09 نوفمبر 2024
سورية .. تحدّيات "اليوم" قبل مهام "اليوم التالي"
يعكس "مشروع خطة الانتقال السياسي في سورية" قدراً كبيراً من الشعور بالمسؤولية الوطنية تجاه الشعب السوري والوطن والدولة، في ضوء المحنة المريرة التي يتجرعها هذا الشعب كل يوم، بل كل ساعة، عقاباً له على نشدانه الحرية والكرامة، أسوةً بباقي شعوب المعمورة. المشروع الذي أنجزته "مجموعة الخبراء السوريين"، بالتشاور والتنسيق مع قوى الثورة والمعارضة، وفصائل وطنية مسلحة، ومع قطاعات من المجتمع المدني وشخصيات مستقلة، يُمثّل، إلى ما تقدم، وثيقة مهمة تشتمل على خطة تفصيلية لانتقال سياسي يضمن عبور مرحلة جديدة في حياة الشعب والبلاد والدولة، بما ينزع مخاطر الاحتراب والتنازع الخطير، ويملأ أي فراغ محتمل، ويمنح أفقاً لمشاركةٍ ملموسةٍ يُمارس فيها الشعب، بمختلف تلاوينه ومذاهبه ومشاربه، وفي سائر المناطق، حقوقه الأساسية التي طالما تم هدرها، والقفز عنها، منذ نحو خمسة وأربعين عاماً، في وضع الدستور وقوانين تنظيم الحياة السياسية (الأحزاب والانتخابات خصوصاً) واختيار ممثليه في أجواء من النزاهة وتكافؤ الفرص، وأفضل المعايير الدولية للحاكمية الرشيدة التي تخضع لمراقبة شعبية، وتوفر لبرلمان منتخب حق التشريع بما يتلاءم مع فحوى الدستور، ومع التطلعات الوطنية لحياة مدنية مزدهرة، وتنمية شاملة، تعيد بناء ما هدمته آلة الحرب.
جديرٌ بالملاحظة أنه، بينما تبدي المعارضة، بطيفها الواسع وتلاوينها المختلفة، هذا القدر من الانشغال العميق بمستقبل البلاد، والتحذير من مخاطر صراع مفتوح، يفتك بالمزيد من السوريين، ويُقوّض ما تبقى من مظاهر الحياة والعمران والإنتاج، فإن الطرف الآخر، وهو النظام، ينهمك فقط في استجلاب قوى أجنبية متعددة، تضم دولاً ومليشيات مسلحة وطائفية، من أجل تصفية كل مظاهر المعارضة، ومكوناتها البشرية والمادية، حتى لو أدى ذلك الى تحويل البلاد، لا سمح الله، قاعاً صفصفاً، ينعق فيه الخراب والخواء، تحت عنوان "أولوية هزيمة الإرهاب". والهزيمة المقصودة تعني اقتلاع الملايين من بيوتهم وديارهم وقذفهم خارج الحدود، والزجّ بعشرات الآلاف وراء القضبان، وتقتيل مئات الآلاف، أو تعريضهم لإصابات جسمانية بليغة، وتدمير الاقتصاد بمختلف مناشطه، وتعريض الدولة للإفلاس، والتسبب بتفكيك المؤسسة العسكرية، مع منح من يبقى من المعارضين، بعدئذٍ، بضعة مقاعد وزارية في حكومة "موسعة" (بديلاً عن هيئة الحكم الانتقالي)، وإشراف النظام الحالي على وضع دستور جديد، وعلى تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية، بغير تدخل خارجي (بدون إشراف الأمم المتحدة وغيرها من أطراف وهيئات دولية). بما يعني إعادة إنتاج الاستبداد والاستعباد، واستكمال ذلك بالتحذير الرسمي من خلايا نائمة للمعارضة (معارضون صامتون!)، يتم سوق أفرادها مجدداً إلى السجون.
يقرن "مشروع خطة الانتقال.." بين أهمية التغيير، وفقاً لمرجعية جنيف، وتوطيد السلم الأهلي، وإغلاق الأبواب أمام أية نزعة محتملة للثأر وتصفية الحسابات، مع تفعيل العدالة وإرساء دولة القانون، فيما ينزع النظام فقط إلى استعادة سطوته وتعميمها.
