19 سبتمبر 2022
العرب وتهتّك الوعي التاريخي
في كتابه القيم (مدخلات إلى الحداثة.. المقدمات الاثني عشر) المنشور أصلا عام 1962، والمترجم والمنشور بالإنكليزية عام 1995، يكتب هنري لفيبفر: التاريخ يواصل مسيرته قوة اغترابية، على الرغم من الوعي المتزايد بالاغتراب، ذلك أن تجلياته الآنية تباغت حنكة الوعي وتصميم الإرادة، وتبقى عائمة في تأجيل دائم لوعود النهاية التي تبشر بها الأيديولوجيات. ليس للتاريخ مثيل في إبداع التنويعات على سخرية القدر، وليس هناك من يدانيه مكراً في التلاعب بالمتناقضات. يكفي، هنا، أن نتذكر النتائج العكسية التي انتهت إليها أكثر أشكال التدخل فيه ادعاءً بالجذرية والشمولية، والعواقب السلبية التي تفتقت عنها أكثر الأفعال، توكيدا على الوعي واليقين الفلسفيين. أي مقارنة بليغة وراء استعارة النظم الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية لقفل النهاية الحتمية من نظيرتها الرأسمالية، لتترك لها ما ادعته أصلا لنفسها... أي المستقبل؟
للأسف، ما تبقّى من (معرفة) عربية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية يزداد نكوصاً وابتذالاً في مجتمعاتنا كلها، نتيجة مرور أكثر من 50 سنة على هزال من يتعلم في أروقة جامعاتنا العربية التي تحولت، اليوم، إلى مجرد ثانويات ومدارس للتلقين وترديد النصوص، فضلا عن سوء المناهج والتربويات في التعليم المدرسي والجامعي العربي، بدخول ليس المتميزين من الطلبة والموهوبين والمبدعين، بل من لم يجد له مجالاً آخر يحتويه، فيضطر لدراسة مثل هذه العلوم الصعبة والخطيرة. والعامل الآخر، سوء المناخ السياسي العام الذي تمر به الحياة العربية على عهود سياسية متخلفة جداً بازدياد الهوس الأيديولوجي وعبادة البطل وتحكّم الزعامات المتخلفة، وتفاقم مخاطر لذهنية المركبّة التي تمزج عن غباء بين المعرفة والأيديولوجيا، وبين الدين والعلم، وبين الحقائق والأوهام ... إلخ.
الثقافة العربية اليوم مصابة باللاوعي التاريخي، ليس عند العوام من الناس الذين يجهلون كلّ شيء تقريباً، وليس لدى نخب المثقفين العرب، أو الذين يتبرّعون بأنفسهم لكتابة تواريخ مختلفة ونشرها، بل حتى عند المؤرخين والمختصين الذين يحملون شهادات عليا. كثرت أخطاء المؤرّخين الذين يسمون أنفسهم "أكاديميين" بوقوعهم في أخطاء لا تغتفر، كما أن أغلبهم لا يعتني بالثقافة التاريخية، ولا يشعر كم يرتكب من أخطاء تاريخية في الثقافة والسياسة والإعلام، وحتى في المجال العام، فيسكت عنها أو يغترب عن أية تصويبات. وهناك الطفيليون الذين يتبرعون، بوازع ذاتي أو ضمن جهات يرتبطون بها، بكتابة ونشر تواريخ مزيفة وضعيفة بلغة مبهمة ومعلومات مزورة غير صحيحة، ويكتفون بإطلاق الأحكام الجائرة التي يتلقفها الآخرون باعتبارها مسلمات وحقائق. وهناك هجمة على تواريخ متعددة ومعينة، كونهم يعتبرونها أصول ما يحدث اليوم من أعمال عنف، وكونها مصادر لما يستشري من إرهاب. ناهيكم عن بقاء الصبغة السياسية والنزعات الانقسامية الأيديولوجية والدينية والطائفية والمذهبية التي استفحلت سياسياً، اليوم، في مجتمعاتنا، وباتت تتحكم كارثياً في العلوم الاجتماعية، وخصوصاً في التاريخ، كي تفسر التواريخ ضمن الرؤية العقدية والسياسية التي تؤمن بها.
