السيسي واليمين الأميركي
باتت العلاقة المتنامية بين الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، واليمين الأميركي، محل اهتمام وسائل الإعلام الأميركي نفسها، بما في ذلك الرئيسية منها.
ففي التاسع عشر من فبراير/شباط الماضي، نشر موقع قناة "سي إن إن" مقالاً بعنوان "القائد العربي المفضل الجديد للحزب الجمهوري"، رصد كلمات الإطراء من بعض أبرز المتنافسين على ترشيح الحزب الجمهوري في سباق الرئاسة الأميركية المقبل (2016). فقد صرّح جيب بوش، الشقيق الأصغر للرئيس السابق جورج دبليو بوش، في جولة تحضيرية لحملته الانتخابية في ولاية شيكاغو، أن السيسي "أدلى بخطاب لا يصدق عن التطرف الإسلامي، وقال إن المسؤولية تقع على العالم العربي بأن يتقدم للأمام ويحارب"، في إشارة إلى خطاب السيسي، في الأول من يناير/كانون الثاني الماضي. وأضاف بوش إنه لا يفهم كيف قال البيت الأبيض للسيسي: "لست في فريقنا". وأدلى بتصريحات مشابهة تيد كروز، السيناتور عن ولاية تكساس، وأحد المتنافسين على الترشيح الجمهوري للرئاسة، لقناة فوكس نيوز اليمينية الأميركية في الثامن عشر من فبراير/شباط الماضي، وقال: "من الأفضل أن نرى هذا النوع من الشجاعة التي عبّر عنها الرئيس السيسي في القاهرة منذ أسابيع. لماذا لا نرى الرئيس الأميركي يظهر الشجاعة نفسها، يذكر الحقيقة، عن وجه الشر الذي نواجهه الآن؟".
والواضح أن بوش وكروز يشيران إلى خطاب السيسي بمناسبة المولد النبوي، وقد قال فيه: "مش معقول يكون الفكر اللي بنقدسه ده يدفع الأمة دي بالكامل إلى أن تكون مصدر للقلق والخطر والقتل والتدمير في الدنيا كلها، مش ممكن يكون الفكر ده، أنا مش بقول الدين، أنا بقول الفكر ده، اللي تم تقديسه، نصوص وأفكار تم تقديسها على مدى مئات السنين، وأصبح الخروج عليها صعب قوي، لدرجة إنها بتعادي الدنيا كلها، يعني الواحد وسته من عشرة مليار حيقتلوا الدنيا كلها اللي فيها سبعة مليار علشان يعيشوا همه؟". وقد احتفل اليمين الأميركي كثيراً بالخطاب، ونشرت عنه وسائل الإعلام اليمينية الكبرى، مثل "واشنطن تايمز" و"فوكس نيوز"، وكتب عنه الكتاب المعروفون بأنهم جزء من دوائر الإسلاموفوبيا، كباميلا جيلر وموقع "والرد نت دايلي" وغيرهما، وكذلك كتاب إسرائيليون. فقد نشرت "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية مقالا في السادس عشر من يناير/كانون الثاني الماضي، لكاتب يدعى مارتن شيرمان، أن "السيسي أدرك الصواب في توصيفه الإسلام، على أنه "مصدر للقلق والقتل وتدمير بقية العالم"، وأضاف متسائلا: "هل سيتمكن السيسي من إطلاق تحول على غرار التحول الذي قام به كمال أتاتورك في تركيا؟". ونشرت صحيفة "واشنطن تايمز" في الثامن من يناير، مقالاً بعنوان "هل توضح مصر لأميركا طريق الحرب على الجهاد الإسلامي الراديكالي؟" لكاتب يدعى تشارلز أورتيل، يصف خطاب السيسي بأنه "تطور مدهش، وتتحتم قراءته ومشاركته"، وأنه "أكبر قصة صحافية لم تتلق التغطية المناسبة في وسائل الإعلام الأميركية الرئيسية، إذ يهاجم الرئيس السيسي جذور الصراع المستمر بين بعض أتباع الإسلام والعلمانيين المحبين للحرية".
