت بمثابة انحناء أمام عاصفةٍ يعلم أنها ترغب في إطاحته من موقع الرئيس الذي لم يكن يخطر له على بال؟ لا أحد يمتلك إجابات مؤكدة على هذه الأسئلة، لكن المؤكد أن السادات كان يدرك أنه، كما أوصله عبد الناصر إلى مقعد الرئيس مصادفة، فإن عبد الناصر وحده سيكون طريقه الأقوى للبقاء على كرسي الرئاسة، وسط مجموعة من الغيلان المتحكمة في مفاصل الدولة المصرية، وترغب في التخلص منه بأي شكل.
لم يعد سراً الآن أن الكاتب الأزلي الأستاذ محمد حسنين هيكل كان مهندس عملية تثبيت السادات على كرسي الرئاسة، لكن ما يشتهر أكثر لدى بعضهم هو دور هيكل في أحداث 15 مايو/أيار 1971 التي أحكمت سيطرة السلطة على البلاد، وحملت بعد ذلك اسم (ثورة التصحيح)، ولم يبق منها في حياة المصريين، سوى إطلاقها على اسم مدينة مشوهة الملامح وكوبري بالغ القبح. بدأ دور هيكل في مساندة السادات، منذ الأيام الأولى التي أعقبت وفاة عبد الناصر، بعد أن قام بعض رجال عبد الناصر الأقوياء بعمل مناوراتٍ لإقناع السادات بعدم ترشيح نفسه لمنصب الرئاسة، لكيلا ترفضه الجماهير في مظاهرات حاشدة، فيسبب ذلك فراغاً سياسياً خطيراً في البلاد، فما كان من السادات إلا أن التف على مناوراتهم بأن قال لهم: تعالوا نجتمع ونختار اسماً لترشيحه للمنصب. فيما بعد، قال السادات إن هذه المناورات كانت ما دفعه إلى ضرورة ترشيح نفسه لمنصب الرئيس، زاعماً أنه كان في الأصل يفكر في أن يبقي على منصب الرئيس خالياً، احتراماً لمقام عبد الناصر، في حين يظل هو نائباً للرئيس، حتى "إزالة آثار العدوان" على حد تعبيره، ثم يعتزل بعدها، من دون أن يفسر كيف كان سيقوم بإخراج هذه الصورة الدرامية الفريدة من نوعها.
من دون أن يضطر السادات لمواجهة منافسيه، وإثبات أحقيته بالمنصب، قام هيكل بالنيابة عنه بهذا الدور، بعد أن قرّر المراهنة بكل ما يملك من دهاء ونفوذ إعلامي على شخص السادات، ليس حباً فيه، بل لأن كل منافسي السادات الأقوياء، وفي مقدمتهم علي صبري، كانوا يكرهون هيكل بشدة، بسبب علاقته الوثيقة بعبد الناصر التي جعلته أقوى من أن يطوله نفوذهم، وقد شهدت السنوات الأخيرة مناوشات عديدة بين هيكل وبينهم، دفع ثمنها أحياناً بعض المقربين من هيكل من الصحفيين الذين تعرّضوا للأذى الأمني، انتقاماً من هيكل، ولأن كان هيكل يعلم أن هؤلاء لن يرحموه أبداً، إذا انفردوا بحكم البلاد، فقد قرّر أن ينسى كل ملاحظاته السلبية عن السادات، وادّعى في "خريف الغضب" أنه كان يقولها لعبد الناصر، لينزل بثقله الإعلامي والسياسي وراء السادات، حتى يصل إلى منصب رئيس الجمهورية.
