23 نوفمبر 2019
إسلاميو السودان ومتلازمة الإنكار
ربما يكون أحد المخارج القليلة الكلفة، لكي يخرج السودان من أزمته المستحكمة، ومن حالة انغلاق الأفق التي ظلت تلفه في جناحها الكئيب منذ ربع قرن، أن يهجر الإسلاميون حالة المكابرة الطويلة التي لا ينفكون يعيدون إنتاجها ويلبسونها، كل وقتٍ جديد، أثواباً جديدة. ففي نهاية الأمر، طال الزمن أم قصر، لن يصح إلا الصحيح. والصحيح هو أن يعترف الإسلاميون بأخطائهم القاتلة، وأن يقرّوا بأن السودان ملك لجميع مواطنيه، وأن حلحلة إشكالاته لا يمكن أن ينجزها تنظيم واحد، وإنما جميع أهل البلاد بمختلف توجهاتهم.
السودان بحاجة إلى صيغةٍ جديدةٍ للشراكة السياسية الشاملة التي لا ينبغي أن تستثني أحدًا، بما في ذلك الإسلاميون أنفسهم، على الرغم من أنهم أقصوا الجميع عن الإسهام بالرأي والقرار في ما يتعلق بمصير البلاد ربع قرن، اتسم الأداء السياسي فيه بالأخطاء القاتلة. على الإسلاميين أن يقفوا قليلاً ليتصالحوا مع فكرة ألا تكون لهم اليد الطولى التي خصوا بها أنفسهم، بحد السلاح، قهرًا وغلبةً للآخرين، من غير أن يكون لهم إنجازٌ يذكر، بل خراب فاق تصور أكثر السودانيين تشاؤما.
ليس من السهل على السياسي أن يعترف بأخطائه. بل، وفقًا للمفاهيم القاصرة السائدة، التي تُمارس وفقها السياسة في عالم اليوم، تميل غالبية السياسيين إلى الاعتقاد أن الاعتراف بالأخطاء سذاجة، تصل إلى حد اختيار الانتحار السياسي. لذلك، نجد أن الغالبية العظمى من السياسيين تفضل المكابرة على الاعتراف بالأخطاء، وتتجنب، من ثم، العمل الصادق الذي يقود إلى تعديل المسار. هذا في حين أن الاعتراف بالخطأ، وإفساح المجال للغير، إن اقتضى الأمر، هو النهج القويم الذي ينبغي أن يسلكه السياسي المحترم.
يراهن السياسيون الذين ينتهجون خط الإنكار والمكابرة على أن الزمن كفيلٌ بأن يجعل الناس ينسون الأخطاء. كما أن المكابرة ونهج المناورات يمنحانهم الفرصة لشراء مزيد من الوقت، فيه يتمكّنون من إنجاز ما يغطي على الإخفاقات المتراكمة، غير أن هذا القبيل من السياسيين لا ينتبه إلى حقيقة أن هذا النهج لا يصلح في كل الأحوال؛ خصوصاً في حالة الأخطاء البنيوية التي لا يفيد معها كسب مزيدٍ من الوقت. والحالة السودانية، المنغلقة الأفق، منذ وقتٍ ليس قريباً، تمثل تجسيدًا حيًا لحالة الأخطاء البنيوية ذات النتائج الكارثية المزمنة، وهي أخطاء جوهرية، ارتكبها الإسلاميون، عبر ربع القرن المنصرم، وهي حالة لا تجدي معها المكابرة، كما لا تجدي معها محاولات شراء مزيدٍ من الوقت.
جاء الإسلاميون إلى الحكم في السودان، في عام 1989، على ظهر الدبابة وصادروا بعنف كل الأصوات السياسية في البلاد. ولأنهم جاءوا بإيديولوجية الإسلاميين الموروثة منذ النصف الأول من القرن العشرين، التي لم تخضع للمراجعة النقدية، والنظر الواقعي إلى الأمور، ظنوا أنهم مبعوثو العناية الإلهية، لا للسودان وحسب، وإنما إلى العالم الإسلامي بأكمله. كان بصرهم مشدودًا إلى ما هو خارج الحدود، ولم يروا في السودان سوى منصة للقفز، منها ينطلقون لإخراج المسلمين مما حسبوه ظلمات الدولة القطرية، إلى نور الأممية الإسلامية.
