داعش.. الوحشية تتحالف مع الصورة والفنون

19 يوليو 2015
+ الخط -
العالم الذي نعيش فيه اليوم مصنوع من صور وكلمات وأصوات مجنونة وألوان قاتلة. كيفما توجهنا، وأينما نظرنا سوف نرى الصور ومقاطع الفيديو والأخبار والوسائط كلها توجه نشاطها وعملها حول حدث بعينه أو أحداث بعينها، أو مواضيع تتركز عليها الأضواء الساطعة، وبعدما صارت الوسائط المتعددة متغلغلة في حياتنا، لا يمكن أن ننأى بأنفسنا عن ضجيج رسائلها وصخبه. كذلك أمكنة عيشنا، فالشوارع والساحات والمواقف والمؤسسات، الخاصة والعامة، والمرافق والأندية، وكل حيز ندخله أو نمر به، سوف تصدمنا الصور والأصوات والألوان والأخبار والرسائل. فلو أُوقف كل شيء عن البث، ولو نُزعت الصور، ومنعت صفحات التواصل ومواقع النت عن تحميل مقاطع الفيديو، هل يمكن أن نكون أمام عالم مختلف؟ وهل يمكن لداعش، هذا الغول الخرافي الذي ولد ناضجاً مكتملاً محمولاً على أسطورة معولمة، أن يكف عن أن يكون؟ 
لم يأت داعش من الفراغ، ولا من الماضي، ولا من الصحراء والبداوة، ولا من بطون كتب التاريخ والتراث والفقه والسير، المترعة بالعنف. بل قام عليها مجتمعةً، مستفيداً من معطيات حضارة فائقة الذكاء سريعة، لا تملك وقتاً لالتقاط أنفاسها ونقد ذاتها، فيما إذا كانت حضارة إنسانية رحيمة، أم تحبل بالشر ولا يمكنها ألا تلده. داعش هذا الذي بات كل فرد ينتمي إلى المجتمع البشري الحالي يعيش كوابيسه، ولا يمكنه أن يتكهن بطريقة موته وتوقيته على أيدي عناصر هذا التنظيم، أشهر نفسه وبرنامجه الموجه إلى العالم مجتمعاً منذ البداية، برسائل دقيقة مدروسة ممنهجة، مستفيدة من التقنية العالية، وأخذ يضخ صور مقاتليه ومقاطع الفيديو التي تظهر أسلوبهم وأدواتهم وشريعتهم في إدارة الحياة، مستنداً إلى حقائق علوم النفس والمجتمع والتاريخ والاقتصاد والسياسة والمعلومات والأخلاق والقيم والدين، ماضياً وحاضراً. أفلام وصور مخرجة بأسلوب محكم، يجيد إبراز الرمزية واستثارة الخيال عند المتلقي، وخلق عوالم يُرمى من ورائها أن يُبرمج هذا المتلقي، بشكل واعٍ أو غير واعٍ، وفق الأفكار المحمولة بالرمز والمطروحة للاستهلاك والتمثل، عن طريق التوجيه والإقناع بالإيحاء، الموارب حيناً أو المباشر أحياناً، فالاثنان مهمان.
ينفذ داعش إلى الوجدان الجمعي والوعي الجمعي، عن طريق الثغرات التي اكتشفها لدى المستهدفين الذين يعانون من اضطراب أو خلل نفسي أو روحي، في عصر يزداد فيه الاغتراب عن الذات، ويزداد الظلم والاستعباد، إن كان على مستوى الأنظمة وشعوبها، أم على مستوى الدول والقوى الأقوى تجاه الأضعف، فيكتشف هذا المستهدف "أناه" التائهة الضائعة، وذلك في لذة يستثيرها رمز يحمل قيمة جمالية أو بطولية، فمقاطع الفيديو التي يبثها التنظيم عن قطع عناصره الرؤوس بطريقة فيها من الغرابة والاستثارة حدّ التماهي مع الحكايات والأساطير، تحمل رموزاً ودلالات أخرى تحوي حداً كبيراً من الفتنة والغواية، فالأفراد الذين يقومون بعملية قطع الرؤوس، وحتى التسديد في عمليات رمي الرصاص، هم شباب أشداء بأجساد قوية متناسقة ممشوقة لافتة، ولباس فيه من الغرابة الفاتنة حدّ كبير يكرّس صوراً حسية ذكورية، كصور نقيضة لما كرسه الإعلان والإشهار والتسويق، في العقود الطويلة الماضية، من صور حسية كانت المرأة مركزها وموضوعها.

