26 سبتمبر 2018
احتفالات موسكو اليتيمة في ذكرى الانتصار على النازية
هناك عامل مشترك واحد على الأقل بين احتفالات روسيا بمناسبة انتصارها على النازية في مرحلة الحرب الباردة والوقت الراهن، عدا عن الاستعراض العسكري الكبير في الساحة الحمراء في موسكو، وتلويح وزير الدفاع بيده من العربة المفتوحة، وإلقاء كلمة نارية من على منصّة الكرملين المطلّة على الساحة. عدا عن هذا كله، بقيت الاحتفالات محصورة على القادة المقربين لموسكو من دون مشاركة قادة القوى العظمى، بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وألمانيا وغيرها من الدول، ذات الثقل الدولي الكبير. هذا ما كان عليه الوضع في أثناء الحرب الباردة، وها هو يتكرّر حالياً بعد ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم، وتدخّلها المعلن والخفيّ في أوكرانيا.
ربَط القادة الأوروبيون، بشكل مباشر أو مبطّن، عدم مشاركتهم احتفال الكرملين بسياسة موسكو العدوانية تجاه أوكرانيا، وهذا هو الاستعراض اليوبيليّ الكبير الأول الذي يمرّ من دون حضور ومشاركة القادة الأوروبيين ودول التحالف. كما هو معروف، انتهت الحرب العالمية الثانية بتاريخ 8 مايو/أيار 1945 وفي اليوم التالي التاسع من مايو، أعلنت ألمانيا الاستسلام الكامل، وفي الوقت الذي تحتفل فيه موسكو بمناسبة مرور 70 سنة على انتصارها، تعاني أوكرانيا من مشكلات أصولية، وإمكانية تقسيم أقاليمها.
دول التحالف لا ترغب بتصعيد الأزمة
استقبل المجتمع الليبرالي الروسي بارتياح أنباء عدول زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، عن الحضور إلى موسكو، للمشاركة في احتفالات الكرملين، ولم يكن متوقّعاً أن يغادر بلاده إلى الخارج بالطبع، وقد أقدم على إعدام وزير دفاعه بقذيفة مدفع مضاد للطائرات، لمعارضة الوزير على ما يبدو سياسة الزعيم الكوري. ليس كيم وحده الذي رفض المشاركة ومباركة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بل أقدم ألكسندر لوكاشنكو رئيس روسيا البيضاء وأحد أقرب المقربين إليه على مقاطعة احتفالات الكرملين. وكما هو متوقّع، لم يشارك الرئيس الأوكراني، بترو بوروشنكو، مفضّلاً المشاركة في احتفالات بولندا في السابع والثامن من مايو/أيار.
كانت المقاطعة الدولية متوقّعة، ولم تفاجئ موسكو، حسب ما قال سيرغي أوتكين مدير قسم التقييم الاستراتيجي لمركز الدراسات في أكاديمية العلوم الروسية، والذي أوضح أنّ موسكو كانت على استعداد لاستيعاب هذه المقاطعة سيكولوجياً، وأثرت المقاطعة سلبياً في نفوس رجال السياسة الروس المنتقدين للنخبة السياسية في الكرملين دون غيرهم. هذا ليس أمراً سارّاً على أيّة حال، لكن النقد والعداء الذي تواجهه موسكو، حالياً، لا يفوق العدائية التي تعرّضت لها موسكو، حين أقدمت على ضمّ القرم، ورفعت من معدّلات تدخّلها في أوكرانيا بشكل عام.
وعلى الرغم من ذلك، تدرك موسكو جيّداً أنّها باتت بعيدة عن حلفائها الأوروبيين الذين شاركوا في الاحتفالات على مستوى سفرائهم فقط، مذكّرين بمرحلة الحرب الباردة التي امتدت حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي.