الخطأ البنيوي الرئيس، الذي وقع فيه إسلاميو السودان، وفي مقدمتهم الشيخ حسن الترابي، هو انتهاج سياسة خارجية شديدة التطرف، أملتها الأوهام الإيديولوجية، وعازتها القراءة العقلانية للواقع السياسي؛ القطري، والدولي، والإقليمي. انتدب إسلاميو السودان أنفسهم للاضطلاع بمهمةٍ، هي أكبر من حجمهم مليون مرة، إذ لم يكن يوجد في تنظيمهم، ولا في القطر السوداني الذي اختطفوه بقوة السلاح من أهله، ما يعينهم على الاضطلاع بمثل هذه المهمة الضخمة، فضلا عن أن المهمة، في الأساس، مهمة خطأ.
وضع إسلاميو السودان أنفسهم، ومن ورائهم القطر السوداني، منذ البداية، في مواجهة الدول العربية الخليجية التي اعتبروها صنائع استعمارية. كما وضعوا أنفسهم، والقطر برمته، في مواجهة الغرب الذي يرون فيه القوة المهيمنة التي تصنع للدول الخليجية سياساتها، وتجعل منها، في نظرهم، معوقًا لـ "التحول الإسلامي". أيضًا سعى إسلاميو السودان إلى زعزعة أمن دول القرن الإفريقي المجاورة، بدعم الجماعات الإسلامية التي تماثلهم في تلك الدول. وسرعان ما جاءتهم لحظة الاختبار، في ما يخص علاقتهم بمحيطهم العربي، وفهمهم متطلبات أمنه، حين غزا صدام حسين الكويت. فوقع السودان، بسبب موقفهم الملتبس من ذلك الغزو المنكر، في دائرة ما سُميَّ وقتها "دول الضد". وظل السودان قابعًا في دائرة "دول الضد"، منذ ذلك التاريخ، على الرغم من التمثيل الدبلوماسي مع الدول العربية، والمجاملات الروتينية، والابتسامات الصفراء.
بعد ثلاثة أعوام فقط من موقف حكومة الإسلاميين السودانيين من غزو الكويت، وصل أسامة بن لادن إلى السودان، كما وصل الإرهابي الدولي المعروف، كارلوس. وهكذا وضعت حكومة الإسلاميين القطر السوداني في بؤرة الاهتمامات الأمنية الدولية، فجرى تصنيفه دولة راعية للإرهاب، ما قاد إلى حصاره ومقاطعته اقتصاديًا. وتداعت حلقات سلسلة الأخطاء البنيوية، بالإسلاميين في السودان، إلى الارتماء كلياً في الحضن الإيراني. وهكذا أحدث إسلاميو السودان، أو كادوا أن يحدثوا، في السنوات العشر الماضية، أكبر خرق لمنظومة الأمن القومي العربي، خصوصاً أمن الدول العربية المشاطئة للبحر الأحمر، وهي السعودية، ومصر، واليمن.
في غضون المسار الشائك والمضطرب لتجربة الإسلاميين في الحكم، وقعوا في الخلافات، فانشطروا إلى شقين. فهم، على الرغم من أنهم عملوا، منذ قدومهم، على اختراق أحزاب المعارضة وشقها، لم يفلحوا في حماية تنظيمهم من الانشقاق. وبسبب محاربتهم كل من لم ينتم إلى تنظيمهم في أمنه الشخصي ورزقه، فقدت البلاد، عبر موجاتٍ من الهجرة الكثيفة، خيرة عقولها. وعلى الرغم من تراكم الأخطاء التي دلت على ضرورة تعديل المسار، سار الإسلاميون وراء حساباتهم الخاطئة، حتى انفصل الجنوب، واشتعلت الحروب في ما تبقى من أطراف السودان. وما لبث أن انهار الاقتصاد، وأصبحت الحكومة التي تتسول قوت يومها، ولسخرية الأقدار، من ذات الدول العربية التي فكرت، يومًا ما، في إطاحة أنظمتها.
انتهز من بقي ممسكا بالسلطة في السودان من الإسلاميين محاولة الحوثيين ابتلاع الدولة اليمينة، فهرعوا، عبر سيل من التصريحات الداعمة للملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، وعبر إعلان استقلاليتهم عن ما يسمى "التنظيم العالمي للإخوان المسلمين" أن يعيدوا أنفسهم إلى الصف العربي، أو، على الأقل، إلى طرف منه. وقبل هذا بقليل، طرح رئيس الجمهورية مبادرة للحوار الوطني، اشرأبت لها أعناق جميع السودانيين، ولكن، سرعان ما نفر منها الجميع، لخلوها من أي قصد أصيل للخروج من المأزق. وهكذا استمر نهج الإنكار والمكابرة.
