19 أكتوبر 2019
إسلام فرنسا لا الإسلام في فرنسا
كثيراً ما يقول مسؤولون فرنسيون إنهم يريدون "إسلام فرنسا" وليس "الإسلام في فرنسا". قد تبدو هذه العبارة متناقضة مع مبادئ العلمانية التي تقوم عليها الجمهورية الفرنسية، كونها محايدة وتقف، حسب تصور العلمانيين الأوائل (لأن الوضع تغير بعض الشيء اليوم) على المسافة نفسها من كل الأديان، ذلك أن الحياد يعني أن المنظومة العلمانية لا تحدد هوية الأديان ومضامينها، والمهم هو احترام الأخيرة المبادئ العلمانية التي يحميها القانون.
لكن، لماذا لا يطالب هؤلاء بـ "كاثوليكية فرنسا" و"يهودية فرنسا"، وليس "الكاثوليكية في فرنسا" و"اليهودية في فرنسا"؟ يعود ذلك إلى جملة من العناصر يمكن تلخيصها في الآتي. أولاً، كون الديانتين سابقتين للعلمانية في فرنسا. وبالتالي، تعاملتا معها منذ البداية، واستقر أمر "العلاقة" بينهما وبين العلمانية.
ثانياً، ومن ثم فالعلمانية الفرنسية تأسست في بيئة كاثوليكية مع وجود يهودي، وبالتالي، هي تتغذى من هذه الثقافة الكاثوليكية، فلا أحد يطالب في فرنسا، مثلاً، بإلغاء الأعياد الدينية الكاثوليكية، ولا بتغيير راحة نهاية الأسبوع من الأحد إلى يوم آخر. فالعلمانية تأسست، إذن، في بيئة ثقافية وتاريخية معينة مستوعبة، بشكل أو بآخر، الموروث المسيحي (واليهودي)، حتى وإن فصلت بين الدين والسياسية. فالجدال حول الوجبات في بعض المطاعم المدرسية شهد دفاعاً قوياً باسم العلمانية على تقديم لحم الخنزير في الوجبات، وعدم توفير وجبات بديلة (سمك مثلا)، وليس بالضرورة وجبات حلال، للتلاميذ المسلمين واليهود. بالطبع، ليس أكل لحم الخنزير من العلمانية بشيء، وإنما هو جزء من الموروث والتقاليد الدينية والثقافية.
ثالثاً، إقرار الكاثوليكية بمبادئ العلمانية لا يعني قبولها، أو دعمهما، القوانين الصادرة باسم العلمانية، فقد اكتشف اليسار الحاكم أن قطاعات واسعة من الفرنسيين من المقتنعين بالعلمانية عارضوا وبشدة زواج المثليين الذي مرّرته الأغلبية اليسارية الحاكمة، على الرغم من مظاهرات ضخمة في المدن الفرنسية. بغض النظر من صواب موقفها من عدمه، فإن هذه الفئات الكاثوليكية الواسعة تُسائل بتحركها هذا حدود العلمانية.
رابعاً، بحكم تجربتها التاريخية مع المنظومة العلمانية ككل، طورت الديانتان، الكاثوليكية واليهودية، من خلال معتنقيها، استراتيجية تسمح لها بالاستمرار في مشاريعها التربوية والدينية بطرق أخرى، على الرغم من تعارضها مع مبادئ العلمانية. فمثلاً، تطور قطاع التعليم الكاثوليكي واليهودي بشكل كبير في فرنسا، ما سمح للكاثوليك واليهود بمزاولة الدراسة في مؤسسات تربوية وتعليمية، تقوم على تعاليم دينيهما، وخصوصاً عدم الدخول في صراع مفتوح مع الدولة بسبب العلمانية. وهذا ما لم يفلح فيه مسلمو فرنسا، إذ لم يطورا مؤسسات تربوية خاصة، ما جعل المغالين منهم يدخلون في مواجهة مع السلطات العمومية، بسبب سلوك مخالف للقانون.
