الثروة والثورة والحكم.. نظريات غائبة
لم يكن ممكناً، في بدايات الدعوة الإسلامية، تصور رابطة إسلامية، بعيدا عن رابطة الدم "وأنذر عشيرتك الأقربين". ومنذ تشكل نواة الدولة، وتنامي طموحها السياسي، تزامناً مع توسع حركة الفتح، يبرز مفهوم أكثر شمولا للأمة، بوصفها اتحاداً لمجموعات عرقية وقبلية، تدين بدين واحد، يحكمه، نظرياً على الأقل، مبدأ المساواة "إنما المؤمنون إخوة".
كرّس الاستشراق الغربي، ومعه الصراع الأيديولوجي (المستمر) على كتابة التاريخ، وهماً يقوم على المقابلة بين الأمويين الكفرة وأنصاف البدو من جهة، والعباسيين الأتقياء المدينيين من جهة أخرى. ولكن، لم تكن الثقافة العربية في العهد العباسي سوى استمرار لتلك الثقافة التي انتشرت منذ بدايات الحكم الأموي، وكانت الحضارة العربية مدينية في غالبيتها، حيث سيطرت المدينة، سياسياً واقتصادياً على القرية، وشكل أهل المدن وسطياً سدس عدد السكان.
بدأت الخلافة وجودها في ظل غياب نظام حقوقي (نظرية في الحكم)، وكان للسمات الشخصية للخلفاء الأوائل، (أبي بكر وعمر)، دور في تسيير الشأن العام وإدارته من دون معارضة. وقد أدرك عثمان بن عفّان ما كان للكاريزما من أثر في طاعة المسلمين عمر، في مقابل اعتراضهم عليه شخصياً، حين اشتكى من أن ما كان أحد يجرؤ على أن يعيبه على عمر أصبح يعيبه عليه. وربما كانت الاضطرابات السياسية في عهدي عثمان وعلي من النتائج الحتمية لغياب نظرية مبكرة في الحكم، قبل أن تكون صراعاً عليه. وسرعان ما أمّن نظام الحكم الوراثي، والنظم الإدارية التي اقتبستها الدولة الجديدة من الأمم المغلوبة، استقرارا نسبيا. وبقي التشريع تعليماً أخلاقيا تطبيقياً منزّلاً، ونظر الفقه إلى الدولة كشكل لتنظيم جماعة المؤمنين المتساوين أمام الله، والتي لا يحتاجون، في ظلّها، إلى تثبيت حقوقهم عن طريق شكلي، طالما كانت التقوى (الالتزام بالفروض الدينية) تنفي أي امتياز تراتبي. لذا، سينحصر الفقه الإسلامي في نطاق القانون الخاص (المعاملات بين الأفراد)، من دون إمكان بلوغ القانون العام (نظام الحكم والعلاقة بين الحاكم والمحكوم). وهكذا، لم يكن إسلام الوحي فقط قد خلا من نظرية في الحكم، بل، وأيضاً إسلام التاريخ، ما يجعلنا نقول، مطمئنين، إن مطلب السلفية المعاصرة بقيام الخلافة الإسلامية لا أصولي في جوهره.
توسّعت الفتوحات منذ عهد عمر بن الخطاب الذي استبدل نظام الخراج بنظام الغنيمة التقليدي، وبدأ أهل الأمصار يلعبون الدور الأبرز في اقتصاد الفتح، فتمتعوا بسلطة عسكرية مع احتفاظ المدينة (يثرب) بسلطتها الأدبية. ومع هذا الاقتصاد الجديد، ستتراجع الشعائر الدينية إلى المرتبة الثانية بعد "الجهاد" الذي كان استثماراً دينياً ودنيوياً رابحاً، طالما تراوحت نتائجه بين الجنة والغنيمة. وقد تمتع "المهاجرة"، أي العرب المقاتلون، بالمواطنة الكاملة التي كفلتها لهم أسماؤهم المسجلة في ديوان الجيش، وأصبح القادة والعسكريون ذوو الرتب العالية كبار ملاك الأراضي والبيوت والدكاكين والخانات والحمامات...، على الرغم من المنافسة القوية من أبناء السلالة الحاكمة.
ومع حضور الدولة في الاقتصاد، عبر الضرائب والجبايات ونظام الحسبة (الرقابة) الآخذ في التراخي، كان للمنافسة واحتكارات التجار كلمتها أيضا. فحين استجاب المأمون العباسي لشكوى البغداديين من ارتفاع أسعار القمح، وأمر بتوسيع مكيال القمح بمقدار الربع، أضاف التجار إلى السعر فرق الكمية. وبدا الاقتصاد موجِها للفقه وأحكامه، لا العكس. فالرقيق الذين كانوا ركنا أساسيا في العملية الإنتاجية، وخدموا السلاطين وأسر المتنفذين والأعيان، وجنى محتكري الاتّجار بهم الأرباح الطائلة، لم يحرروا بمساندة الفقه، بل عمل الأخير على تنظيم استرقاقهم.