ببساطة، قرّر هيكل تسويق السادات شعبياً، بتذكير المصريين أنه كان الرجل الذي اختاره عبد
الناصر بنفسه خلفاً له في حالة وفاته، أو تعرّضه للاغتيال، مؤكداً أن ذلك الاختيار لم يكن بالتأكيد مصادفة، ولا اعتباطا، بل كان وراءه ثقة عبد الناصر في السادات وقدراته. وبالطبع، لم يستطع جميع منافسي السادات أن يعترضوا على ذلك، لكي لا يتهموا بالتقليل من كفاءة الزعيم الخالد، الذي كان ملهماً في اختياراته كلها، فكيف لا يكون ملهماً أيضاً في اختياره خليفته. ولذلك، أصدر علي صبري أوامره لكل رجاله في الاتحاد الاشتراكي، لكي يعبئوا الجماهير في صف السادات، وكذلك فعل الفريق محمد فوزي مع رجال الجيش، والوحيد الذي صدر عنه اعتراض "خجول" على ترشيح السادات، كان حسين الشافعي، الذي اعترض بصفته كان أيضاً يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية، وكان قد حصل عليه في عام 1963، في خطوةٍ كانت بالبلدي أقرب إلى "شلّوت لفوق"، لإبعاده عن ساحة العمل السياسي، وهو ما لم يجعل أحداً يتعامل مع اعتراضه بجدية، لكن حسين الشافعي بعد ذلك وافق، بعد أن حصل على وعد بتوليه منصب رئاسة الوزراء، فلمّا لم يحصل عليها فيما بعد، قدم استقالته من منصب نائب الرئيس، ثم سحب الاستقالة بعد ذلك بيوم، لتدور الأيام، ويروي بعد رحيل السادات، أنه، ذات يوم، طلب من عبد الناصر أن يعين السادات نائبا لرئيس الجمهورية، فقال له عبد الناصر "جرى لك إيه يا حسين، إنت عايز الناس تاكل وشي"، كما اتهم الشافعي علي صبري ومجموعته بأنهم وافقوا على تعيين السادات رئيساً، فقط لأنهم تصوروا أنهم سيتمكنون من السيطرة عليه، بما يمتلكونه من تسجيلات ضده.
لم يوضح الشافعي طبيعة تلك التسجيلات، كما لم يقل لماذا لم ينجح علي صبري، ومن معه، في استخدامها، حين انقلب عليهم السادات، خصوصاً وهم يستطيعون تهريبها إلى الخارج مثلاً، لكنه كان محقاً في القول إن علي صبري وباقي رجال عبد الناصر ظنوا أن السادات لقمة سائغة يسهل افتراسها، وقد كان هذا الظن شائعاً في أروقة الحكم وقتها، وإن كان هيكل يؤكد أنه قال لبعضهم (لم يذكر أسماءهم) أن من يتصورون أن السادات يسهل التأثير عليه مخطئون، لأن السادات يذكّره بنموذج مصطفى النحاس الذي خلف سعد زغلول على رئاسة حزب الوفد، فتصوره كثيرون ضعيفاً، سيسهل السيطرة على "الوفد" من خلاله، لكنه كان أقوى مما تصور الجميع، وقام بتحجيم سلطات منافسيه، واحداً تلو الآخر.
صراعات مكتومة
حصل السادات بسهولة شديدة في الاستفتاء الرئاسي على أغلبية قدرها 90,40%، وخلال الأربعين يوماً الأولى التي تلت رحيل عبد الناصر، قرّر أن يبدأ إظهار أنيابه، بتوجيه رسالة بسيطةٍ، مفادها بأنه لن يكون عند حسن ظن منافسيه فيه، حيث رفض قراءة مجموعة من تقارير مراقبة المكالمات التليفونية التي كانت ترفع بشكل منتظم لجمال عبد الناصر، وأصدر قراراً بإلغاء المراقبات التليفونية، أحدث دوياً شعبياً، وكما يرصد رشاد كامل في كتابه (مؤامرة ومغامرة 15 مايو)، فقد أغضب القرار منافسي السادات الذين سيحملون، بعد ذلك، لقب "مراكز القوى"، وكان في مقدمتهم علي صبري وشعراوي جمعة وسامي شرف والدكتور لبيب شقير رئيس مجلس الأمة والفريق محمد فوزي ابن خالة سامي شرف الذي كان قد ترقى، قبل وفاة عبد الناصر بأشهر، من منصب سكرتير رئيس الجمهورية للمعلومات، إلى منصب وزير شؤون رئاسة الجمهورية. بالمناسبة، يقول سامي شرف لعبد الله إمام في كتاب "عبد الناصر كيف حكم مصر"، إن السادات طلب منه عدم إيقاظه بعد التاسعة مساء لأي ظرف، حتى لو كان هناك تطور سياسي خطير، في حين يروي هيكل أن السادات رفض قراءة المجموعات الضخمة من الأوراق والتقارير الرسمية والملخصات الصحفية التي كان يتلقاها عبد الناصر كل يوم، قائلا لمساعديه "عايزين تقتلوني زي ما قتلتم عبد الناصر بالورق ده"، ليبدأ، بعد تلك العبارة، أسلوب مختلف في العمل، يعتمد على الكلام والحديث، أكثر من اعتماده على الأوراق والأقلام.