لن يتطرق هذا المقال لمناقشة جوانب من مشرع الخطة، فتلك مهمة أولي الأمر من السوريين، على اختلاف ميولهم ورؤاهم ومصالحهم المباشرة والبعيدة، إذ ما يسترعي انتباه المراقب المعني أن المشروع اكتفى بتناول آفاق مرحلةٍ ليس الولوج إليها وشيكاً وقريباً للأسف، وهذا لا يُقلل، بالطبع، من أهمية المشروع الذي يستجيب، بصورة إيجابية وعصرية، لتحدي إعادة بناء الدولة والوطن، ووضع حد للمعاناة الرهيبة لملايين السوريين داخل الوطن وخارجه، فيما الراهن والآني يزخر بتحديات جسيمة وداهمة، لا بد من الاستجابة الناجعة لها بأقل قدرٍ من الأخطار والأضرار، وبما يفتح أفقاً للحل السياسي العتيد.
في طليعة هذه التحديات التدخل العسكري الروسي الواسع، والذي جاء، في البداية، تحت عنوان
"مكافحة داعش" لينتقل بعدئذ إلى شعار "الحفاظ على الدولة السورية"، ليتجلى، بعد أيام، باعتباره تدخلاً، غايته الانخراط في معركة النظام ضد الجيش الحر وعموم المعارضة المسلحة المعتدلة، ودونما إيلاء أي اعتبار، أو اكتراث، بحياة المدنيين، وسلامة المرافق المدنية. وقد لوحظ أن موسكو سرعان ما أخذت تستخدم عبارة "مكافحة المتمردين والإرهابيين"، أو عبارة "مكافحة داعش والنصرة وغيرها .."، والمقصود بذلك خوض معركة بسلاح الطيران، لا حدود ولا قيود عليها في الزمان والمكان، وفي طبيعة الأهداف. وبما يضمن للنظام استعادة سيطرته على سائر المناطق، وبما يُمكّن تالياً من فرض حل يعيد فيه النظام إنتاج نفسه، وبالقفز عن المرجعية الدولية، وعن التفاهمات الإقليمية والدولية، والأهم من ذلك بالقفز عن تطلعات السوريين إلى حياة آمنة مزدهرة، في ظل العدالة وسيادة القانون، ومع تفعيل حق المشاركة والتشريع والرقابة الفعلية على أداء السلطات وأجهزتها.
بغير معالجةٍ سياسيةٍ للمخاطر الداهمة للتدخل العسكري الروسي، يصعب استشراف المرحلة اللاحقة بصورة واقعية. التدخل الروسي، وخصوصاً بصفته العسكرية، يتعاكس مع طموحات السوريين، ومع الإرادة الدولية، كما تبدت في اجتماعات فيينا، بالتقدم نحو حل سياسي (لا عسكري)، ومع جملة الجهود والتحركات الإقليمية والدولية الرامية إلى شق الطريق نحو الحل العتيد، وها هو هذا التدخل ينعكس سلباً على البيئة الإقليمية، ويحمل أفدح المخاطر على السلم الإقليمي والدولي (الأزمة الروسية التركية)، ويفاقم من محنة السوريين، ويوقع في صفوفهم مزيداً من الضحايا، ويُشرّد آخرين، فيما يضع هذا التدخل مكافحة داعش الإرهابية في نهاية جدول أعماله اليومية، كما تنبئ بذلك الوقائع.
كان في وسع موسكو المشاركة النشطة في التحالف الدولي القائم منذ 15 شهراً ضد داعش في سورية، مع ما قد يقتضيه ذلك من متطلبات خاصة بروسيا، غير أن موسكو اختارت أمراً آخر، يختلف تماماً عن مكافحة الإرهاب، وهو خوض معركة النظام ضد شعبه، مع استلهام مأثورات الاتحاد السوفييتي في قمع انتفاضات شعوب "المنظومة الاشتراكية"، كما تم مع ربيع المجر 1956 وربيع براغ 1968، علماً أن الحرب الباردة بين قطبين دوليين لا وجود لها في العام 2015، وليس هناك من حلف وارسو يجمع بين دمشق وموسكو، بزعامة الأخيرة، ولا حلف ناتو يجمع المعارضة بواشنطن.
المواجهة السياسية والدبلوماسية والإعلامية مع التدخل الروسي لا فكاك منها، من أجل شق الطريق نحو الحل السياسي، ومن أجل الحفاظ على الصداقة الروسية والسورية والعربية، حاضراً ومستقبلاً، وكي تنصرف موسكو إلى المساهمة البناءة في الحل السياسي، وحتى لا يغرق السوريون والروس في وحول نزاع دموي مديد.