بالرجوع إلى حضن الدول الخليجية، مرة أخرى، ربما يكون الذين بقوا من إسلاميي السودان في السلطة، قد اشتروا لأنفسهم بعض الوقت، لا أكثر. فالأصح أن يرجعوا داخليًا إلى شعبهم، بعد أن يتوبوا من الأوهام التي عصفت بهم. عليهم أن يعودوا إلى السودانيين بعقلٍ وقلبٍ مفتوحين، ليجدوا لأنفسهم وللبلاد مخرجًا سلميًا، وإلا فلن يعصم شراء الوقت من السيناريو الليبي أو السوري، طال الزمن أم قصر، مع ملاحظة أن هذا السيناريو أصبح قابلًا، أكثر من أي وقت مضى، لأن تكون لداعش، ولمثيلاته، فيه اليد العليا. فإسلامية إسلاميي السودان ليست مما يبرئ الذمة لدى داعش.
ليس من السهل على السياسي أن يعترف بأخطائه. بل، وفقًا للمفاهيم القاصرة السائدة، التي تُمارس وفقها السياسة في عالم اليوم، تميل غالبية السياسيين إلى الاعتقاد أن الاعتراف بالأخطاء سذاجة، تصل إلى حد اختيار الانتحار السياسي. لذلك، نجد أن الغالبية العظمى من السياسيين تفضل المكابرة على الاعتراف بالأخطاء، وتتجنب، من ثم، العمل الصادق الذي يقود إلى تعديل المسار. هذا في حين أن الاعتراف بالخطأ، وإفساح المجال للغير، إن اقتضى الأمر، هو النهج القويم الذي ينبغي أن يسلكه السياسي المحترم.
يراهن السياسيون الذين ينتهجون خط الإنكار والمكابرة على أن الزمن كفيلٌ بأن يجعل الناس ينسون الأخطاء. كما أن المكابرة ونهج المناورات يمنحانهم الفرصة لشراء مزيد من الوقت، فيه يتمكّنون من إنجاز ما يغطي على الإخفاقات المتراكمة، غير أن هذا القبيل من السياسيين لا ينتبه إلى حقيقة أن هذا النهج لا يصلح في كل الأحوال؛ خصوصاً في حالة الأخطاء البنيوية التي لا يفيد معها كسب مزيدٍ من الوقت. والحالة السودانية، المنغلقة الأفق، منذ وقتٍ ليس قريباً، تمثل تجسيدًا حيًا لحالة الأخطاء البنيوية ذات النتائج الكارثية المزمنة، وهي أخطاء جوهرية، ارتكبها الإسلاميون، عبر ربع القرن المنصرم، وهي حالة لا تجدي معها المكابرة، كما لا تجدي معها محاولات شراء مزيدٍ من الوقت.
جاء الإسلاميون إلى الحكم في السودان، في عام 1989، على ظهر الدبابة وصادروا بعنف كل الأصوات السياسية في البلاد. ولأنهم جاءوا بإيديولوجية الإسلاميين الموروثة منذ النصف الأول من القرن العشرين، التي لم تخضع للمراجعة النقدية، والنظر الواقعي إلى الأمور، ظنوا أنهم مبعوثو العناية الإلهية، لا للسودان وحسب، وإنما إلى العالم الإسلامي بأكمله. كان بصرهم مشدودًا إلى ما هو خارج الحدود، ولم يروا في السودان سوى منصة للقفز، منها ينطلقون لإخراج المسلمين مما حسبوه ظلمات الدولة القطرية، إلى نور الأممية الإسلامية.
الخطأ البنيوي الرئيس، الذي وقع فيه إسلاميو السودان، وفي مقدمتهم الشيخ حسن الترابي، هو انتهاج سياسة خارجية شديدة التطرف، أملتها الأوهام الإيديولوجية، وعازتها القراءة العقلانية للواقع السياسي؛ القطري، والدولي، والإقليمي. انتدب إسلاميو السودان أنفسهم للاضطلاع بمهمةٍ، هي أكبر من حجمهم مليون مرة، إذ لم يكن يوجد في تنظيمهم، ولا في القطر السوداني الذي اختطفوه بقوة السلاح من أهله، ما يعينهم على الاضطلاع بمثل هذه المهمة الضخمة، فضلا عن أن المهمة، في الأساس، مهمة خطأ.