سبب هذا الاحتفال بخطاب السيسي مزدوج، فقد وفّر مادة دسمة تروق لما يسمى لوبي الإسلاموفوبيا في الولايات المتحدة، فقد تحدث السيسي بشكل عام عن المسلمين والنصوص الدينية، وربطهم بالتشدد والعنف، حتى إنه اتهم كل مسلمي العالم بالرغبة في استئصال بقية سكان الكرة الأرضية، بدوافع دينية، وهو خطاب يروق لليمين الأميركي المتشدد ولوبي الإسلاموفوبيا ولوبي إسرائيل، لكونهم يسعون، دائماً، إلى التأكيد على فكرة أن مشكلة التشدد نابعة من الإسلام نفسه، أو من بعض نصوصه المقدسة، وأنها متجذرة لدى غالبية المسلمين، أو جميعهم، وليست مجرد مشكلة متعددة الأسباب السياسية والاقتصادية والفكرية، تنحصر في أقلية صغيرة من المسلمين، كما يتحدث قادة الدول الغربية أنفسهم. فقد كتب دانيال بايبس، أحد أشهر كتاب لوبي إسرائيل والمحافظين الجدد، في الثاني والعشرين من يناير، في مقال له: "التحية للسيسي، لحديثه القوي بخصوص هذه المشكلة، موقفه الصريح يتناقض بشكل حاد من الحديث المائع القادم من نظرائه الغربيين، والذين يؤكدون على المقولة الزائفة التي تقول إنه لا علاقة للموجة الراهنة من العنف بالإسلام". ونشرت "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية، في السادس عشر من يناير مقالاً، لكاتب يدعى دنيال جورديس، وفيه: "قارن بين الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند والرئيس المصري السيسي. في حديث لأمته بعد الهجمات (على صحيفة شارلي إبدو) قال: "هؤلاء المتشددون ليس لهم أي علاقة بالإسلام. من يعرف الإسلام أكثر، هولاند أم السيسي؟ على عكس هولاند، السيسي يبدو أنه يفهم حقيقة الأمر".
السبب الثاني، أن خطاب السيسي مثل فرصة مناسبة لهجوم اليمين الأميركي على الرئيس، باراك أوباما، الذي يتبنى خطاباً أكثر حذرا، عندما يتحدث عن الإسلام، ولأنه، أيضاً، يرفض منح السيسي ونظامه شيكا على بياض، على عكس قوى اليمين الأميركي التي ترى في السيسي حليفا لها ضد ما تراها قوى تشدد أو تطرف في المنطقة. وقد ذكر السيناتور تيد كروز في حديث لقناة "فوكس" الأميركية في الثامن عشر من فبراير: "ما يقوض جهودنا العالمية أن يكون رئيس الولايات المتحدة اعتذارياً نيابة عن الإرهابيين الإسلاميين الراديكاليين. الأفضل بكثير أن نرى النوع نفسه من الشجاعة التي أظهرها الرئيس المصري السيسي قبل أسابيع".
والواضح، هنا، أن العلاقة بين السيسي واليمين الأميركي ولوبي الإسلاموفوبيا ولوبي إسرائيل قديمة، فبعد الانقلاب العسكري (يوليو 2013) بثلاثة أشهر، زار مصر وفد صغير من نواب الكونغرس المعروفين بعلاقتهم بدوائر الإسلاموفوبيا في الولايات المتحدة، بقيادة النائبين، ميشيل باكمان وبيتر كينج، والتقى بعدلي منصور وعبد الفتاح السيسي، وهي زيارة أثارت استياء وسائل الإعلام الأميركية الكبرى، فقد نشرت جريدة نيويورك تايمز مقالا عن الزيارة في التاسع من سبتمبر/أيلول 2013 في مقدمته: "بعد شهرين من إطاحة الجيش أول رئيس مصري منتخب، وبدء قمع دموي لداعمي الرئيس، زار وفد من أعضاء مجلس النواب القاهرة، ليقول للحكومة الجديدة حافظوا على ما تقومون به من عمل جيد". ويشير المقال إلى تصريح لسامر شحاته، أستاذ العلوم السياسية في جامعة أوكلاهوما: "هناك تلاقي مصالح بين قادة الانقلاب في مصر، ودعاة الإسلاموفوبيا في الكونغرس".
أما لوبي إسرائيل فدعمه للسيسي معروف، ومواقفه المعارضة لتعليق بعض المساعدات الأميركية للنظام المصري بعد الانقلاب العسكري معروفة، ومديح قادته السيسي مستمر، ومن أحدث الأمثلة مديح السفير الإسرائيلي لدى أميركا، رون ديرمنر، لخطاب السيسي، في حديث مع قناة "فوكس نيوز" في الرابع عشر من يناير، إذ قال: "ليس لدي أي شك في موقف الرئيس المصري، السيسي تحدث بصراحة، بشكل شجاع جداً". وفي أروقة الحزب الجمهوري، تزداد نغمة تقول إن التحالف مع السيسي ضرورة في الحرب ضد داعش. وهنا، يقول جيب بوش إن السيسي ليس ليبرالياً، ولكن "علينا أن نكون عمليين. وأن نوازن إيماننا بالحرية مع إيماننا بالأمن".