في يوم 16 نوفمبر/تشرين ثاني 1970، قرّر هيكل، بتنسيق مع السادات، أن يوجه ضربة
لمجموعة مراكز القوى التي بدأ عداؤها السادات يتصاعد بشكل ملحوظ، فنشر في "الأهرام" مقالا بعنوان "عبد الناصر ليس أسطورة"، كان أخطر ما فيه تأكيده أن عبد الناصر لم يكن له خلفاء ولا صحابة. وبالطبع، كان ذلك الكلام موجهاً لمناوئي السادات الذين يكتسبون شرعيتهم من كونهم كهنة معبد عبد الناصر وحرّاس دولته، وقد وصلت الرسالة إلى هؤلاء سريعاً، فأثاروا ردود فعل عنيفة، كان أبرزها مناقشة لبيب شقير رئيس مجلس الأمة المقال بحدة في اجتماع رسمي، ليفاجئ السادات حضور ذلك الاجتماع، باستدعاء هيكل لحضور تلك المناقشة، ليقول رأيه رداً على لبيب شقير، وهو ما أثار ردود فعل غاضبة، كان أعنفها من الوزير السابق والقيادي في "الاتحاد الاشتراكي"، ضياء الدين داود، الذي اعترض، صراحة، على استدعاء صحفي أو رئيس تحرير أيا كان، لمناقشته في اجتماع عالي المستوى، ولم يكن هيكل وقتها قد تم تعيينه وزيراً للإعلام. والمضحك أن هجوم ضياء الدين داود على هيكل كان وراءه حزازات شخصية، لأن هيكل كان، قبل ذلك بفترة، قد "لطعه" نصف ساعة في مكتبه قبل أن يقابله، فاشتكاه ضياء لعبد الناصر الذي عاتب هيكل على ذلك.
يعلق موسى صبري على واقعة الاعتراض على مقال هيكل، بدلاً من تجاهله، بأن المقصود منها لم يكن شخص هيكل، بل كانت محاولة لإرهاب السادات، عبر أبرز حلفائه وقتها، لكن تلك الواقعة جعلت هيكل يساند السادات بكل ما أوتي من قوة، حتى أنه قبل بعدها بتعيينه وزيراً للإعلام فترة وجيزة جداً، ثم أشرف بعدها، أيضاً، على وزارة الخارجية، في غياب وزيرها محمود رياض، وهو الذي كان دائم العزوف عن المناصب الرسمية، لكنه أدرك أن المعركة تقتضي أن يكون إلى جوار السادات، في موقع لم يقبله من قبل أيام عبد الناصر، لأنه ببساطة "يا روح ما بعدك روح". وبالطبع، لم يسكت السادات على ما قام به لبيب شقير وضياء داود، حيث وجه لهما ضربة قوية، حين أصدر قراراً بتصفية الحراسات، من دون الرجوع إليهما، بعد أن كان قد طلب إنجاز القرار في البداية منهما ومن سامي شرف، فاتبعوا معه سياسة الطناش التام، ليكلف السادات الدكتور جمال العطيفي بإعداد القرار، ويأمر بتوزيعه على الصحف في 29 ديسمبر/كانون أول 1970، ليصبح واضحاً لمجموعة مراكز القوى أن السادات ليس سهلاً أبداً، كما ظنوه، وأن المواجهة معه أصبحت حتمية.
