الصحافي المحترم في دولة داهشتان
هو الذي لا يذهب إلى مقر جريدته، إلا مرة واحدة آخر كل شهر، لأخذ راتبه الشهري، وهو خارج من الجريدة يأخذ العدد الصادر لحل الكلمات المتقاطعة. وغالباً يكون له عمل آخر، وغالباً ما يكون هذا العمل بعيداً عن مجال الصحافة، إلا فيما ندر، كدكان للبقوليات والأعلاف، لو كان هذا الصحافي ابن ناس لهم في تجارة الحبوب. أما لو كان من أبناء الفلاحين المستورين، ودخل كلية الإعلام والصحافة خطأ فرحا بالمجموع، فغالباً ستكون له مزرعة لعلف المواشي على أطراف بنها، أو أبو النمرس. أما لو كان من أبناء أصحاب الحرف، فغالباً ستجده صاحب محل للبويات أو الحدايد، أو داخل محل لبيع الموتوسيكلات الصيني، على اسم زوجته في بولاق أبو العلا أو المرج. أما لو كان من أبناء مهنة الإعلام الضالعين في المهنة والكار، والواصلين بأدب إلى الجهات، نظرا لسمعتهم العائلية التي سبقت سيرة الأبناء والأحفاد، فغالباً سيكون عمله الثاني في أروقة الفضائيات، إخراجا أو إعدادا أو ما شابه ذلك. أما لو كان ابن رئيس تحرير، أو رئيسة تحرير، فغالبا لن تراه في الجريدة، أبداً، أو قد تراه كل سنة، أو في عيد ميلاد أمه أو أبيه، وسيكون تمامه في مجلس الشعب أو الشورى، مسؤولاً إعلامياً، أو تراه ملحقا ثقافيا في نيويورك أو واشنطن أو لندن، أو يعكف سنوات على كتابة مذكرات وزير خارجية سابق.
أما لو كان ابن رئيس مجلس إدارة، فغالبا لن تراه إلا في (محلات كارفور)، أو في صالون فيفي عبده، أو في مكتب فريد الديب، كي يستمع إليه في أمر الحِيَل التي يعدانها معا لهدم قضية الخلع المرفوعة ضده من جذورها. أما لو كان من أبناء عمال المطابع، أصحاب التربيطات الانتخابية، والذين، عادةً، ما يُحرجون رؤساء مجالس الإدارات، وخصوصاً في موسم الانتخابات، فغالباً سيكون عمله الثاني داخل مطبعة الأب، ينفذ فيها مطبوعات خاصة بالجريدة للتربية والتعليم، أو لسفارات أجنبية، وغالباً ما تكون مطبعته في رملة بولاق أو قليوب أو الأزهر، وغالباً ستكون المطبعة وبطاقتها الضريبية باسم بناته، بعد رحيل الأب.
أما لو كان هذا الصحافي قد أصابته لطائف الصوفية في مقتل، وتمكنت منه، فتطوّح في الأذكار، بعدما عاد من الخليج بقرشين، وكرِه المهنة وأصحابها وناسها، وكل أكاذيبها وسمومها، فسيضطر اضطراراً، وفقاً لنصيحة شيخه، أن يحصل على معاش مبكر، وبالقرشين يشتري خمسة أفدنة في (النوبارية) لزراعة الموالح، وخصوصاً المانجو، ويكتفي كل أسبوع بلقاء الأحبّة في الذكر في قعدة (جامع الشيخ رمضان) كل ليلة خميس. وحينما تسأله عن فلان، يقول لك: (ربنا يحفظنا). وحينما تسأله عن علان يقول لك: (غسلنا إيدينا من زمان). وحينما تسأله عن رؤساء تحرير زمان ورؤساء تحرير اليوم، يقول لك: (هو ورد زمان زي ورد تحت الكباري). وحينما تسأله عن رئيس أو ملك، يرد: (بأن صوابعك مش زي بعضيها)، ثم يسترسل عن آخر (عمرة) له، ويقول لك: (رأيتهم بالكلب هناك، فاستحيت من المهنة، وأرخيت الشال على وجهي، وجلست آكل التمر في الحرم)، ثم يعود إلى لحن قديم لأسمهان، ويحكي عن حديقة مدحت عاصم، وكيف كان الرجل يحب زراعة الورد، أيام كانت البيوت بيوتاً والناس ناساً.
تفتح الجريدة، وتتطلع إلى الأسماء والكتّاب فيها، فلا تكاد تعرف أحداً، فقط أسماء وشوارب محفوفة وكروش. فتعود إلى لحن مدحت عاصم القديم، بصوت أسمهان: (دخلت مرة الجنينة).