التحدي الآخر هو إدامة الربط الوثيق بين المكافحة الناجعة لتنظيم داعش الإرهابي وتحقيق انتقال سياسي جدّي، يوفّر بيئة سياسية مواتية، لتعبئة وطنية عامة ضد هذا التنظيم الخطير والهجين، وهو ما تقرّ به مراكز دولية عديدة، ويستحق التمسك به بدون توقف. وكذلك الربط الوثيق بين تحقيق الانتقال السياسي واستقرار الإقليم، ولنزع التوترات القائمة والكامنة، ولعودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، بما يرفع الأعباء عن الدول المضيفة.
والتحدي الثالث هو تنشيط تحركات "الائتلاف" نحو العواصم الإقليمية، بما فيها تلك العواصم التي لا تبدي تجاوباً كافياً نحو تطلعات السوريين، لا أن يكون النشاط الأبرز هو عقد اجتماعاتٍ لا تنتهي في المقر، والتواصل خلال ذلك بكل الجهد المستطاع مع جموع اللاجئين المشردين، في مختلف أماكن تجمعاتهم، لا أن يرى اللاجئون وجوه ممثلي المعارضة الوطنية على شاشات التلفزيون فقط. ومن دواعي الاستغراب عدم وجود هيئة تُعنى بالاتصال والتواصل الدائمين مع اللاجئين، والإسهام في تخفيف معاناتهم.
بالتعامل الدينامي النشط، على الرغم من مشقته، مع هذه التحديات الراهنة، فإن "مشروع خطة الانتقال السياسي في سورية" سوف يكتسب أهمية أكبر في أنظار كل من يهمهم الأمر، وتتوثق صلة المشروع بمجريات الواقع، وتزداد فرص التفاعل معه.
جديرٌ بالملاحظة أنه، بينما تبدي المعارضة، بطيفها الواسع وتلاوينها المختلفة، هذا القدر من الانشغال العميق بمستقبل البلاد، والتحذير من مخاطر صراع مفتوح، يفتك بالمزيد من السوريين، ويُقوّض ما تبقى من مظاهر الحياة والعمران والإنتاج، فإن الطرف الآخر، وهو النظام، ينهمك فقط في استجلاب قوى أجنبية متعددة، تضم دولاً ومليشيات مسلحة وطائفية، من أجل تصفية كل مظاهر المعارضة، ومكوناتها البشرية والمادية، حتى لو أدى ذلك الى تحويل البلاد، لا سمح الله، قاعاً صفصفاً، ينعق فيه الخراب والخواء، تحت عنوان "أولوية هزيمة الإرهاب". والهزيمة المقصودة تعني اقتلاع الملايين من بيوتهم وديارهم وقذفهم خارج الحدود، والزجّ بعشرات الآلاف وراء القضبان، وتقتيل مئات الآلاف، أو تعريضهم لإصابات جسمانية بليغة، وتدمير الاقتصاد بمختلف مناشطه، وتعريض الدولة للإفلاس، والتسبب بتفكيك المؤسسة العسكرية، مع منح من يبقى من المعارضين، بعدئذٍ، بضعة مقاعد وزارية في حكومة "موسعة" (بديلاً عن هيئة الحكم الانتقالي)، وإشراف النظام الحالي على وضع دستور جديد، وعلى تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية، بغير تدخل خارجي (بدون إشراف الأمم المتحدة وغيرها من أطراف وهيئات دولية). بما يعني إعادة إنتاج الاستبداد والاستعباد، واستكمال ذلك بالتحذير الرسمي من خلايا نائمة للمعارضة (معارضون صامتون!)، يتم سوق أفرادها مجدداً إلى السجون.
يقرن "مشروع خطة الانتقال.." بين أهمية التغيير، وفقاً لمرجعية جنيف، وتوطيد السلم الأهلي، وإغلاق الأبواب أمام أية نزعة محتملة للثأر وتصفية الحسابات، مع تفعيل العدالة وإرساء دولة القانون، فيما ينزع النظام فقط إلى استعادة سطوته وتعميمها.
لن يتطرق هذا المقال لمناقشة جوانب من مشرع الخطة، فتلك مهمة أولي الأمر من السوريين، على اختلاف ميولهم ورؤاهم ومصالحهم المباشرة والبعيدة، إذ ما يسترعي انتباه المراقب المعني أن المشروع اكتفى بتناول آفاق مرحلةٍ ليس الولوج إليها وشيكاً وقريباً للأسف، وهذا لا يُقلل، بالطبع، من أهمية المشروع الذي يستجيب، بصورة إيجابية وعصرية، لتحدي إعادة بناء الدولة والوطن، ووضع حد للمعاناة الرهيبة لملايين السوريين داخل الوطن وخارجه، فيما الراهن والآني يزخر بتحديات جسيمة وداهمة، لا بد من الاستجابة الناجعة لها بأقل قدرٍ من الأخطار والأضرار، وبما يفتح أفقاً للحل السياسي العتيد.
