"حصان طروادة" الثورات
حضرت، الأسبوع الماضي، ندوة على هامش المنتدى الاجتماعي العالمي في تونس، عن موضوع دور الإعلام العمومي في المراحل الانتقالية الديمقراطية. كان المتدخلون في الندوة من البرازيل واليونان والبرتغال وإيطاليا. وفي كل المداخلات، حاول ضيوف الندوة أن يجيبوا، من واقع تجارب دولهم، على السؤال حول كيف واجهوا أو يواجهون إصلاح الإعلام العمومي في بلدانهم، للانتقال به من إعلام في خدمة نظام سلطوي إلى أن يكون إعلاماً ديمقراطياً في خدمة الصالح العام، وبالتالي في خدمة الديمقراطية.
وعلى الرغم من تعدد الإجابات على السؤال نفسه، بحسب تعدد التجارب، فإن الأجوبة كشفت عن وجود نقاط عديدة تتلاقي عندها التجارب التي حاولت أن تجيب عن السؤال نفسه، بمقاربات متقاطعة. وخلاصة تلك المداخلات أن عملية إعادة هيكلة الإعلام العمومي أساسية وضرورية في مراحل الانتقال الديمقراطي، وكل تجربة استهانت بالإعلام ودوره في عبور مرحلتها الانتقالية تعثر مسارها، وربما انتكس، لأنها تنسى وجود "خلايا نائمة" داخل المدينة. بداية الإصلاح، كما سجل ذلك أغلب المتدخلين، يجب أن تنطلق من الإعلام العمومي، لأنه ممول من الشعب، ولأنه المطالب قبل غيره بأن يكون مستقلاً، يعكس تعدد المجتمعات وتنوعها.
أحد المشاركين في الندوة، وهو برلماني من حزب "سيريزا" اليوناني، قال إنه لا يكفي فقط إصلاح الإعلام العمومي، وإنما يجب أيضا إنهاء احتكار أصحاب المال وسيطرتهم على الجزء الآخر من الإعلام الخاص الذي يستعمل "حصان طروادة"، لإفشال تجارب الانتقال الديمقراطي من الداخل. وقال مشارك من البرازيل إنه لا يجب أن نكتفي فقط بتحميل الأنظمة المستبدة، وحدها، عرقلة إصلاح الإعلام، وإنما يجب أن ننظر، أيضاً، إلى القوى السياسية والدينية والاجتماعية المناهضة للتغيير التي لا تريد إعادة هيكلة الإعلام، ومنحه درجة من الاستقلالية والحرية، لأنها تدرك أنه سيكون ضد مصالحها.
وعندما ننظر إلى ما حصل في أكثر من بلد عربي، بعد الثورات التي عرفتها هذه البلدان، سنكتشف أن الأنظمة الجديدة التي قامت بعد الثورات إما أهملت إصلاح الإعلام، أو أنها لم تكن تريد إصلاحه. وفي الحالتين، لم تدرك قوى التغيير الحقيقية التي كانت وراء الثورات أهمية الالتفات إلى إصلاح الإعلام الذي تحول، في معظمه، إلى "طابور خامس" طعن الثورات من الخلف ومن الداخل، وساعد، بل وسرّع، في الانتكاسات التي أدت إلى ما أصبح عليه الوضع، اليوم، من مأساوية في أكثر من دولة عربية.
وباستثناء تونس التي شهدت تأسيس "الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال" التي أسندت رئاستها إلى الصحافي، كمال العبيدي، الذي عرف بنضاله ودفاعه على المستوى العالمي عن حرية الصحافة والتعبير، ليس في بلده فقط في زمن الديكتاتورية، وإنما، أيضاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لم نشهد أية تجربة مماثلة في باقي الدول الأخرى التي قامت فيها ثورات. لكن، على الرغم من المجهود الذي بذلته هذه الهيئة ستصطدم، في النهاية، مع معارضات من داخل النظام الجديد في عهد حكومة "الترويكا"، أدت إلى إفشال إصلاح الإعلام، وكان من نتائج ذلك أن تلك الحكومة وأحزابها ستسقط نتيجة لضربات الإعلام الذي رفضت إصلاحه. وهي، اليوم، مسؤولة عن الثمن الذي ما زالت تؤديه بلادها وشعبها، بسبب استمرار الإعلام نفسه الذي يريد أن يعود بتونس إلى عهد ما قبل الثورة.
أما في مصر فقد كان مشهد تحول الإعلاميين كاريكاتوريا، مضحكاً ومحزناً في الوقت نفسه، من مديح الحاكم المستبد إلى التملق للثورة والثوار، قبل مهاجمتهم والعودة إلى التمسح بأعتاب السلطة.
ما تعيشه، اليوم، الثورات التي شهدتها المنطقة، أو ما تبقى منها من انتكاسات، هو، في جزء منه، نتيجة لتأخر إعادة هيكلة شاملة للإعلام، لتحويله من إعلام رسمي في خدمة الحاكم إلى إعلام عمومي في خدمة الشعب. وأيضاً، نتيجة للتأخر في وضع مجالس أو هيئات مستقلة وديمقراطية، تتولى الإشراف على تنظيم الإعلام وحمايته من كل التدخلات. ولكن، أيضاً وأساساً، يعزى إلى عدم وجود إرادة سياسية حقيقية عند مَن تولوا زمام السلطة، لحظة انفجار الثورات، لإعادة هيكلة الإعلام وإصلاح القوانين التي تنظم حرية الصحافة والتعبير وتضمنها. وباستثناء التجربة التونسية، لم تضع أية تجربة أخرى قوانين جديدة تؤطر فضاءات حرية الرأي والتعبير، طبقا للمعايير الدولية ذات الصلة.
يضاف إلى ذلك أن الإعلاميين لم يبادروا بأنفسهم إلى وضع تنظيمات ذاتية مستقلة، لحماية مهنتهم، والدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية التي رفعت شعاراتها الثورات العربية. كما لم نشهد تأسيس لجان يقظة من إعلاميين ومثقفين وفنانين وحقوقيين وفاعلين سياسيين ومواطنين مهمومين بقضايا أوطانهم، للدفاع عن حرية الرأي والتعبير، وحمايتها من كل التدخلات والتجاوزات، باعتبارها قيمة كونية وجوهرية تهم الجميع.
لكن، لا يجب فقط تحميل المسؤولية إلى الإعلام الذي صنعته الأنظمة الديكتاتورية، أو إلى الإعلاميين الذين رضعوا من ضرع السلطة، وتشبعوا من لبنها، فالمسؤولية تقع، أيضاً، وبدرجة أكبر على الإعلاميين من الصحافيين المهنيين، الحاملين قيم الحرية والمدافعين عن المهنية، لأنهم لم يبادروا إلى تأسيس نماذج إعلامية منافحة عن قيم الحرية والديمقراطية، وتستجيب لمعايير الاستقلالية والمهنية التي طالما دافعوا عنها، وناضلوا من أجلها، وحلموا بها. فالعيب كان وما زال فينا، قبل أن نحمّل ضعفنا وعجزنا لغيرنا.