لكن العلاقة ما بين دول التحالف مع ذلك كله ما زالت قائمة، وبثّت قنوات التلفزة الأميركية أفلاماً وثائقية بشأن الحرب العالمية الثانية، والدور الذي لعبته الولايات المتحدة لحسم المعركة مع القوات النازية، وساهمت أميركا بمعدات ومنتجات عسكرية وآليات بقيمة تقارب 11 مليار دولار، بدءاً من العام 1943 وحتّى نهاية الحرب، وهذه قيمة كبيرة في تلك المرحلة.
أنجيلا ميركل إلى موسكو
مع انتهاء الاحتفالات الرسمية في موسكو، سارعت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، إلى زيارة الكرملين، والتقت بالرئيس بوتين، ووضعا باقة زهور على ضريح الجندي المجهول، لكنّ ميركل، وللمرّة التالية على التوالي، انتقدت بوتين، لضمّه شبه جزيرة القرم قبل قرابة العام، معتبرة الخطوة بأنّها خارجة على التشريعات والقوانين الدولية.
انحنت ميركل أمام النصب، تخليداً لذكرى ملايين القتلى من الجيش الأحمر الذي حال دون انتصار النازية في الحرب العالمية الثانية وقالت، "سنتذكّر دائماً أنّ الشعب السوفييتي ومقاتلي الجيش الأحمر هم الذين ضحّوا كثيراً لحسم الحرب العالمية الثانية، والتضحيات بمثابة درس مُرّ يفيد بإمكانية إيجاد حلول دبلوماسية للمشكلات المستعصية، كالتي نواجهها في الوقت الراهن". وأضافت أنّ تقارير منظّمة الأمن والتعاون الأوروبية تشير إلى وجود أدلّة لخروقات كثيرة متعلقة باتفاقية مينسك الدولية من الانفصاليين، وما يزال القتال مستمرّاً على جبهات عديدة في شرق أوكرانيا، وترى أنّ الرئيس الروسي يمتلك آليات للضغط والحيلولة دون استمرار هذه الوضعية المقلقة. وأكّدت أنّ سوء العلاقات بين روسيا وألمانيا يعود، بصورة أساسية، إلى احتلال القرم وتصعيد الأزمة في أوكرانيا. وقد أجاب بوتين، بدوره، أنّ الإقليم مرّ بتجارب أصعب وأكثر حرجاً، وأكّد ضرورة رفع مستوى التعاون المشترك مع ألمانيا، ووعد أن تقدّم موسكو كلّ ما بوسعها لحلّ الأزمة في شرقيّ أوكرانيا.
كيري إلى موسكو
بعد انتهاء الاحتفالات الروسية بأيام، زار وزير خارجية الولايات المتحدة، جون كيري، موسكو، وأجرى محادثات مع زميله الروسي، سيرغي لافروف، أربع ساعات، تبعها لقاء مع الرئيس بوتين، وامتدّ اللقاء أربع ساعات وخمس دقائق، قدّم خلالها بوتين لضيفه نبيذاً صنع في شبه جزيرة القرم. وهناك دلالات كثيرة يحملها اللقاء، خصوصاً تقديم منتج قرميّ المنشأ، باعتباره أحد المنتجات الوطنية، وهي رسالة مبطّنة بعدم التطرّق لشأن ضمّ روسيا لشبه الجزيرة باعتبار القضية منتهية، ولا تقبل النقاش والجدل، كما فعلت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، في الزيارة التي سبقت زيارة كيري. وتشير الخمس دقائق الإضافية التي أمضاها مع كيري، كذلك إلى أنّ الكلمة الفصل في روسيا تعود إلى بوتين دون غيره. الدبلوماسي الأميركي هو أوّل القادة السياسيين الأميركيين الذي زاروا موسكو، إثر الخلاف الذي اندلع ما بين موسكو والعالم الغربي، نتيجة التدخل الروسي، وتصعيد الأزمة الأوكرانية في نهاية العام 2013.