من أمثلة حية على هزال الوعي التاريخي الذي نشهده عربياً، وجدت أستاذا جامعيا عربياً يدرس طلبته في جامعة عربية تاريخ أوروبا الحديث، فكان يحدثهم عن "الحزب الثوري" و "حزب الديك"، ويضيف من عنده أن شعار الأول هو الثور، وشعار الثاني هو الديك.
استفهمت منه، وصرخت بوجهه أنه حزب التوري وحزب الويك في بريطانيا! وسمعت مؤرخاً (من تونس) يترأس جلسة في مؤتمر للتاريخ، في بيروت، يقول إن مجتمع الجزائر والمغرب يتألف من "عرب وبرابرة"، فقاطعته من بعيد: يا صديقي، ماذا تقول، وأنت أمام عدسات التلفزيون؟ ما دخل البرابرة بمصطلح البربر، والأخير مصطلح عربي يعني الناس المنتقلين من بر إلى بر، وهم الأمازيغ. ولا يفرق بعض المؤرخين العرب بين حاكم مصر علي بيك الكبير، إبّان القرن الثامن عشر، ووالي مصر محمد علي باشا، إبّان القرن التاسع عشر، فيطلقون على الأخير محمد علي الكبير. وهناك، أيضاً، على الرغم من تصويب المؤرخ أسد رستم منذ العام 1925 عن تسمية الدولة العثمانية بدولة سلطنة، لا بدولة خلافة، فلم يزل السواد الأعظم من الناس يطلق عليها دولة الخلافة الإسلامية. وهذا غيض من فيض جهالة طاغية لدى العرب، وتصل حتى إلى مؤرخيهم اليوم، ويا للأسف الشديد.
الاعتراف بموضوعية التاريخ، التي لا ترادف بأي حال القول بسكونيته أو بقدريته أو استمراء ثوابته من دون تصويب الوعي الخاطئ للتاريخ، وإن ما يحدث اليوم يعادل الاعتراف بمكر خفي ومفارقات هزيلة مضحكة غير متوقعة، والإعلان عن أحكام مطلقة عن أحداث وعهود وشخوص بعيداً عن نسبيتها، أو الاعتراف بحضور الإنسان طوراً، وغيبوبته طوراً آخر. الاعتراف بهذه الموضوعية المطالب بها معرفيا يعني الدقة والمقايسة والتحقيق والاستكشاف، مع تبيان إمكانية تصّور زمنين اثنين، أولهما زمن التاريخ وثانيهما زمن الإنسان (بالمعنى الوجودي أو السايكولوجي) متباعدين أو متطابقين.
ومشكلة تبني الجهالة والأوهام أو التعاطف الأيديولوجي ومأساته السايكولوجية تنزع إلى أن تكون سياسية لا معرفية، وهي تكمن في تناسي الزمن الخاص للتاريخ، واستغفال عناصره والجهل بما سبقه، وبما لحق به من تداعيات. ذلك الزمن المتأرجح الذي ينبغي أن يعيه المؤرخ بين خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء، لا أن يتعامى عنه، مع إجراء توازن بين إيجاد ممكنات مرغوبة والابتعاد عنها ووأدها في أي لحظة تمر. مشكلة النزوع الأيديولوجي البعيدة عن الوعي المعرفي لا يمكنها أن تؤنسن التاريخ، بل تسقط عليه نهايات سعيدة أو مميتة، فتكون خارجة عن إطار المعرفة (بطريقة قد تصل إلى حد التعصب أو التطرف، كما هي الرؤية الأخروية للأديان والطوائف والمذاهب والقوميات)، ويستعجل بعضهم اليوم محو الفواصل بين ما هو قائم وما لم يحن أوان قيامه ونشوئه بعد. وعليه، باتت الضرورة ماسة إلى كل هذا الاختزال للأيديولوجيات والتربويات الخاطئة عليها، ولكي لا تمضي أجيالنا في بحر من الأخطاء بتعميم منطق الجزء على الكل، وموقف اللحظة على الزمن. ولكي لا تجعل المستقبل حتمياً، حسبما تحلم أو تظن أو تتخيّل أن الطريق إليه قويم بين وسلس وسريع، فتتكون الأوهام في عقول الناس، كما جرى على امتداد القرن العشرين، فالحلم يصبح حقيقة تاريخية، والشعار يصبح نصا مقدساً، وكأن أي حدث انقلابي عسكري قام به نفر ضال من الضباط والجنود سيقلب المجتمع من حالته البدائية إلى منتهى التطور الذي وصل إليه العالم بطرفة عين.