ويلاحظ، هنا، أن التلاقي بين اليمين الأميركي ولوبي الإسلاموفوبيا وإسرائيل في أميركا من ناحية، والسيسي ونظامه من ناحية أخرى يدور حول عدة نقاط، فكلاهما يكن عداء كبيرا للتيارات الدينية المسيسة في العالم العربي، وجاء صعود داعش ليعطي كليهما فرصة لتأليب الرأي العام الأميركي والدولي ضد التيارات الدينية في العالم العربي والإسلامي. كلاهما، أيضاً، يعارض أوباما ومواقفه، فاليمين الأميركي ولوبي إسرائيل يريان أوباما خصمهما اللدود، والسيسي غاضب بشدة من موقف أوباما الفاتر تجاهه. والواضح، أيضاً، أن السيسي مدرك تلك العلاقة، ويستخدمها في خطابه وتحركاته السياسية، ففي أوائل مارس/آذار الجاري، قال، في حديث لقناة فوكس الأميركية اليمينية، إنه تلقى دعوة لزيارة أميركا من "أعضاء في الكونغرس"، لكنه "يفهم أن هناك حاجة لبعض الوقت لكي تفهم (الإدارة الأميركية) ما حدث في مصر". وفي حديث آخر مع "واشنطن بوست"، نشر في الثاني عشر من مارس/آذار، قال السيسي إنه "يتحدث كثيرا" مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو.
ناهيك عن حديث السيسي المستمر عن رغبته في أن يكون رأس حربة في الحرب الدولية على "الإرهاب" في المنطقة. وهنا، يبدو أنه يحاول استخدام علاقته مع اليمين الأميركي ولوبي إسرائيل، لكسب مزيد من الدعم السياسي، وسط اليمين الأميركي والحزب الجمهوري وأنصار إسرائيل، ومن ثم الضغط على الإدارة الأميركية الديمقراطية لتغيّر سياساتها تجاهه. ولكي نفهم تلك العلاقة جيداً، نشير إلى عاملين إضافيين، يشاركان في صياغتها مع العوامل السابقة. أولهما أن أميركا ليست يميناً فقط، فهناك قوى أخرى، تدرك حقيقة ما يقوم به السيسي في مصر، ومساعيه للتودد لليمين الأميركي. ففي مقال نشره موقع "بوليتيكو" الأميركي، في التاسع من يناير، بخصوص خطاب السيسي، "عندما يحاول من قام بانقلاب ضد أكبر حركة إسلامية تقليدية (الإخوان) أن يظهر في صورة الإصلاحي الإسلامي، على كل فرد أن يسأل نفسه لماذا؟ هذه بوضوح محاولة انتهازية من قائد يريد أن يؤكد مؤهلاته الدينية في معركته الدائرة مع الإخوان. هل سيسمح السيسي بأزهر مستقل، يطرح أسئلة ليس فقط عن عنف الإرهابيين، ولكن، أيضاً، عن عنف الدولة التي يتحكم فيها، كما يظهر في صورة تعذيب وقبض عشوائي وتخويف ضمني وغير ضمني، أحياناً، للإصلاحيين؟" أما العامل الثاني فهو أن اليمين الأميركي ولوبي إسرائيل لن يرضيا عن السيسي على طول الخط، فجيب بوش، مثلاً، يؤكد أنه يدرك طبيعة السيسي ونظامه غير الليبرالية، أما دانيال بايبس، وهو من أهم منظري لوبي إسرائيل والمحافظين الجدد في الولايات المتحدة، فهو يقف محذراً من المبالغة في الاحتفال بخطابات السيسي عن الإصلاح الديني، ويرى السيسي نفسه "إسلاميا"، لأنه يمارس الشعائر الإسلامية، وزوجته ترتدي الحجاب، ولأنه يريد تطبيق الشريعة الإسلامية، بشكل غير ثوري وغير عنيف، وهي أسباب يراها بايبس كفيلة، ضمن أسباب أخرى، بجعل السيسي "إسلاميا"، وغير قادر على القيام بالإصلاح الفكري المطلوب.
وهنا، تتضح حقيقة أن العلاقة بين السيسي وقوى اليمين الأميركي لا تخلو من مصالح متبادلة وشكوك في الوقت نفسه، فقوى لوبي إسرائيل واليمين الأميركي والإسلاموفوبيا لن ترضى عن السيسي بشكل كامل، وستظل تطالبه بمزيد من الانصياع لمواقفها ومطالبها، وستعامله بترحاب، طالما استجاب لأجندتها، ولو خالفها تقف له بالمرصاد.