الربيع العربي مستمر رغم داعش والاستبداد
يعتقد بعضهم، وخصوصاً الذين لهم تواشج ما، وصلات قربى ومنفعة مع الأنظمة العربية التي استنفدت مبررات وجودها (إن كان لها مبرر وجود أصلاً)، أن الربيع العربي الذي ملأت زهوره شوارع المدن الكبيرة، في الدول التي تكتم تلك الأنظمة أنفاس أهلها، قد آل إلى نهاياته، وباء بفشل ذريع، وما على كل من شق عصا الطاعة إلا أن يكفِّر عن ذنبه، ويعود عن غيِّه، ويأخذ بجملة نزار قباني الشعرية التي غنتها نجاة الصغيرة، في قصيدة طويلة اسمها "أيظن"، وتؤكد الجملة، في محتواها، المجتمع الذكوري وسيِّده الفرد المطلق. وهي: "كم قلت: إني غير عائدة له.. ورجعت، ما أحلى الرجوع إليه".
وتستشهد تلك الجماعة بالتجارب، المرة حقاً، لكل من ليبيا وسورية واليمن، وإلى حد ما مصر، متجاهلة، بالطبع، أن تلك الأنظمة هي التي تسببت في تلك المرارة، بصلفها وتعنتها وديماغوجيتها، ومخرجاتها المتخلفة، وأنها المسؤولة، سابقاً ولاحقاً، عن كل ما حصل ويحصل، وهو، لابد مستمر حتى انتصار أعلام الحرية. أي إنها المسؤولة عن تفجُّرِ الربيع العربي، وبالقدر نفسه، مسؤولة عن مآله. والأخطر من هذا وذاك تجاهلها أنَّ الربيع العربي منتصرٌ لا محالة، مهما طال أمد معاناة الشعوب، ومهما تفتقت وحشية الاستبداد عن أساليب جديدة في القتل والتدمير والتهجير. فالربيع العربي، وبغض النظر عما آل أو ستؤول إليه مصائره الآن، وفي البلدان التي قام بها، وحتى، في الأخرى التي لا تزال صامدة، ويظن حكامها أنهم في منأى عن مواجهة مثيله هو حاجة ملحة، وضرورة موضوعية، وهو، كذلك، حلم مشروع، مبعثه واقع مزر بالمقاييس كلها يسوده تخلف شامل، واقع مكبل بهزائم مخزية على أكثر من صعيد.
صحيح أنَّ دول الربيع العربي تختلف، في مراتبها، فبعضها أكثر نمواً وتأثيراً في محيطه العربي، (مصر سورية تونس)، وبعضها الآخر يأتي في نهاية سلم التنمية والغنى، إذ هي أكثر فقراً وتخلفاً (اليمن)، بينما ينوس بعضها بين هذا وذاك (ليبيا)، على الرغم من أنها دولة نفطية، لا تقل في إنتاجها وثرائها عن غيرها من دول النفط. لكن خيط التخلف الذي تتخبط في أوحاله بلدان العالم الثالث يجمع تلك الدول بعضها ببعض، يشد عقدته الاستبداد السياسي الذي توافق عليه حكامها قاسماً مشاركاً بينها، على الرغم من التباين البسيط الذي تمليه ظروف خاصة بكل دولة.
عبَّر عن ذلك الربيع، أو تلك الثورات، ملايين من الشباب المتأثرين بالحداثة وحضارة العصر وثقافته، والطامحين إلى إنهاض بلادهم من رقادها الطويل، ومن فساد إداراتها الذي ينمو ويترعرع، تحت ظلال استبداد حكامها، وبيروقراطية قادتها الصغار، وإلى إدخالها عالم المدنية الحديثة من بابها الواسع، باب الحرية التي يكمن ألف بائها في الديمقراطية الحقيقية غير المزيفة.
نعم، ثورات الربيع العربي حاجة وحلم مشروعان، وهما مستمران، ربما عقداً أو أكثر، وإن لم تغد نتائجهما في الواقع المتطلع إليه حقيقة ملموسة. وأعتقد أن نتائج الربيع العربي ستبقى كذلك إلى حين، وما نراه من تفجرٍ، هنا وهناك، هو شرارات طاقاتٍ مخزَّنة بتكثيف عال جداً، وستحرق، على مدى اشتعالها، كل من حاول، أو سيحاول، إطفاءها. إنها بداية جيدة، على الرغم من المآسي التي اعترت الشعوب التي اشتهتها، ومارستها طلائعها على نحو أو آخر.. وما ضرَّ ولا أنقص من قيم الربيع العربي ومثله، أن تكالبت عليه أقطاب الأرض، وتقاطعت عنده المصالح وتناقضت. وانقسم العالم تجاهها، وبحسب مصالحه، إلى شعب وكتل واتجاهات، فالشرق الأوسط لم يزل مصدراً رئيساً للطاقة، ولم يزل كذلك من أكبر أسواق العالم، وأكثرها إثارة لشهوات أصحاب رؤوس الأموال ومستثمريها. وهو، أيضاً، خزان بشري هائل، تنمو طلائعه وتتفتح على تناقض مذهل بين أسلوب عيشها المتخلف ونمط حياة عالم متمدن يمكنه، على نحو أو آخر، من أفق الحياة الأوسع والأرق والأكثر زهواً ورخاء. كذلك لم يزل عدوان إسرائيل قائماً على شعوب المنطقة، ولم يزل العالم عاجزاً عن إيجاد حلول عادلة للشعب الفلسطيني، وللدول الأخرى التي ما تزال أراضيها محتلة.
ثم إن الاستبداد، المقيم منذ قرون في المنطقة، يخفي في جيوبه مشكلات قومية ودينية وطائفية كثيرة. هذه المشكلات التي لن تجد حلاً مناسباً لها إلا في الديمقراطية، وفي دولة المواطنة والقانون المحمية بقضاء نزيه، مستند إلى دستور شعبي عادل، يراعي حرية الفرد والجماعة على السواء.
صحيح أن تلك الهبات الشعبية البريئة افتقدت القيادات الخبيرة، والتنظيم المتقن المسبق. وواجهت، في الوقت نفسه، خصوماً شرسين متمرسين في معرفة حماية مصالحهم، بعيداً عن روح الوطن والمواطنة، وبعيداً عن روح الحضارة ومعطياتها. ومما يؤسف له أن التنظيم السري لم يوجد إلا عند أطرافٍ، لا علاقة لها بالثورة، ولا هي تعرفها، إذ إن أولياء تلك الأطراف مشبعون بأفكار وقيم ماضوية، تعود، في جوهرها، إلى العصور الإقطاعية التي تلتقي، في العمق، مع مخرجات الاستبداد من فقر وجهل وتخلف، وقد استطاعت تلك الأطراف أن تحتضن مخرجات الاستبداد، وتجيشها في مواجهة طلائع الربيع العربي الغضة، المسالمة الباحثة عن فضاء آمن تنمو فيه.. لكن، هل سيستمر ذلك؟ لا أعتقد.. فضوء الحياة أقوى وأمضى، يعبّر عنه بيت البحتري:
وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه/ وأول الغيث قطر ثم ينهمر.