في الوقت نفسه، كان رئيس تحرير مجلة الهلال، رجاء النقاش، قد اقترح على رئيس مجلس إدارة دار الهلال، أحمد بهاء الدين، إعادة طبع كتب السادات التي كانت قد صدرت عن دار الهلال بعد ثورة يوليو، وتطوع أحمد بهاء الدين بأن يقول للسادات إنه من الأفضل تلخيص تلك الكتب في كتاب واحد، وحذف ما لا يليق نشره بعد وصول السادات إلى منصب رئيس الجمهورية، ولم يكن السادات، فيما يبدو، بحاجة إلى ملاحظة أحمد بهاء الدين، ليدرك أن كتبه القديمة لم تعد صالحةً لوضعه الجديد، لأنه لم يكتف بتجميد مشروع الكتاب الذي اقترحه بهاء الدين، بل تم سحب كل نسخ كتبه القديمة من السوق، وفي مقدمتها كتابا "صفحات مجهولة" و"يا ولدي هذا عمك جمال" الذي كان مقررا في المدارس فترة. بالمناسبة، ينبهنا رشاد كامل إلى أن "صفحات مجهولة" كان قد تعرض للتشويه في عهد عبد الناصر، حيث تم حذف فقرة من مقدمةٍ كان قد كتبها عبد الناصر في الطبعة الأولى للكتاب، كانت تتضمن مدحاً في السادات، ليتم حذفها بشكل مفاجئ، حين أعيد طبع الكتاب سنة 1957، وبالطبع لم يكن ليجرؤ أحد على فعل ذلك، من دون أمر من عبد الناصر، كما لم يكن ممكناً، فيما بعد، أن يسحب أحد كتب الرئيس السادات القديمة من المكتبات، من دون أمر منه.
أعداء أنور
ظلت صراعات السادات مع رجال عبد الناصر مكتومةً تدور تحت السطح، حتى تفجرت وخرجت إلى السطح، حين أعلن السادات في 4 فبراير/شباط 1971 مبادرة وقف إطلاق النار التي يقول عنها "لم أخبر أحداً من مراكز القوى بمبادرتي هذه، ففوجئوا بها يوم أعلنتها، فأصيبوا بوجوم شديد"، لكن الأمر لم يقتصر على الوجوم هذه المرة، فكما يروي المهندس سيد مرعي، في الجزء الثالث من مذكراته أو أوراقه السياسية، فإن المعارضة العلنية بدأت بعد خطاب السادات مباشرةً، بكلمات امتعاضٍ، قالها علي صبري أمام الجميع، ثم تطور الأمر أكثر في جلسة عاصفة لمجلس الدفاع الوطني، كانت مخططة لبحث مواصلة حرب الاستنزاف، قال خلالها وزير الحربية، الفريق محمد فوزي، لرئيس الأركان الفريق محمد أحمد صادق، أن السادات خرج عن الخط، وأن جميع القادة أصبحوا يخشون أن ينقلب عليهم.
في مذكراتها، تكشف جيهان السادات مفاجأةً، مفادها بأن مبادرة وقف إطلاق النار كانت في
الأصل أخطر من ذلك بكثير، حيث اقترح السادات، في ذلك الوقت المبكر، (مطلع 1971) التوقيع على اتفاقية سلام مع إسرائيل عن طريق الأمم المتحدة، وربما كان السادات قد سمع من عبد الناصر أنه كان يفكر في عقد سلام مع إسرائيل، وهو ما كشفه الصحفي الفرنسي إريك رولو في مذكراته التي صدرت أخيراً بالعربية، (سأعرض بعض ما جاء فيها لاحقاً بإذن الله). ولذلك، فكّر السادات أن يذهب إلى أبعد مدى في حسم الصراع مع إسرائيل، لكنه أدرك أن تفكيره سيقابل بمعارضة عنيفة من رجال عبد الناصر، فقام بتعديله إلى مبادرة لوقف إطلاق النار. ومع ذلك، تعرضت المبادرة للرفض العلني، بشكل لم تكن قد تعودت عليه مصر من قبل، ليسود الساحة السياسية مناخ من الحذر والترقب، تصوّره جيهان السادات بقولها: "وحين شعر أعداء أنور بالرعب من هذا الاقتراح، فقد بدأوا في مضاعفة جهودهم للتشكيك فيه".