من هذه العناصر، نفهم الفروق مع الإسلام في فرنسا، فالأخيرة حديثة العهد به، خصوصاً اجتماعياً، حيث تطورت العبادات الإسلامية بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. لكن، لماذا يعتبر بعضهم الإسلام مشكلة في فرنسا؟
هناك عوامل تفسر هذا الموقف. أولها الخلفية العنصرية لدى بعض الفرنسيين القائلين بهذه الفكرة، وهم يتوزعون على مختلف الأطياف السياسية (يمين متطرف، يمين جمهوري، يسار...)، مع تمركز واضح في اليمينين، المتطرف والجمهوري، وكلهم يتخذ العلمانية ذريعة لذلك، إلى درجة أن الحديث عن العلمانية أصبح مبرراً ومطية لاستهداف الإسلام والمسلمين. ثانيها، تنامي ممارسة العبادات لدى مسلمي فرنسا، في السنوات الأخيرة، وتغير ملامح بعض الأحياء، وواجهة بعض المحلات (محلات الأكل الحلال خصوصاً). ثالثها، تقدم الإسلام من حيث ممارسة العبادات، في وقت تتراجع فيه مزاولة العبادات الكاثوليكية، ويزداد عدد معتنقي الإسلام من الفرنسيين (يتطرف بعضهم ليصير "جهادياً"). ولا ننسى كما قلنا إن الركائز التاريخية-الحضارية للعلمانية كاثوليكية بالأساس، وبالتالي، فحتى العلماني المتشدد يرى في هذا التراجع، في وقت يتقدم فيه الإسلام، تهديداً لهويته. رابعها، الصخب الاجتماعي والسياسي والإعلامي الذي يتسبب فيه بعض المسلمين المغالين في ممارسة عباداتهم، فهم قلة قليلة، لكن نشطة للغاية، إلى درجة أنها تعطي الانطباع بأنها أغلبية. وبالطبع، يضخم المعادون للإسلام (لتغذية عدائهم وتبريره) والإعلام هذه الظاهرة. وهذا ما تبحث عنه تلك الأقلية المسلمة المتطرفة، لأن هدفها الأسمى دق إسفين بين مسلمي فرنسا وغيرهم: فهي تغذي الفئات الفرنسية المعادية للمسلمين، التي تقول، حينها، للفرنسيين، إنها محقة فيما تقول، بالنظر لسلوك الأقلية المسلمة المتطرف، وتتغذى الأخيرة بدورها من موقف ورد فعل الأقلية المعادية للمسلمين، لتقول لهم إنها محقة فيما تقول. فالعداء متبادل! فتلك الأقلية المسلمة تغالي في عباداتها، وتستفز كل من لا يمارسها بالطريقة نفسها من المسلمين، كما تستفز غير المسلمين. ومن بين مظاهر الغلو محاولة بعض المسلمين فرض نمط عيشهم على غيرهم، بارتداء الحجاب بالنسبة للنساء في أمكان (مثل المؤسسات العمومية) هو محظور فيها، والصلاة بالنسبة للرجال في الشوارع يوم الجمعة وغلقها على المارة... خامسها، تحول الإسلام من "مشكلة" اجتماعية إلى "مشكلة" سياسية-أمنية، بسبب العمليات الإرهابية المرتكبة باسمه على التراب الفرنسي، وبسبب ظاهرة "الجهاديين" الفرنسيين في مختلف مسارح "الجهاد" في المشرق والمغرب العربيين وفي الساحل. وربما، هنا، مكمن الخطر، لأن هذه الظاهرة تجعل بعضهم ينظر إلى كل مسلم على أنه إرهابي كامن أو محتمل.