ارتبطت الصور الحسية، هنا، بالقتل المقدس البطولي، المرتبط بالجهاد لإعلاء كلمة الله، وتصويب مسيرة العالم ودفعها في الاتجاه القويم، تحت إمرة الدولة التي ابتدعها هذا التنظيم. حتى الصور القليلة التي ضخها التنظيم للخليفة كانت صوراً تدغدغ الخيال، وتكرس صورة نمطية جديدة لرجل يقود أمة بأمر إلهي، في نظرته شيء من الغموض، تشي بغياب مربك، على الرغم من سطوة حضوره، يتماهى مع الغيبيات ورهبتها، فتضفي هذه النظرة وتلك السحنة الغريبة مع لباسه المختلف الذي يبدو كما لو أنه قفز للتو من كتب الحكايا والأساطير، هالة تستثير الخيال، وتدفعه إلى تمثل رمزية الحالة، خصوصاً لارتباطها بالمقدس. هذه الصور والمقاطع المرسلة والأفكار المعبر عنها شفهياً أو برمزية الأداء، تؤثر في جمهور المتلقين بطرق مختلفة، لكنها ليست بالضرورة كلها ترفض أو تستهجن، فهي تحرر الطاقات الخيالية، وتحفزها وتحولها إلى مجموعة من الحالات الوجدانية، تجعل من الوجود الواقعي أمراً مقبولاً ومحتملاً، مهما كانت قسوته، ومهما كانت العلاقة به مرتبكة، خصوصاً عند الشخصيات المضطربة التي تنتمي إلى مجتمعات لها مشكلاتها النفسية، فتخلق حلمهم وتستثير عوالم جديدة في خلدهم، ببعديها الرمزي والمعياري، وهالتها الأسطورية، وتدفعهم إلى الانخراط في هذا التنظيم الخارق، خصوصاً لما يرافق هذه الرسائل المبثوثة من أفكار وقصص وأساطير حول الموت والبعث والتطهير والنار والجنة والثواب والعقاب، في عصر يزداد فيه الفراغ الروحي، وتعود الأسئلة الوجودية إلى المقدمة، بزخم كبير وإلحاح ضاغط، خصوصاً بعد أن عادت فكرة البحث عن الإله الذي أعلن عن موته، في القرن الماضي، والعقود التي سبقته، في مواجهة حضارة غارقة في المادية.
لكن، أن يصل الأمر بمصمم أزياء بريطاني مشهور، إلى تصميم أزياء مستوحاة من داعش، من لباس مقاتليها، من الكاريزما التي ظهروا بها في مقاطع الفيديو، وهم يقطعون الرؤوس، فهذا أمر يستدعي الوقوف عنده والترقب والبحث، إنه تكريس لنهج وثقافة يفتكان بالبشرية، وهل أخطر من رفع الوحشية إلى مراتب القيمة والجمال؟ هل يُغفر للفن أن يقوم بأداء وظيفة من هذا النوع؟ كيف يمكن للجمال أن يتصالح مع العنف والقتل والتشويه؟ تصميم الأزياء فن قائم بذاته، يستوعب الإبداع ويسخر الخيال في صنع الجمال، كيف يمكن تسخيره في ترويج فكر حاقد على الحياة، إقصائي، يدعو إلى القتال وانتهاك الكرامات والأرواح؟ لا يمكن للفن أن يكون إنسانياً إذا لم يؤدّ وظائف ورسائل إنسانية.
داعش، هذه الجريمة المباركة، هل هي في طريقها لأن تكون علامة تجارية استثنائية تسم القرن الحادي والعشرين؟ هل داعش هو "سينييه" العصر التي تدعمها القوى المسيطرة على العالم، وعلى مقادير الشعوب، تمدها بالسلاح والعتاد والمال، وتمنحها عناوين أطروحاتها وبرامجها، ثم تباركها بجعل الفن يرفعها إلى مراتب الجمال، لتصبح سفيرة النيات غير الحسنة، تنشر أفكارها وعقيدتها في بقاع الأرض؟

دلالات
سوسن جميل حسن
سوسن جميل حسن
سوسن جميل حسن
كاتبة وروائية سورية.
سوسن جميل حسن