ويرى يوري أوشاكوف المستشار السياسي للرئيس بوتين، أنّه من الصعب اعتبار الزيارة اختراقاً للحصار والمقاطعة الغربية، لكنّها مبادرة منطقية للدولتين الكبريين، لتفهّم الأوضاع وتبعات الأزمة، وضرورة التوصّل إلى اتفاق، ورفع مستوى التعاون المشترك لحلّ القضايا والملفات المستعصية. وفي مقدمتها ملفّ الأزمة الأوكرانية. وأكّد كيري ضرورة تنفيذ اتفاقية مينسك التي تناستها الأطراف المعنية، ووعد بوتين بتقديم الدعم لحلّ الخلاف بين أطراف النزاع في أوكرانيا. وللمرّة الأولى، ألمح جون كيري إلى أنّ واشنطن تفضّل رفع الحصار الاقتصادي المعلن ضدّ روسيا، بعد أن يستتبّ الأمن في أوكرانيا بالكامل. وطرح، أيضاً، شرط تنفيذ كل البنود التي وردت في اتفاقية مينسك، لرفع الحصار الاقتصادي نهائياً عن روسيا.
من الطبيعي أن تتغيّر منزلة التاسع من مايو في روسيا، لم تعد هذه المناسبة عيداً شعبياً بالقدر الذي باتت فيه مناسبة حكوميّة، لأنّ ذكرى الحرب أضحت باهتة، والشاب الذي شارك في الحرب العالمية الثانية في الثامنة عشرة من عمره، بلغ التسعين، وقلّة على قيد الحياة حتى هذه المرحلة المتقدّمة من العمر. تشير بيانات مركز "ليفادا" - معهد الدراسات الاجتماعية المستقل، إلى ارتفاع نسبة المواطنين الروس الذين يعتبرون هذه المناسبة حكومية أكثر منها شعبية، ولا يرون ضرورة لتنظيم استعراضات عسكرية، والقيام باحتفالات ضخمة، وانخفضت نسبة الأهالي الذين يشعرون بالأسى، نتيجة لفقد أحبّائهم في الحرب العالمية إلى 18%، كما ارتفعت نسبة المواطنين الذين يشكّكون في صحّة البروتوكولات السرية ما بين ألمانيا والاتحاد السوفييتي، الواردة في اتفاقية "مولوتوف – ريبنتروب"، معاهدة عدم الاعتداء، والتي أبرمت بين ألمانيا والاتحاد السوفييتي في موسكو 23 أغسطس/آب 1939. ويبدو بوتين شخصياً متناقضاً بشأن هذا التاريخ، حيث نشر، أخيراً، مقالاً جاء فيه أنّ والده لم يشعر بالكراهية تجاه الألمان خلال الحرب العالمية، بل كان، ببساطة، يلاحقهم على أرض المعركة.
ذكرى انتصار أم استعراض
لا شكّ أنّ ظلّ الحرب العالمية الثانية وذكراها باتت بعيدة، ويصعب استثمارها لكسب التعاطف. لكن، يمكن تجييرها لعرض العضلات، واستعراض القوات العسكرية والقدرات الكامنة للجيش الروسي، وللتذكير بأنّ التلاعب والعبث مع روسيا أمرٌ في منتهى الخطورة، ومرفوض جملة وتفصيلاً. وأنّ روسيا قادرة على البقاء، مهما ارتفع حجم المخاطر الخارجية. وفي هذا السياق، استخدمت السلطات الروسية رمزاً شعبياً ووطنياً، سَهُلَ تداوله في روسيا، وبين فئات المجتمعات المناصرة لروسيا في أوروبا وحول العالم، والرمز شارة تحوي ثلاثة خطوط سوداء وخطين برتقاليين، ويبلغ طول شارة غيورغي قرابة 30 سنتمتراً، تثبت على السترات وحقائب النساء وفي الأماكن الظاهرة في الجسم، واستخدمت بشكل واسع في الذكرى الستّين للحرب العالمية الثانية قبل عشر سنوات. ولهذه الشارة بعد نفسي كبير، تمكّن من تجييش كل أنصار روسيا حول العالم. لكن هذه الشارة أخذت بعداً سياسياً أكثر راديكالية، حين استخدمه المنشقون في شرق أوكرانيا لتمييز أنفسهم عن باقي المواطنين في الإقليم، كما استخدمت صورة ستالين، أخيراً، ووزّعت على مواطنين كثيرين، تعبيراً عن التعاطف مع روسيا، من دون أن تثير هذه الخطوة حفيظة السلطات المحلية ورموز الدولة.