قبل أن يحل يوم 1مايو الذي كان مفترضاً فيه أن يلقي السادات خطاباً بمناسبة عيد العمال، طلب السادات من هيكل، كاتب خطبه في ذلك الحين ولفترة لاحقة، أن يعد له فقرة خاصة في الخطاب عن مراكز القوى، فرفض هيكل، ورجا السادات أن يكتب بنفسه الفقرة، لكي يتحمل السادات مسؤوليتها، حين تثير مشكلة، فقرّر السادات ألا يكون في الخطاب شيء عن مراكز القوى، لكنه حين وصل إلى مجلس الشعب ليلقي خطابه، وجد القاعة مليئة بصور ضخمة لعبد الناصر، ففهم الرسالة الموجهة إليه من رجال عبد الناصر المطل بشبحه على المكان، وقرّر أن يرد عليهم وعلى عبد الناصر أيضا، بارتجال فقرة حادة اللهجة عن مراكز القوى التي سيسقطها الشعب. وفي صباح اليوم التالي، كما يروي موسى صبري في كتابه "السادات الحقيقة والأسطورة"، اتصل السادات بسامي شرف، ليطلب منه نشر إقالة علي صبري نائب الرئيس، في سطر ونصف ببنط صغير في الجرائد اليومية، ليوجه علي صبري بدوره في يوم 3 مايو رسالة إلى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي، يقدم فيها استقالته من اللجنة التنفيذية العليا، ولم تكن تلك الاستقالة إذعاناً أمام سلطة السادات، بقدر ما كانت إعلاناً عن تصعيد الصراع معه.
لكن تطورات الصراع ظلت مكتومة تحت السطح، حتى جاء يوم 13 مايو، الذي يروي السادات أنه علم فيه بتدبير كمين له في مديرية التحرير التي كان على وشك زيارتها، حيث جاءه ضابط بوليس شاب بتسجيلات تليفونية، تكشف وجود مؤامرة لتصفيته في الزيارة، ليقرّر السادات، على الفور، البدء بإقالة وزير الداخلية شعراوي جمعة، وتعيين ممدوح سالم بدلا منه. وفي اليوم نفسه، جاءه أشرف مروان (مدير مكتب سامي شرف، وزوج منى ابنة عبد الناصر، والمقرب من السادات بشدة بعد ذلك) حاملاً إليه استقالات رئيس مجلس الأمة ووزير شؤون رئاسة الجمهورية وعدة أعضاء من اللجنة المركزية العليا، قائلا له إن هذه الاستقالات تهدف لإحداث انهيار دستوري وسياسي في البلد، لكن السادات قبل الاستقالات جميعها متحدياً، وأجرى، على الفور، تعديلاً وزارياً كلف فيه محمد عبد السلام الزيات بمنصب وزير الإعلام، وطلب منه تأمين مبنى الإذاعة والتلفزيون، وكلف سيد مرعي بمهمة إسقاط العضوية عن رئيس المجلس والأعضاء والمؤيدين لمراكز القوى، في جلسة عجيبة التفاصيل، حضرها 52 عضواً من 360 عضواً، حيث كان أغلب الأعضاء يراهنون على أن السادات "الطري" سينهزم أمام جبابرة دولة عبد الناصر. وبالطبع، ندم كثيرون منهم، حين خسروا الرهان.
يروي وزير الخارجية، محمود رياض، في مذكراته، إنه كان يرى إعلان الاستقالات خطأً جسيماً، ساعد السادات على حسم الصراع لمصالحه، قائلا إنه نصح سامي شرف بعدم تقديم استقالته، ومع ذلك صمم على الاستقالة، إذ كان الجميع يتصورون أن السادات سيهتز بشدة، فور وصول الاستقالات إليه، لكن ذلك لم يحدث، بل على العكس وجدها السادات فرصة سانحة للتخلص من خصومه، وهو لا يزال محتفظاً بشرعيته الانتخابية، لتنزل قراراته كالصواعق على رؤوس الجميع، وربما كان السادات محظوظاً بأن كبار الكتاب الصحفيين كانوا من كارهي رجال عبد الناصر، بسبب تدخلاتهم المستمرة في الصحافة. ولذلك، ساعدته ردود أفعال كبار الكتاب على تسويق قراراته شعبياً، حيث اختار إحسان عبد القدوس عقب صدور القرارات لمقاله عنوان "الله والشعب معه"، وكتب عبد الرحمن الشرقاوي تحت عنوان "وسقطت عصابة الإرهاب"، في حين صك موسى صبري مصطلح "ثورة مايو" الذي أعجب السادات جدا، فاعتبر، منذ تلك اللحظة، أن ما حدث كان ثورة جديدة، قادها لتصحيح مسار ثورة يوليو، وراح يحتفل بذلك اليوم من كل عام، ليعلن تباعده مع ثورة يوليو شيئاً فشيئاً، ويكرس ثورته الخاصة التي وقعت في ذلك اليوم الذي استولى فيه على مقاليد الحكم كاملة.
