27 أكتوبر 2024
ألف باء السياسة
منذ بداية الحراك السوري، طور باحثون سوريون، وانضم إليهم أيضاً باحثون أجانب، نظرية تبريرية، ذات أسس منطقية، وتحمل جوانب موضوعية، تتعلق بالجهل الماحق لنخبهم بالممارسة السياسية القائمة على فهم عميق لأساسيات علم السياسة والقواعد المبدئية للعلاقات الدولية، ولمعطيات علم التفاوض ومؤشرات التحولات الجيوبوليتيكة التي تؤثر، مباشرة أو بشكل غير مباشر، على قضاياهم المحورية.
وفي هذا الإطار، تم التطرّق بشكل معمّق، وحتى مكرر، إلى تصحير المجال العام، إبّان عقود من الاستبداد السياسي، بوجهيه "الساذج" و"الخبيث"، أي منذ قيام الوحدة مع مصر سنة 1958، مروراً بتعاقب الحقب البعثية، بدءاً من سنة 1963، ووصولاً إلى مرحلة التدمير الشامل، القائمة على أيدي الأولاد والأحفاد. وقد تمخّض هذا عن أشكال متنوعة ومُبدعة في منع التعبير بأشكاله السياسية والثقافية والإعلامية كافة، إلا في حدود "المشروع الوطني" وتحت "سقف الوطن". عبارتان أضحتا، على الرغم من جماليتهما اللغوية النسبية، محملتين بالقميء من المعنى، ومن الهدف.
أُمّمت الحياة الحزبية، وتحوّلت النقابات العمالية إلى مستوعبات مصالح، تتقاطع بين مُمثليها "الاشتراكيين" ومُمثلي حقل الأعمال "الرأسماليين" على حساب العمال. وتشوّه دور النقابات المهنية على مراحل، لتصير، كما باقي النقابات العمالية، تجمعات زبائنية، يُضاف لها وظيفةٌ أمنية أسّست لـ "فن" الوشاية القائم على التجسس والنميمة. كما استعملتها السلطة الحاكمة، مُمثّلةً بأذرعها الأمنية المختلفة، في عملية إعادة توزيع "المناصب" والأعطيات. وتمت مماثلة الأنظمة التعبوية الأكثر عسفاً في التاريخ الحديث، من خلال الإطباق على كل مجالات التعبير المجتمعي، من خلال ما اصطلح على تسميتها "المنظمات الشعبية"، والتي أحاطت بأسلاكها الشائكة النفسية والمادية بأجيال متلاحقة من السوريات ومن السوريين.
فالطفل، وبعد خروجه من مرحلة الحضانة، ينخرط في "منظمة طلائع البعث"، وعندما يتجاوز المرحلة الابتدائية، تتطوّر عملية الهيمنة النفسية والترهيبية، ليصير عضواً في "اتحاد شبيبة الثورة". وما يلبث أن يأمل، هو أو أهله، بالخلاص عند وصوله إلى المرحلة الجامعية، ليتلقفه "اتحاد الطلبة". وتتم زراعة عقلية التميّز السياسي، من خلال منح مزايا لمن يكون ولاؤه أكبر، ليس للوطن بالطبع، بل لمن يُسيطر عليه في الواقع وفي الخطاب. وعلى هامش هذا المنهج "التخريبي" للذهنية النقدية، ولتكوّين الشخصية منذ الصغر، وللتعويض "الروحي"، قامت هياكل دينية، بمعرفة ومباركة سلطوية، أو من دونها، ونشرت الغث من الفكر الظلامي الذي وجدت فيه أجيال كاملة ملجأً من الهيمنة "العقائدية" السلطوية. فحُطِّم الشباب من كل حدبٍ وصوب.
ولعبت أحزاب ما تسمى "الجبهة الوطنية التقدمية" دور حاملي الشموع في الصالات المعتمة. وقد زودت الهيمنة الاستبدادية بمشروعية لدى السذّج من المراقبين. وأنهت، بالتالي، كل مشروعية، ولو تاريخية، لمن يُمثّل منها فعلاً أحزاباً كانت لها صولة وجولة في ميادين السياسة والمجتمع، كالحزب الشيوعي السوري بفروعه.