فيلم وثائقي روسي
احتفل بوتين بطريقته الخاصة بمرور 15 عاماً على توليه السلطة في روسيا، قبل احتفالات موسكو الأخيرة، وأنتجت قناة "روسيا 1" الفيلم الوثائقي "الرئيس"، وهو سلسلة من الحوارات أجراها مقدّم البرامج، فلاديمير سوفوليوف، المقرّب من الكرملين مع الرئيس بوتين.
وبشأن مكافحة الإرهاب في إقليم القفقاس، ذكر بوتين المقولة الشهيرة المنسوبة لزعيم المافيا الأميركي، آل كابوني (الكلمة الطيبة المرافقة لمسدس "سميت آند ويلسون" تترك أثراً أفضل بكثير من الكلمة الطيبة مجرّدة. وكان محقاً للأسف)، هذه المداخلة في الحوار تشير إلى جوانب أساسية في شخصية بوتين الذي بدأ مسيرته السياسية مستخدماً القوّة ضدّ المتمردين والانشقاقيين في جمهوريات سوفييتية عديدة سابقة، وفي مقدّمتها القفقاس، وقال في فيلم الرئيس، أيضاً، إنّ العالم قرّر حلول نهاية وجود روسيا في شكله المعهود، في نهاية القرن الماضي، والسؤال الذي أرّق قادة سياسيين عديدين "متى سيحدث ذلك، وما هي التبعات المترتبة على اختفاء نموذج روسيا التقليديّ؟".
وتحدث الرئيس كذلك عن الحرب مع الشيشان التي حوّلته بطلاً قومياً، وتناول الأحداث الدموية التي اندلعت في ميدان العاصمة الأوكرانية، كييف، والأحداث التي تبعتها في شبه جزيرة القرم والألعاب الأولمبية في سوتشي. وتحدّث عن الأعمال الإرهابية في بسلان ومركز إقليم دوبروفسكا. وقد ظهر الرئيس بوتين في الفيلم مخلّصاً للشعب الروسي، وتخلّل الفيلم لقطات نادرة لم تنشر من قبل للرئيس، وهو يتحدث مع ممثلي قطاع العمل والنخبة في روسيا.
لا شكّ أنّ الحقبة الزمنية التي امتدّ خلالها حكم الرئيس ليست قصيرة، وفي منتهى الأهمية، إثر تغيّر الإيديولوجية الوطنية والحكومية وذوبان جبال الجليد من الأفكار والعقائد السابقة. وتمكّن بوتين، خلال هذه الحقبة، من رفع مكانة روسيا على الصعيدين، الدولي والعالمي، ورأينا كيف حدّد توجّهات روسيا وأولوياتها في منطقة الشرق الأوسط، ودفاعه المستمر عن نظام الأسد، وتدخّله الحاسم في أوكرانيا. ويعد الفيلم، بحدّ ذاته، توظيفاً لتخليد بوتين رئيساً فذّاً لروسيا، ويعيد إلى الأذهان العقلية التمجيدية السابقة للزعماء السوفييت، المتوّجين حتى الممات، على الرغم من تقدّمهم في العمر.
هذا هو الرجل الذي يواجه الغرب وأميركا، ويصرّ على المضيّ في هذه المواجهة من دون التنازل عن الإنجازات التي توصّل إليها في القرم وأوكرانيا. فهل سيتمكّن بوتين من احتواء الحصار، ورفض مطالب القادة الأوروبيين وأميركا بالعدول عن سياسة المواجهة؟