منذ الانتفاضة الأولى ضد الخليفة الثالث، غُيّب مفهوم الثورة، ليحل بدلاً منه مفهوم الفتنة أو الخروج، ما عنى إدانة فعل الثورة نفسه. وقد فضّل كبار الصحابة اعتزال الفتنة وعدم الانحياز باللجوء إلى حياة الزهد السلبي. وحض الفقه الإسلامي على التمسك بالجماعة، والبقاء مع السواد الأعظم الذي لا يشمل، بطبيعة الحال، المناهضين للثورة فقط، بل أيضا "الكتلة الصامتة" التي لم تحسم خياراتها بعد حيالها. ولم يجز الفقه الإسلامي الخروج على الحاكم الجائر، إلا في حالات قصوى، أهمها الكفر الصريح. وحجة ذلك أن استبداد الحاكم وجوره يهدد أبناء الأمة، أما الكفر فيهدد هويتها. لذلك، بقي الخروج أو الثورة حالات فردية لم تشكل عند أهل السنة تياراً، كما كان الحال عند المنشقين من خوارج وبابكية وقرامطة وغيرهم.
وفّرت الدولتان، العباسية والأموية المتأخرة مائتي عام من الاستقرار، وبدا أن استبداد الدولة العربية الإسلامية لم يكن استثناء من لحظتها التاريخية، وقد لعب الاقتصاد المتطور، والعلاقات التجارية والمدن الحديثة التي بهرت الرحالة الغربيين، دورا محوريا في هذا الاستقرار. لكن، لاحقا، أصبح بقاء النظام السياسي الاستبدادي على حاله عائقا في وجه حركة التاريخ.
تراكمت الثروة بشكل مذهل، فتدفق على بغداد في عام واحد، 400 مليون درهم (ما يعادل 1160 طناً من الفضة)، بينما لم تتعد، مثلاً، إيرادات الإمبراطورية الروسية في عام 1763 ما يعادل 140 مليون درهم فقط. ومع تراكم الثروة، شكلت جموع متعاظمة من الفقراء والمعدمين قاع المدينة. هؤلاء، إما تعمدت مؤلفات تلك الفترة إغفال أوضاعهم، أو وصفتهم بالعيّارين والهمج الرعاع، وحمّلتهم مسؤولية فقرهم. ويُنقل عن عمر بن الخطاب قوله: "لأن أموت بين شعبتي رحلي أضرب الأرض أبتغي من فضل الله أحب إلي من أن أقتل مجاهداً في سبيل الله". فالإيمان بلا عمل إيمان ميت، والعمل بالكسب، وليس بالعبادات.
ومع تداعي الاقتصاد الإسلامي في مرحلة القلاقل السياسية، منذ القرن العاشر، انتشرت المؤلفات التي تنظّر لاكتمال الذات والاتكال على الله، لكنها لم تكرس الزهد التقليدي، بل لعبت دوراً في إيقاظ الحس الثوري لدى المعدمين. أدى الظلم المذهل نتيجة نظام الضرائب الإقطاعي السلجوقي، وممارسات قادتهم العسكريين وحروبهم، التي انتهت إلى خراب مدن وإفلاس أهلها، إلى انتفاضات متكررة، وصفها مثقفو الطبقات الميسورة ومؤرخوهم، بانتفاضات العيّارين والغوغاء. وحين برر مفكرو العيّارين الاستيلاء على الممتلكات المكتسبة بشكل غير شرعي، وتوزيعها على المستضعفين، فزع الأغنياء، ومنهم الغزالي الذي بالرغم من إقراره بلا شرعية أموال الحاكم وممتلكات حاشيته، عارض الاستيلاء على أموالهم، وعد ذلك مرادفا للسرقة.
رفض الفقه الإسلامي الثورة، ومع غياب نظريات الحكم والاقتصاد تغيب نظرية في الثورة. ولم يبلور فكر المعارضات الاجتماعية، في المقابل، أي نظريات من هذا النوع. ونتيجة ثورات الطبقات الدنيا من سكان المدن، احتدام الصراع، ودُمّرت منازل الحكام وخربت محلات الأغنياء وممتلكات التجار، وسقطت مدن بأكملها، كدمشق وبغداد، في يد المنتفضين، إلا أنهم لم يتمكنوا من إدارتها. وفي غياب النظرية، لم يسهم ذلك كله في إعادة بناء المجتمع، سياسيا واقتصاديا، ولا حتى في رفع الظلم. ومع استمرار تلك الانتفاضات والثورات، وتنامي الصراع المذهبي السني الشيعي، ينهار مفهوم الأمة، ليتكتل سكان المدن حول رابطة النسب، فتنعزل الأحياء بعضها عن بعض داخل أسوارها، وتغلق أبوابها عند استشعار أي خطر. ففي القرن الثاني عشر، انقسمت بغداد إلى سبعة أحياء منعزلة، وبقيت الأبواب ظاهرة عرفتها حارات عديدة في مدن كدمشق، واستمرت حتى بدايات القرن العشرين.
إذا كان التاريخ يعلمنا أن الاستبداد ومعه الظلم والترف تؤذن بخراب العمران، فإنه ينذرنا، أيضا، أنه في غياب النظريات علينا أن نقلق على مآل الثورات.