ولكن، يظل هيكل صاحب أبرز دور في مساندة السادات في ذلك اليوم العصيب، فقد كان أول
من دعاه السادات للتشاور معه، فور أن وصلت إليه أنباء مؤامرة التخلص منه، ليظل معسكِراً مع السادات حتى انتهت الأزمة، وربما لو كان يعلم مصيره لاحقاً لما كان قد فعل ذلك، هو وكل من ساندوا السادات ذلك اليوم. دعونا نستشهد، هنا، بما ذكره الدكتور غالي شكري في كتابه "الثورة المضادة في مصر"، حين اعتبر أن "أدوات السادات في انقلابه كانوا أربعة هم: هيكل وقائد الحرس الجمهوري الليثي ناصف ومحمد أحمد صادق وممدوح سالم، ولأن الأداة يمكن الاستغناء عنها في أية لحظة، فقد طرد الفريق صادق من منصبه، وأحيل إلى المحكمة، وكاد يساق إلى السجن، لولا وقف التنفيذ، أما الليثي ناصف فقد انتحر أو نحروه في لندن، في حادث غامض لم تتضح أسبابه كاملة حتى الآن، وأخرج هيكل من "الأهرام" بعد دوره مع السادات بحوالي عامين. أما الواجهات التي اختارها السادات لتغطية انقلابه، مثل محمود فوزي ومحمد عبد السلام الزيات وفؤاد مرسي وإسماعيل صبري عبد الله، فقد تم التخلص منهم أيضاً، بينما بقيت الوجوه صاحبة المصلحة في التغيير تتزحزح عن مكانها، بل وانعقدت ما بينها المصاهرات العائلية، كعثمان أحمد عثمان وسيد مرعي ومحمد عثمان إسماعيل وحامد محمود".
بداية العصر الأميركي
كان أول قرار سياسي كبير اتخذه السادات بعد انفراده بالحكم توقيع معاهدة للصداقة مع الاتحاد السوفيتي، على الرغم من إزاحته رجال عبد الناصر الذين كانوا يوصفون بأنهم "أعوان السوفييت" من السلطة، وكانوا يتهمون هيكل، مثلاً، بأنه يقوم بتثبيط معنويات المصريين لمصلحة الأميركان، أثار قرار السادات دهشة الأميركان الذين أنابوا، طبقا لما يرويه هيكل، الملك فيصل بن عبد العزيز وكمال أدهم المشرف على المخابرات السعودية، لإجراء اتصالات مع السادات، لاستمالته إلى الجانب الأميركي، وإقناعه بفوائد التواصل مع أميركا، وفي حين أن تفاصيل تلك الاتصالات لم تكشف كاملة حتى الآن، إلا أن الواقع يؤكد أنها كانت مثمرة للغاية بالنسبة للأميركان، فبعد حوالي عام من عقد السادات اتفاقيته مع السوفييت، أعلن في يوليو/تموز 72 طرد الخبراء السوفييت من مصر، بحجة تأخير السوفييت إمدادات السلاح، ليسارع السوفييت إلى إمداده بالسلاح بشكل لم يسبق له مثيل، من دون أن تتم إعادة الخبراء السوفييت، بل وتتم بعدها إقالة وزير الحربية، الفريق صادق، الذي كان قد عارض قرار طرد الخبراء السوفييت، ويأتي بدلاً منه في 15 أكتوبر/تشرين أول 1972 الفريق أحمد إسماعيل (المشير فيما بعد)، في وقت كان الشارع المصري فيه يغلي بسبب مظاهرات الطلاب والعمال، والتي توجت بإصدار كتابٍ ومثقفين بياناً تاريخياً أغضب السادات، يعلنون فيه رفضهم حالة اللا حرب واللا سلم التي جعلت البلد يعيش أجواء عصيبة وضاغطة على النفوس.
يروي هيكل الذي كان يلتقي السادات باستمرار، في تلك الفترة، أن السادات كان يمر بحالة
نفسية سيئة، ويخاف من انفجار البلد، بسبب تحركات الطلبة والعمال في الشارع. كان السادات قد أرسل في فبراير/شباط 1973 مستشاره للأمن القومي، محمد حافظ إسماعيل، إلى واشنطن، للقاء مع الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، ثم لعقد لقاء سري مع هنري كيسنجر، تلاهما بعدة أشهر لقاء للسادات مع ديفيد روكفيلر في 23 سبتمبر/أيلول 1973، ليخرج السادات، من حصيلة تلك اللقاءات، بأنه لا يملك سبيلاً آخر سوى الحرب، لأن الأميركان لن يستطيعوا دفع الإسرائيليين إلى عقد سلام حقيقي وجاد.