في المقابل، يرد المؤرخون المعرفيون أن التاريخ في وسعه الرد على تخرصات الأيديولوجيات، ليوقفها تماما عند نقطة الصفر، ليتضح أنها محطة للهذيان ليس إلا، كونها فاقدة الوعي والتمييز لما ترسب أو تبقّى من الماضي الذي رحل وزال أغلبه، ولما ينبغي أن يرحل أو يزول.
هكذا، يمكن جمع ما تقدم من حيثيات: أن صعوبة فهم التاريخ لا تكمن فقط في التوفًر على مادة دراسته من أرشيف وثائق شهادات وآثار وتواريخ مظان قديمة، وإنما أيضا في حضور العقل والرؤية وتوظيف زوايا النظر فلسفياً. وقد وجدنا أن فهم التاريخ لدى العرب يقف عند ظواهره دون جوهره، وأنه فهم لا يبرر تقديم أحكام نهائية ومطلقة عنه، أو أنه يفترض إمكانية النفاذ إلى قوانينه وركائز مساراته مع عدم القدرة على مواكبتها من دون توهمات ذاتية. فضلا عن انعدام وجود نقطة رؤيوية أخيرة، تمنح امتيازاً من أجل تصور الماضي وفق غايات ثابتة، أو حركات اجتماعية، تغدو معروفة من خلال سلاسل التاريخ ونموه، لتكون مجالاً لصراع التأويلات، في ظل الانقسامات الحالية ومصادرها التاريخية. هكذا، تتشكل في ظل تهتك مجتمعاتنا احتمالات عدة للطعن والتشويه والتزوير من خلال تأويلات حركة التاريخ. فكل تأويل يشكل مرجعية إضافة لقيمة الحدث القابل للتأويلات وعليه، فنحن بحاجة ضرورية ماسة للنقد وإعادة التشكيل.
الثقافة العربية اليوم مصابة باللاوعي التاريخي، ليس عند العوام من الناس الذين يجهلون كلّ شيء تقريباً، وليس لدى نخب المثقفين العرب، أو الذين يتبرّعون بأنفسهم لكتابة تواريخ مختلفة ونشرها، بل حتى عند المؤرخين والمختصين الذين يحملون شهادات عليا. كثرت أخطاء المؤرّخين الذين يسمون أنفسهم "أكاديميين" بوقوعهم في أخطاء لا تغتفر، كما أن أغلبهم لا يعتني بالثقافة التاريخية، ولا يشعر كم يرتكب من أخطاء تاريخية في الثقافة والسياسة والإعلام، وحتى في المجال العام، فيسكت عنها أو يغترب عن أية تصويبات. وهناك الطفيليون الذين يتبرعون، بوازع ذاتي أو ضمن جهات يرتبطون بها، بكتابة ونشر تواريخ مزيفة وضعيفة بلغة مبهمة ومعلومات مزورة غير صحيحة، ويكتفون بإطلاق الأحكام الجائرة التي يتلقفها الآخرون باعتبارها مسلمات وحقائق. وهناك هجمة على تواريخ متعددة ومعينة، كونهم يعتبرونها أصول ما يحدث اليوم من أعمال عنف، وكونها مصادر لما يستشري من إرهاب. ناهيكم عن بقاء الصبغة السياسية والنزعات الانقسامية الأيديولوجية والدينية والطائفية والمذهبية التي استفحلت سياسياً، اليوم، في مجتمعاتنا، وباتت تتحكم كارثياً في العلوم الاجتماعية، وخصوصاً في التاريخ، كي تفسر التواريخ ضمن الرؤية العقدية والسياسية التي تؤمن بها.
من أمثلة حية على هزال الوعي التاريخي الذي نشهده عربياً، وجدت أستاذا جامعيا عربياً يدرس طلبته في جامعة عربية تاريخ أوروبا الحديث، فكان يحدثهم عن "الحزب الثوري" و "حزب الديك"، ويضيف من عنده أن شعار الأول هو الثور، وشعار الثاني هو الديك.