وأما الحقل الثقافي، فقد تم تطويعه، ترهيباً أو ترغيباً أو حتى تهجيراً وسجناً وقتلاً. وانعكس هذا على الإنتاج المعرفي أيضا، حيث أصبح مؤطّراً ومقيّداً إلى درجات عالية. وعلى الرغم من الاستثناءات الإبداعية، فإن الجو العام كان سلبياً، ما أثّر جليّاً أيضاً على تواصل المثقفين في المجتمع، ليس خياراً وإنما إجباراً، بحيث هيمنت الأجهزة الأمنية على مجمل المنابر الثقافية والتواصلية. وفي ظل غياب المجتمع المدني، ومنظماته الناشطة لحساب المنظمات الشعبية والنقابات المهنية المؤطّرة أمنياً، فقد المجتمع أي دور له، إلا فيما عدا العمل الخيري المراقب والموجّه. وبالتالي، افتقدت أجيال بأكملها، ليس فقط ثقافة الممارسة السياسية، ولا بل أيضا ثقافة العمل المدني القائمة على الجماعية والتطوعية والتفاعلية.
هذا كله، وأكثر، أدى إذاً إلى "نجاح" لغة التبرير التي امتشقناها في بداية الثورة السورية، لمحاولة الإجابة عن أسباب الخلل في الأداء السياسي لقوى المعارضة الخارجة من الظلمات، أو من السجون، أو من بلاد اللجوء.
ولكن، السؤال الذي يطرح نفسه، وبقوة، تكاد تصفع أغلب الوجوه الخاملة: هل يمكن أن يستمر هذا الوضع، بعد مرور خمس سنوات؟ هل يمكن القبول بأداء هزيل ومتضعضع ومتقلّب وشخصاني وأناني، بعد سقوط مئات آلاف الشهداء؟ هل يمكن القبول بتحليلات فهلوية، تتعلق بالعلاقات الدولية، وبحسابات مغلوطة ومبنية على خبرة "الكشتبنجي"، بعد ملايين اللاجئين؟ هل يمكن القبول بأن يركض سفراء الدول الغربية في أروقة الفنادق، باحثين عن المعارض "الحردان"، لاستعادته إلى غرفة الاجتماع، بعد هذا الدمار المادي والمعنوي الهائل؟ هل يمكن القبول أن يتدلّل معارض، مهما كان تاريخه وسنوات سجنه، بين الفينة والأخرى، للحصول على مكتسبات آنية، ذاتية أو حزبية أو تكتلية، والسوريون يملأون المتوسط جثثاً؟ هل يمكن أن يقتنع أحد السوريين فيما سيلي من الأيام بأن من ادعى تمثيل مطالبه الاحتجاجية، ومن "ركب" موجته الثورية، ومن استغل مأساته، هو منه وإليه؟
الجهل ليس عيباً، ولكن رفض التعلّم هو المعيب. الطالب يتعلم العلوم السياسية في أربع سنوات. وأنتم ما زلتم "تضربون بالمندل"، بعد خمس سنوات من المقتلة السورية.
أُمّمت الحياة الحزبية، وتحوّلت النقابات العمالية إلى مستوعبات مصالح، تتقاطع بين مُمثليها "الاشتراكيين" ومُمثلي حقل الأعمال "الرأسماليين" على حساب العمال. وتشوّه دور النقابات المهنية على مراحل، لتصير، كما باقي النقابات العمالية، تجمعات زبائنية، يُضاف لها وظيفةٌ أمنية أسّست لـ "فن" الوشاية القائم على التجسس والنميمة. كما استعملتها السلطة الحاكمة، مُمثّلةً بأذرعها الأمنية المختلفة، في عملية إعادة توزيع "المناصب" والأعطيات. وتمت مماثلة الأنظمة التعبوية الأكثر عسفاً في التاريخ الحديث، من خلال الإطباق على كل مجالات التعبير المجتمعي، من خلال ما اصطلح على تسميتها "المنظمات الشعبية"، والتي أحاطت بأسلاكها الشائكة النفسية والمادية بأجيال متلاحقة من السوريات ومن السوريين.