إذن، يريد المسؤولون الفرنسيون في مطالبتهم بـ "إسلام فرنسا" إسلاماً منسجماً مع المنظومة العلمانية وقيم الجمهورية وولاء للجمهورية الفرنسية، وليس للدول التي ينحدر منها مسلمو فرنسا... هكذا تسير فرنسا على خطى الدول العربية-الإسلامية التي تقول بوجود إسلام محلي (سعودي، تونسي، أردني، مغربي، جزائري، مصري...) لتتبرأ من إسلام "الجهاديين" والإرهابيين، محاولة التأكيد على شرعية إسلامها الرسمي... لكن، بحكم ديمقراطيتها ومنظومتها العلمانية، يصعب على فرنسا بناء إسلام رسمي.
ثانياً، ومن ثم فالعلمانية الفرنسية تأسست في بيئة كاثوليكية مع وجود يهودي، وبالتالي، هي تتغذى من هذه الثقافة الكاثوليكية، فلا أحد يطالب في فرنسا، مثلاً، بإلغاء الأعياد الدينية الكاثوليكية، ولا بتغيير راحة نهاية الأسبوع من الأحد إلى يوم آخر. فالعلمانية تأسست، إذن، في بيئة ثقافية وتاريخية معينة مستوعبة، بشكل أو بآخر، الموروث المسيحي (واليهودي)، حتى وإن فصلت بين الدين والسياسية. فالجدال حول الوجبات في بعض المطاعم المدرسية شهد دفاعاً قوياً باسم العلمانية على تقديم لحم الخنزير في الوجبات، وعدم توفير وجبات بديلة (سمك مثلا)، وليس بالضرورة وجبات حلال، للتلاميذ المسلمين واليهود. بالطبع، ليس أكل لحم الخنزير من العلمانية بشيء، وإنما هو جزء من الموروث والتقاليد الدينية والثقافية.
ثالثاً، إقرار الكاثوليكية بمبادئ العلمانية لا يعني قبولها، أو دعمهما، القوانين الصادرة باسم العلمانية، فقد اكتشف اليسار الحاكم أن قطاعات واسعة من الفرنسيين من المقتنعين بالعلمانية عارضوا وبشدة زواج المثليين الذي مرّرته الأغلبية اليسارية الحاكمة، على الرغم من مظاهرات ضخمة في المدن الفرنسية. بغض النظر من صواب موقفها من عدمه، فإن هذه الفئات الكاثوليكية الواسعة تُسائل بتحركها هذا حدود العلمانية.
رابعاً، بحكم تجربتها التاريخية مع المنظومة العلمانية ككل، طورت الديانتان، الكاثوليكية واليهودية، من خلال معتنقيها، استراتيجية تسمح لها بالاستمرار في مشاريعها التربوية والدينية بطرق أخرى، على الرغم من تعارضها مع مبادئ العلمانية. فمثلاً، تطور قطاع التعليم الكاثوليكي واليهودي بشكل كبير في فرنسا، ما سمح للكاثوليك واليهود بمزاولة الدراسة في مؤسسات تربوية وتعليمية، تقوم على تعاليم دينيهما، وخصوصاً عدم الدخول في صراع مفتوح مع الدولة بسبب العلمانية. وهذا ما لم يفلح فيه مسلمو فرنسا، إذ لم يطورا مؤسسات تربوية خاصة، ما جعل المغالين منهم يدخلون في مواجهة مع السلطات العمومية، بسبب سلوك مخالف للقانون.
