التصفيق للحروب الأهليّة
تبدو صورة المشهد في المشرق العربي مستفزة لمشاعر المواطن العربي، فهو يُشاهد مدناً تاريخية تتهاوى فوق رؤوس قاطنيها، وناساً تُحرق أحياء، ونسيجاً اجتماعياً تدمره المليشيات وأمراء الجهاد. لكن، مع هذا كله، بقي تعاطي الناس مع الحروب الأهلية أقل بكثير من أهميتها، ظاهرة اجتماعية تستحق الدراسة، بل وتحتاج برود أعصاب عند تناولها، أكثر من حاجتها إلى اللطم وإشهار المناحة، كما بات يتفنن بذلك محللون سياسيون.
في وسط هذه الحرب الأهلية الطاحنة في الوطن العربي، يبحث الجمهور عن مواقف سياسية مؤيدة لهذا الطرف أو ذاك، فلا مكان يلائم من يلوذون بالصمت، أو من يتأملون المشهد بحسرة على هذا التداعي العربي. تظهر أسئلةٌ، من قبيل هل أنت معنا أم معهم في هذه المعركة المصيرية؟ حيث في الحروب الأهلية لا مكان للعقل. الغرائز والعواطف هي التي تقود الجمهور، وتتحكم بمواقفهم وأحاسيسهم، وهي التي يجري اللعب على وترها، في تحشيد الناس، ودفعهم للتضحية بأنفسهم، وأبنائهم، وهم باسمو الثغر، من زعماء وهميين، لم يجدوا سبيلاً لحل خلافاتهم السياسية، وأطماعهم السلطوية، سوى في دفع الناس إلى التناحر، على الرغم من أن التضحية تحت شعارات دينية قد هجرها العقل المتمدن. نقول ذلك، مع معرفتنا المسبقة بوجود ضحايا مكرهين على البقاء في المدن المحاصرة، ومشاهدة حمامات الدم، وكأنها حدث طبيعي، فالحرب والفقر لم تُبقِ لهم مكاناً يهربون إليه.
من هذا المنطلق، أعني الحسرة والعجز، تتضاعف الرغبة في التعامل مع الحرب الأهلية ظاهرة اجتماعية، أولاً، لكي نأمن على أنفسنا من الانزلاق في وحل الغرائزية، والتحوّل لجمهور داعم لطرف على حساب الآخر في الحرب القائمة بين أبناء الأمة الواحدة، حيث يتم تبرير إجرام "النحن" على حساب أرواح "الهم"، ويتم التغافل عن الظواهر المصاحبة لها، والتركيز على أمور ثانوية. ثانياً، نخسر فرصة الاستفادة من حروب الآخرين، ونتلهّى عن منع انتقال الحرب من بلد عربي إلى آخر، وكأنها قدرنا المحتوم، بالتعويض بممارسة عملية رياضية، من قبيل تدوين كل جماعة للجرائم الأكثر فداحة للجماعة الأخرى. هذا بالإضافة، طبعاً، للبحث عن تسجيل انتصارات وهمية؛ لأن الطرف الآخر ليس إلا أحد أبناء الوطن نفسه. وفي بعض الحروب الأهلية، تضمحل الأمم، وتذوب الدول، فلا يبقى ما يستحق التنازع عليه، في وقت تبحث فيه الجماعات الصغيرة عن حماية خارجية، توفرها القوى الكبرى المستفيدة من هذه الحرب، اقتصادياً وسياسياً.
تترافق ظاهرة الحرب الأهلية مع انهيار السلطة المركزية في أي بلد، فتخلق بذلك تدافعاً حاداً على السلطة، نتيجة الفراغ الذي تخلّفه، وهو يختلف، بحسب طبيعة النظام السياسي الذي يحكم البلد، والعلاقات الاجتماعية التي خلّفها، ففي الدول البوليسية والديكتاتورية، ذات التعدد العرقي والإثني واللغوي، تبدأ الجماعات باستخدام السلاح لحل مشكلة الفراغ السياسي، خصوصاً إذا غابت الروح الوطنية لدى الزعامات السياسية، وتبددت الإيديولوجيا الشاملة التي تخلق تماسكاً اجتماعياً، عن طريق هوية وطنية، لها أساطيرها المؤسسة، فتضع، آنذاك، الحرب أول أوزارها، وغالباً، ما تكون الغلبة أو التفوّق لمن يسيطر على المراكز العسكرية. حصل هذا في معظم الدول التي عرفت حروباً محلية، ومنها حرب البلقان بين الكروات والصرب والبوسنيين، عندما ورث الصرب القوات العسكرية، وراحوا يسعون إلى تحقيق انتصارات على بقية المكونات الاجتماعية، بتطهير الدولة من القوميات الأخرى، لكن فرض الهيمنة على مؤسسات الدولة يحتاج خطوات أكثر راديكالية، فهو بالأساس قائم على إبدال من هم في مراكز القوة بأناس موالين لهذه الجماعة المسيطرة حديثاً، تماماً كما حدث مع حزب البعث العراقي، حينما سعت القوى الجديدة الحاكمة لإزالة كل ما يمت له بصلة، وإن كانت شكلية، عن طريق قانون "اجتثاث البعث" الذي لم يكتفِ بالمناصب العسكرية، بل انتقل إلى ما يشبه الاستئصال، عوضاً عن التفكير في حلول سياسية تقدم المصلحة الوطنية على المصالح الفئوية الضيقة، كالتفكير في برامج العدالة الانتقالية التي تم تطبيقها إبّان توحيد الألمانيتين، وتفتح بعدها صفحة جديدة مع شركاء الوطن، من أجل تجاوز محنة الاحتلال.
في الأساس، لا وجود لحرب أهلية من طرف واحد، كما لا توجد حرب أهلية نظيفة. كل الحروب الأهلية تقوم على الترهيب والتهجير، وبث الرعب في قلوب الجماعة الأخرى، بغية دفعها إلى التخلي عن أرضها وحقوقها، فقد كان الصرب في عام 1991، تحت قيادة العقيد راتكو ميلاديتش، يغتصبون النساء، ويقتلعون عيون الرجال وأنوفهم بطريقة ممنهجة، كي يدفعوا الكروات إلى الرحيل عن المدن الحيوية، بغية السيطرة على المراكز المهمة في الدولة، وبناء دولة صربية خالصة. إذن، كانت الجرائم مخططة، ولها أبعاد سياسية.
بكلمة مختصرة، لا تعني الدعوة إلى التعامل مع الحروب الأهلية كظاهرة اجتماعية مصاحبة لانهيار الدولة الحديثة، الاستهتار بأرواح الناس الذين طحنتهم الحرب، أو إذكاء اللامبالاة في ضمير الجمهور العربي، بقدر ما هو تفكير في تلافي تنقل الحرب وإطالة أمدها، ونبذ التعاطي معها بروحية جمهور كرة القدم.