فالطفل، وبعد خروجه من مرحلة الحضانة، ينخرط في "منظمة طلائع البعث"، وعندما يتجاوز المرحلة الابتدائية، تتطوّر عملية الهيمنة النفسية والترهيبية، ليصير عضواً في "اتحاد شبيبة الثورة". وما يلبث أن يأمل، هو أو أهله، بالخلاص عند وصوله إلى المرحلة الجامعية، ليتلقفه "اتحاد الطلبة". وتتم زراعة عقلية التميّز السياسي، من خلال منح مزايا لمن يكون ولاؤه أكبر، ليس للوطن بالطبع، بل لمن يُسيطر عليه في الواقع وفي الخطاب. وعلى هامش هذا المنهج "التخريبي" للذهنية النقدية، ولتكوّين الشخصية منذ الصغر، وللتعويض "الروحي"، قامت هياكل دينية، بمعرفة ومباركة سلطوية، أو من دونها، ونشرت الغث من الفكر الظلامي الذي وجدت فيه أجيال كاملة ملجأً من الهيمنة "العقائدية" السلطوية. فحُطِّم الشباب من كل حدبٍ وصوب.
ولعبت أحزاب ما تسمى "الجبهة الوطنية التقدمية" دور حاملي الشموع في الصالات المعتمة. وقد زودت الهيمنة الاستبدادية بمشروعية لدى السذّج من المراقبين. وأنهت، بالتالي، كل مشروعية، ولو تاريخية، لمن يُمثّل منها فعلاً أحزاباً كانت لها صولة وجولة في ميادين السياسة والمجتمع، كالحزب الشيوعي السوري بفروعه.
وأما الحقل الثقافي، فقد تم تطويعه، ترهيباً أو ترغيباً أو حتى تهجيراً وسجناً وقتلاً. وانعكس هذا على الإنتاج المعرفي أيضا، حيث أصبح مؤطّراً ومقيّداً إلى درجات عالية. وعلى الرغم من الاستثناءات الإبداعية، فإن الجو العام كان سلبياً، ما أثّر جليّاً أيضاً على تواصل المثقفين في المجتمع، ليس خياراً وإنما إجباراً، بحيث هيمنت الأجهزة الأمنية على مجمل المنابر الثقافية والتواصلية. وفي ظل غياب المجتمع المدني، ومنظماته الناشطة لحساب المنظمات الشعبية والنقابات المهنية المؤطّرة أمنياً، فقد المجتمع أي دور له، إلا فيما عدا العمل الخيري المراقب والموجّه. وبالتالي، افتقدت أجيال بأكملها، ليس فقط ثقافة الممارسة السياسية، ولا بل أيضا ثقافة العمل المدني القائمة على الجماعية والتطوعية والتفاعلية.
هذا كله، وأكثر، أدى إذاً إلى "نجاح" لغة التبرير التي امتشقناها في بداية الثورة السورية، لمحاولة الإجابة عن أسباب الخلل في الأداء السياسي لقوى المعارضة الخارجة من الظلمات، أو من السجون، أو من بلاد اللجوء.
ولكن، السؤال الذي يطرح نفسه، وبقوة، تكاد تصفع أغلب الوجوه الخاملة: هل يمكن أن يستمر هذا الوضع، بعد مرور خمس سنوات؟ هل يمكن القبول بأداء هزيل ومتضعضع ومتقلّب وشخصاني وأناني، بعد سقوط مئات آلاف الشهداء؟ هل يمكن القبول بتحليلات فهلوية، تتعلق بالعلاقات الدولية، وبحسابات مغلوطة ومبنية على خبرة "الكشتبنجي"، بعد ملايين اللاجئين؟ هل يمكن القبول بأن يركض سفراء الدول الغربية في أروقة الفنادق، باحثين عن المعارض "الحردان"، لاستعادته إلى غرفة الاجتماع، بعد هذا الدمار المادي والمعنوي الهائل؟ هل يمكن القبول أن يتدلّل معارض، مهما كان تاريخه وسنوات سجنه، بين الفينة والأخرى، للحصول على مكتسبات آنية، ذاتية أو حزبية أو تكتلية، والسوريون يملأون المتوسط جثثاً؟ هل يمكن أن يقتنع أحد السوريين فيما سيلي من الأيام بأن من ادعى تمثيل مطالبه الاحتجاجية، ومن "ركب" موجته الثورية، ومن استغل مأساته، هو منه وإليه؟
الجهل ليس عيباً، ولكن رفض التعلّم هو المعيب. الطالب يتعلم العلوم السياسية في أربع سنوات. وأنتم ما زلتم "تضربون بالمندل"، بعد خمس سنوات من المقتلة السورية.