وضع إسلاميو السودان أنفسهم، ومن ورائهم القطر السوداني، منذ البداية، في مواجهة الدول العربية الخليجية التي اعتبروها صنائع استعمارية. كما وضعوا أنفسهم، والقطر برمته، في مواجهة الغرب الذي يرون فيه القوة المهيمنة التي تصنع للدول الخليجية سياساتها، وتجعل منها، في نظرهم، معوقًا لـ "التحول الإسلامي". أيضًا سعى إسلاميو السودان إلى زعزعة أمن دول القرن الإفريقي المجاورة، بدعم الجماعات الإسلامية التي تماثلهم في تلك الدول. وسرعان ما جاءتهم لحظة الاختبار، في ما يخص علاقتهم بمحيطهم العربي، وفهمهم متطلبات أمنه، حين غزا صدام حسين الكويت. فوقع السودان، بسبب موقفهم الملتبس من ذلك الغزو المنكر، في دائرة ما سُميَّ وقتها "دول الضد". وظل السودان قابعًا في دائرة "دول الضد"، منذ ذلك التاريخ، على الرغم من التمثيل الدبلوماسي مع الدول العربية، والمجاملات الروتينية، والابتسامات الصفراء.
بعد ثلاثة أعوام فقط من موقف حكومة الإسلاميين السودانيين من غزو الكويت، وصل أسامة بن لادن إلى السودان، كما وصل الإرهابي الدولي المعروف، كارلوس. وهكذا وضعت حكومة الإسلاميين القطر السوداني في بؤرة الاهتمامات الأمنية الدولية، فجرى تصنيفه دولة راعية للإرهاب، ما قاد إلى حصاره ومقاطعته اقتصاديًا. وتداعت حلقات سلسلة الأخطاء البنيوية، بالإسلاميين في السودان، إلى الارتماء كلياً في الحضن الإيراني. وهكذا أحدث إسلاميو السودان، أو كادوا أن يحدثوا، في السنوات العشر الماضية، أكبر خرق لمنظومة الأمن القومي العربي، خصوصاً أمن الدول العربية المشاطئة للبحر الأحمر، وهي السعودية، ومصر، واليمن.
في غضون المسار الشائك والمضطرب لتجربة الإسلاميين في الحكم، وقعوا في الخلافات، فانشطروا إلى شقين. فهم، على الرغم من أنهم عملوا، منذ قدومهم، على اختراق أحزاب المعارضة وشقها، لم يفلحوا في حماية تنظيمهم من الانشقاق. وبسبب محاربتهم كل من لم ينتم إلى تنظيمهم في أمنه الشخصي ورزقه، فقدت البلاد، عبر موجاتٍ من الهجرة الكثيفة، خيرة عقولها. وعلى الرغم من تراكم الأخطاء التي دلت على ضرورة تعديل المسار، سار الإسلاميون وراء حساباتهم الخاطئة، حتى انفصل الجنوب، واشتعلت الحروب في ما تبقى من أطراف السودان. وما لبث أن انهار الاقتصاد، وأصبحت الحكومة التي تتسول قوت يومها، ولسخرية الأقدار، من ذات الدول العربية التي فكرت، يومًا ما، في إطاحة أنظمتها.
انتهز من بقي ممسكا بالسلطة في السودان من الإسلاميين محاولة الحوثيين ابتلاع الدولة اليمينة، فهرعوا، عبر سيل من التصريحات الداعمة للملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، وعبر إعلان استقلاليتهم عن ما يسمى "التنظيم العالمي للإخوان المسلمين" أن يعيدوا أنفسهم إلى الصف العربي، أو، على الأقل، إلى طرف منه. وقبل هذا بقليل، طرح رئيس الجمهورية مبادرة للحوار الوطني، اشرأبت لها أعناق جميع السودانيين، ولكن، سرعان ما نفر منها الجميع، لخلوها من أي قصد أصيل للخروج من المأزق. وهكذا استمر نهج الإنكار والمكابرة.
بالرجوع إلى حضن الدول الخليجية، مرة أخرى، ربما يكون الذين بقوا من إسلاميي السودان في السلطة، قد اشتروا لأنفسهم بعض الوقت، لا أكثر. فالأصح أن يرجعوا داخليًا إلى شعبهم، بعد أن يتوبوا من الأوهام التي عصفت بهم. عليهم أن يعودوا إلى السودانيين بعقلٍ وقلبٍ مفتوحين، ليجدوا لأنفسهم وللبلاد مخرجًا سلميًا، وإلا فلن يعصم شراء الوقت من السيناريو الليبي أو السوري، طال الزمن أم قصر، مع ملاحظة أن هذا السيناريو أصبح قابلًا، أكثر من أي وقت مضى، لأن تكون لداعش، ولمثيلاته، فيه اليد العليا. فإسلامية إسلاميي السودان ليست مما يبرئ الذمة لدى داعش.