لم يكن السادات، قبل اندلاع حرب أكتوبر، يتصور أن الجيش المصري سيحقق كل ذلك النجاح، إلى درجة أنه قال لهيكل، قبل الحرب مباشرة، إن الشعب المصري لن يستطيع أن يلومه، لو هزم في أي حرب قادمة. وربما لذلك قرّر، في آخر لحظة، أن ينفذ خطة جرانيت 1 التي تهدف إلى عبور قناة السويس واقتحام خط بارليف والاحتفاظ بخمس رؤوس كباري على الضفة الشرقية، بعد أن كان قد قال للسوريين إنه سينفذ خطة جرانيت 2 التي تهدف للوصول إلى المضايق، لأنه خشي، لو عرف السوريون، أنه سيكتفي فقط بعبور القناة، وتأمين من 12 إلى 15 كيلومتر شرق القناة، فإنهم لن يشتركوا حينها في الحرب، لكن بطولات الجيش المصري المدهشة، في الأيام التي تلت عبور القناة وتحطيم خط بارليف، دفعت السادات إلى التخطيط للمرحلة الثانية من الحرب متأخراً، بعد ستة أيام من بدء الهجوم، في وقت كانت إسرائيل قد تمكنت فيه من تجاوز الصدمة، وبدأت تطوير رد فعلها، لتحدث ثغرة الدفرسوار التي كانت بداية خذلان السياسة السلاح، طبقا لتعبير هيكل الذي يمكن أن تختلف معه في كثير من تحليلاته وقائع ما جرى في أكتوبر 73، لكنك لا يمكن، خصوصاً بعد قراءة مذكرات قادة الحرب المصريين، مثل الفريق سعد الدين الشاذلي والمشير محمد عبد الغني الجمسي وغيرهما، وقراءة الوثائق الإسرائيلية والأميركية التي نشرت أخيراً، أن تنكر حقيقة مؤسفة، هي أن تخبط القرار السياسي وعدم الارتفاع إلى مستوى النصر العسكري المذهل، كان له أثر كبير في أن يفرض الإسرائيليون واقعاً عسكرياً على الأرض، جعل موقفهم السياسي أقوى في المفاوضات التي تلت الحرب.
كما يقول غالي شكري، كانت "المسافة بين الوجه العسكري المشرف للحرب والوجه السياسي كانت مظلمة"، ففي حين استطاع السادات تكريس شرعيته قائداً منتصراً، استطاع الأميركان تكريس دورهم وحضورهم في المنطقة، للسيطرة فيما بعد على موارد النفط. واستطاع الإسرائيليون استعادة زمام المبادرة الاستراتيجية، لتتكفل المفاوضات بترويض النصر بشكل لم تتضح أبعاده لعموم المصريين، إلا في السنوات الأخيرة، حين تزايدت حوادث الإرهاب في سيناء، وبدأ المصريون يكتشفون أن سيادة مصر على سيناء منقوصة، بحكم معاهدة كامب ديفيد التي صفق لها الملايين، من دون أن يدركوا تفاصيلها، ومن دون أن توفر لهم السلطات حق المعرفة، ليتسنى لهم رفضها أو تأييدها عن علم كامل، حتى جاء اليوم الذي اكتشفوا فيه أن الجيش المصري لا يستطيع التحرك في سيناء، إلا بإذنٍ من الإسرائيليين وبتنسيق معهم، وهي أكذوبة لا يمكن فصلها عن أولى أكاذيب الحرب التي أطلقها السادات، حين قال إن الثغرة كانت عملية تلفزيونية، كان يستطيع تصفيتها، لكنه لم يفعل ذلك، ليتفادى قتل ولو فرد واحد "من شعبي وقواتي المسلحة"، لينتظر المصريون سنين طويلة، حتى يعرف بعضهم حقيقة ما جرى في تلك الأيام العصيبة، فيما لا يزال أغلبهم يظنون أنه ليس من حق الشعب أن يعرف تفاصيل ما تقوم به قواته المسلحة، لأن معرفته ستضر بالأمن القومي، مع أن أمنه القومي لن يحميه إلا كون الشعب مطلعاً على ما يقوم به جيشه، لكي يسهل محاسبة المقصّر، ولكي يتم تطوير الأداء بشكل يمنع وقوع الثغرات والهزائم في المستقبل.