الاعتراف بموضوعية التاريخ، التي لا ترادف بأي حال القول بسكونيته أو بقدريته أو استمراء ثوابته من دون تصويب الوعي الخاطئ للتاريخ، وإن ما يحدث اليوم يعادل الاعتراف بمكر خفي ومفارقات هزيلة مضحكة غير متوقعة، والإعلان عن أحكام مطلقة عن أحداث وعهود وشخوص بعيداً عن نسبيتها، أو الاعتراف بحضور الإنسان طوراً، وغيبوبته طوراً آخر. الاعتراف بهذه الموضوعية المطالب بها معرفيا يعني الدقة والمقايسة والتحقيق والاستكشاف، مع تبيان إمكانية تصّور زمنين اثنين، أولهما زمن التاريخ وثانيهما زمن الإنسان (بالمعنى الوجودي أو السايكولوجي) متباعدين أو متطابقين.
ومشكلة تبني الجهالة والأوهام أو التعاطف الأيديولوجي ومأساته السايكولوجية تنزع إلى أن تكون سياسية لا معرفية، وهي تكمن في تناسي الزمن الخاص للتاريخ، واستغفال عناصره والجهل بما سبقه، وبما لحق به من تداعيات. ذلك الزمن المتأرجح الذي ينبغي أن يعيه المؤرخ بين خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء، لا أن يتعامى عنه، مع إجراء توازن بين إيجاد ممكنات مرغوبة والابتعاد عنها ووأدها في أي لحظة تمر. مشكلة النزوع الأيديولوجي البعيدة عن الوعي المعرفي لا يمكنها أن تؤنسن التاريخ، بل تسقط عليه نهايات سعيدة أو مميتة، فتكون خارجة عن إطار المعرفة (بطريقة قد تصل إلى حد التعصب أو التطرف، كما هي الرؤية الأخروية للأديان والطوائف والمذاهب والقوميات)، ويستعجل بعضهم اليوم محو الفواصل بين ما هو قائم وما لم يحن أوان قيامه ونشوئه بعد. وعليه، باتت الضرورة ماسة إلى كل هذا الاختزال للأيديولوجيات والتربويات الخاطئة عليها، ولكي لا تمضي أجيالنا في بحر من الأخطاء بتعميم منطق الجزء على الكل، وموقف اللحظة على الزمن. ولكي لا تجعل المستقبل حتمياً، حسبما تحلم أو تظن أو تتخيّل أن الطريق إليه قويم بين وسلس وسريع، فتتكون الأوهام في عقول الناس، كما جرى على امتداد القرن العشرين، فالحلم يصبح حقيقة تاريخية، والشعار يصبح نصا مقدساً، وكأن أي حدث انقلابي عسكري قام به نفر ضال من الضباط والجنود سيقلب المجتمع من حالته البدائية إلى منتهى التطور الذي وصل إليه العالم بطرفة عين.
في المقابل، يرد المؤرخون المعرفيون أن التاريخ في وسعه الرد على تخرصات الأيديولوجيات، ليوقفها تماما عند نقطة الصفر، ليتضح أنها محطة للهذيان ليس إلا، كونها فاقدة الوعي والتمييز لما ترسب أو تبقّى من الماضي الذي رحل وزال أغلبه، ولما ينبغي أن يرحل أو يزول.
هكذا، يمكن جمع ما تقدم من حيثيات: أن صعوبة فهم التاريخ لا تكمن فقط في التوفًر على مادة دراسته من أرشيف وثائق شهادات وآثار وتواريخ مظان قديمة، وإنما أيضا في حضور العقل والرؤية وتوظيف زوايا النظر فلسفياً. وقد وجدنا أن فهم التاريخ لدى العرب يقف عند ظواهره دون جوهره، وأنه فهم لا يبرر تقديم أحكام نهائية ومطلقة عنه، أو أنه يفترض إمكانية النفاذ إلى قوانينه وركائز مساراته مع عدم القدرة على مواكبتها من دون توهمات ذاتية. فضلا عن انعدام وجود نقطة رؤيوية أخيرة، تمنح امتيازاً من أجل تصور الماضي وفق غايات ثابتة، أو حركات اجتماعية، تغدو معروفة من خلال سلاسل التاريخ ونموه، لتكون مجالاً لصراع التأويلات، في ظل الانقسامات الحالية ومصادرها التاريخية. هكذا، تتشكل في ظل تهتك مجتمعاتنا احتمالات عدة للطعن والتشويه والتزوير من خلال تأويلات حركة التاريخ. فكل تأويل يشكل مرجعية إضافة لقيمة الحدث القابل للتأويلات وعليه، فنحن بحاجة ضرورية ماسة للنقد وإعادة التشكيل.