من هذه العناصر، نفهم الفروق مع الإسلام في فرنسا، فالأخيرة حديثة العهد به، خصوصاً اجتماعياً، حيث تطورت العبادات الإسلامية بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. لكن، لماذا يعتبر بعضهم الإسلام مشكلة في فرنسا؟
هناك عوامل تفسر هذا الموقف. أولها الخلفية العنصرية لدى بعض الفرنسيين القائلين بهذه الفكرة، وهم يتوزعون على مختلف الأطياف السياسية (يمين متطرف، يمين جمهوري، يسار...)، مع تمركز واضح في اليمينين، المتطرف والجمهوري، وكلهم يتخذ العلمانية ذريعة لذلك، إلى درجة أن الحديث عن العلمانية أصبح مبرراً ومطية لاستهداف الإسلام والمسلمين. ثانيها، تنامي ممارسة العبادات لدى مسلمي فرنسا، في السنوات الأخيرة، وتغير ملامح بعض الأحياء، وواجهة بعض المحلات (محلات الأكل الحلال خصوصاً). ثالثها، تقدم الإسلام من حيث ممارسة العبادات، في وقت تتراجع فيه مزاولة العبادات الكاثوليكية، ويزداد عدد معتنقي الإسلام من الفرنسيين (يتطرف بعضهم ليصير "جهادياً"). ولا ننسى كما قلنا إن الركائز التاريخية-الحضارية للعلمانية كاثوليكية بالأساس، وبالتالي، فحتى العلماني المتشدد يرى في هذا التراجع، في وقت يتقدم فيه الإسلام، تهديداً لهويته. رابعها، الصخب الاجتماعي والسياسي والإعلامي الذي يتسبب فيه بعض المسلمين المغالين في ممارسة عباداتهم، فهم قلة قليلة، لكن نشطة للغاية، إلى درجة أنها تعطي الانطباع بأنها أغلبية. وبالطبع، يضخم المعادون للإسلام (لتغذية عدائهم وتبريره) والإعلام هذه الظاهرة. وهذا ما تبحث عنه تلك الأقلية المسلمة المتطرفة، لأن هدفها الأسمى دق إسفين بين مسلمي فرنسا وغيرهم: فهي تغذي الفئات الفرنسية المعادية للمسلمين، التي تقول، حينها، للفرنسيين، إنها محقة فيما تقول، بالنظر لسلوك الأقلية المسلمة المتطرف، وتتغذى الأخيرة بدورها من موقف ورد فعل الأقلية المعادية للمسلمين، لتقول لهم إنها محقة فيما تقول. فالعداء متبادل! فتلك الأقلية المسلمة تغالي في عباداتها، وتستفز كل من لا يمارسها بالطريقة نفسها من المسلمين، كما تستفز غير المسلمين. ومن بين مظاهر الغلو محاولة بعض المسلمين فرض نمط عيشهم على غيرهم، بارتداء الحجاب بالنسبة للنساء في أمكان (مثل المؤسسات العمومية) هو محظور فيها، والصلاة بالنسبة للرجال في الشوارع يوم الجمعة وغلقها على المارة... خامسها، تحول الإسلام من "مشكلة" اجتماعية إلى "مشكلة" سياسية-أمنية، بسبب العمليات الإرهابية المرتكبة باسمه على التراب الفرنسي، وبسبب ظاهرة "الجهاديين" الفرنسيين في مختلف مسارح "الجهاد" في المشرق والمغرب العربيين وفي الساحل. وربما، هنا، مكمن الخطر، لأن هذه الظاهرة تجعل بعضهم ينظر إلى كل مسلم على أنه إرهابي كامن أو محتمل.
إذن، يريد المسؤولون الفرنسيون في مطالبتهم بـ "إسلام فرنسا" إسلاماً منسجماً مع المنظومة العلمانية وقيم الجمهورية وولاء للجمهورية الفرنسية، وليس للدول التي ينحدر منها مسلمو فرنسا... هكذا تسير فرنسا على خطى الدول العربية-الإسلامية التي تقول بوجود إسلام محلي (سعودي، تونسي، أردني، مغربي، جزائري، مصري...) لتتبرأ من إسلام "الجهاديين" والإرهابيين، محاولة التأكيد على شرعية إسلامها الرسمي... لكن، بحكم ديمقراطيتها ومنظومتها العلمانية، يصعب على فرنسا بناء إسلام رسمي.