عصر الأستيكة
كانت هناك تفاصيل عسكرية وسياسية، تنتقص من بهاء نصر أكتوبر وكماله، لكن السادات، مهما حاول بعضهم أن يسلبه حقه، كان زعيماً منتصرا بكل المقاييس، لكنه، للأسف الشديد، وبدلاً من أن يتخذ من انتصاره سبيلاً لنشر الحرية والديمقراطية الحقيقية والعدالة والمساواة، بقراراتٍ تغير وجه مصر إلى الأبد، استجاب للعنة الفرعنة في وقت قياسي، وهو ما جعله يقول، مثلاً، للرئيس الأميركي جيمي كارتر "الناس ينظرون إلي على أنني خليفة لجمال عبد الناصر، وذلك ليس صحيحاً، فأنا لا أحكم مصر طبقاً لأسلوبه. ولكن، أحكمها طبقا لأسلوب رمسيس الثاني، وذلك ما يفهمه الشعب المصري بطبيعته، وما يريده". ولأن الفرعون يعتقد دائماً أن شعبه يريد كل ما يفعله، فقد أخذ السادات يفعل كل ما يريده، ولم يكن غريباً، في ظل عقلية كهذه، أن تظهر تفاصيل صغيرة، لكنها شديدة الدلالة على طبيعة المرحلة، مثل إزالة صور عبد الناصر من على مبنى السد العالي، إرضاء لشاه إيران، الزميل الجديد في نظام الشرق الأوسط الذي ترعاه أميركا، والذي لم يكن يحب عبد الناصر، لتظهر في تلك الفترة نكتة تسخر من الشعار الذي أعلنه السادات في عامه الأول في الحكم "سأمشي على عبد الناصر"، حيث أضاف المصريون إلى الشعار كلمة "بأستيكة".
لكن المسألة أصبحت، في وقت قياسي، أبعد من فكرة معاندة حاكم سابق، لكي لا يعيش الحاكم الحالي في ظله، لأن سياسات السادات الاقتصادية التي رفعت شعار (الانفتاح) فرضت واقعاً كارثيا على البلاد، وهو ما جعل كاتباً هادئ النبرة، مثل الأستاذ أحمد بهاء الدين، يطلق عليها وصفاً بليغا هو "انفتاح السداح مداح"، حيث بدأت البلد تعتمد أكثر على المساعدات والمعونات والمنح والقروض الميسرة وغير الميسرة، ليزيد حجم الديون على مصر بشكل مخيف، وتجري عملية تفكيك القطاع العام بدعوى التحديث، من دون أن يحصل أي تحديث فعلي له، وتنفتح مصر أمام كل المغامرين من رجال الأعمال من أنحاء الدنيا، كما لم يحدث من قبل إلا أيام الخديوي إسماعيل، وبسبب غياب أي رقابة رسمية أو شعبية. رافق ذلك كله حدوث وقائع فساد رهيبة، جعلت تعبير "القطط السمان"، الذي كان يستخدمه بعض منتقدي سياسات الدولة، يرد على لسان أشخاص موالين للدولة، لم يعد في مقدورهم إنكار الواقع، بل وتتحول القطط إلي أبقار سمان، حسب وصف رئيس الوزراء ممدوح سالم شخصياً، ويتورط أقارب السادات وأصهاره وحلفاؤه في قضايا فساد (لم تنكشف تفاصيلها كاملة إلا في عهد خليفته، على طريقة الفراعنة) لتدخل مصر في حالة من العشوائية الاقتصادية المخيفة، جعلت السادات، مثلاً، يعلق على ارتفاع أسعار الأراضي العقارية بقوله إن "مصر ارتفع ثمنها، وبقى لها قيمة"، من دون أن يدرك خطورة تصريحه، وآثاره السلبية في بلد أصبحت رقعته الزراعية مهددة بحمى السعي إلى تجريف الأراضي الزراعية لبيعها، بعد أن "بقى لها قيمة".
نختم غداً بإذن الله.