في طليعة هذه التحديات التدخل العسكري الروسي الواسع، والذي جاء، في البداية، تحت عنوان
بغير معالجةٍ سياسيةٍ للمخاطر الداهمة للتدخل العسكري الروسي، يصعب استشراف المرحلة اللاحقة بصورة واقعية. التدخل الروسي، وخصوصاً بصفته العسكرية، يتعاكس مع طموحات السوريين، ومع الإرادة الدولية، كما تبدت في اجتماعات فيينا، بالتقدم نحو حل سياسي (لا عسكري)، ومع جملة الجهود والتحركات الإقليمية والدولية الرامية إلى شق الطريق نحو الحل العتيد، وها هو هذا التدخل ينعكس سلباً على البيئة الإقليمية، ويحمل أفدح المخاطر على السلم الإقليمي والدولي (الأزمة الروسية التركية)، ويفاقم من محنة السوريين، ويوقع في صفوفهم مزيداً من الضحايا، ويُشرّد آخرين، فيما يضع هذا التدخل مكافحة داعش الإرهابية في نهاية جدول أعماله اليومية، كما تنبئ بذلك الوقائع.
كان في وسع موسكو المشاركة النشطة في التحالف الدولي القائم منذ 15 شهراً ضد داعش في سورية، مع ما قد يقتضيه ذلك من متطلبات خاصة بروسيا، غير أن موسكو اختارت أمراً آخر، يختلف تماماً عن مكافحة الإرهاب، وهو خوض معركة النظام ضد شعبه، مع استلهام مأثورات الاتحاد السوفييتي في قمع انتفاضات شعوب "المنظومة الاشتراكية"، كما تم مع ربيع المجر 1956 وربيع براغ 1968، علماً أن الحرب الباردة بين قطبين دوليين لا وجود لها في العام 2015، وليس هناك من حلف وارسو يجمع بين دمشق وموسكو، بزعامة الأخيرة، ولا حلف ناتو يجمع المعارضة بواشنطن.
المواجهة السياسية والدبلوماسية والإعلامية مع التدخل الروسي لا فكاك منها، من أجل شق الطريق نحو الحل السياسي، ومن أجل الحفاظ على الصداقة الروسية والسورية والعربية، حاضراً ومستقبلاً، وكي تنصرف موسكو إلى المساهمة البناءة في الحل السياسي، وحتى لا يغرق السوريون والروس في وحول نزاع دموي مديد.
التحدي الآخر هو إدامة الربط الوثيق بين المكافحة الناجعة لتنظيم داعش الإرهابي وتحقيق انتقال سياسي جدّي، يوفّر بيئة سياسية مواتية، لتعبئة وطنية عامة ضد هذا التنظيم الخطير والهجين، وهو ما تقرّ به مراكز دولية عديدة، ويستحق التمسك به بدون توقف. وكذلك الربط الوثيق بين تحقيق الانتقال السياسي واستقرار الإقليم، ولنزع التوترات القائمة والكامنة، ولعودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، بما يرفع الأعباء عن الدول المضيفة.
والتحدي الثالث هو تنشيط تحركات "الائتلاف" نحو العواصم الإقليمية، بما فيها تلك العواصم التي لا تبدي تجاوباً كافياً نحو تطلعات السوريين، لا أن يكون النشاط الأبرز هو عقد اجتماعاتٍ لا تنتهي في المقر، والتواصل خلال ذلك بكل الجهد المستطاع مع جموع اللاجئين المشردين، في مختلف أماكن تجمعاتهم، لا أن يرى اللاجئون وجوه ممثلي المعارضة الوطنية على شاشات التلفزيون فقط. ومن دواعي الاستغراب عدم وجود هيئة تُعنى بالاتصال والتواصل الدائمين مع اللاجئين، والإسهام في تخفيف معاناتهم.
بالتعامل الدينامي النشط، على الرغم من مشقته، مع هذه التحديات الراهنة، فإن "مشروع خطة الانتقال السياسي في سورية" سوف يكتسب أهمية أكبر في أنظار كل من يهمهم الأمر، وتتوثق صلة المشروع بمجريات الواقع، وتزداد فرص التفاعل معه.