19 أكتوبر 2019
العالم العربي.. إلى أين؟
يزداد المشهد السياسي العربي تعقيداً، ما يجعل من الصعوبة بمكان الخوض في أي قراءة استشرافية لمستقبله لترجيح مشاهد على أخرى. لكن، يمكن القول، وبدرجة معقولة للغاية من الصواب، إن ظاهرة التعقد عربياً مرشحة للتطور، وإن اللايقين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً سيكون الميزة الأساسية للمشهد العربي على المديين، القريب والمتوسط.
فالدولة العربية اليوم مربكة، بل على المحك، فهي موجودة بين مطرقة الفواعل المحلية غير الدولتية ما دون وما فوق الدولة والفواعل الدولتية الإقليمية والعالمية. وهي عرضة للتفكك، بل بعضها تفكك وانهار (ليبيا، سورية، العراق، اليمن). وعليه، فإن التعقد والتفكك أهم ميزات المشهد السياسي العربي الراهن. يخص التعقد الدرجة العالية من تداخل العوامل والفواعل والتفاعل بين البنيوي والطارئ، وبين المحلي والخارجي، في المشهد السياسي العربي. طبعاً يحمّل الخطاب السائد في بعض أنحاء المنطقة الربيع العربي ما آلت وما ستؤول إليه الأمور. والحقيقة أن هذه محاولة يائسة لتبرئة الذات، وتحميل الغير أخطاء أنظمة جثمت، ولا زالت، على صدور شعوبها عقوداً. يمكن تشبيه الربيع العربي بحجرة رميت في بركة، لا تتجدد مياهها الراكدة، فصعد إلى سطحها العفن والرائحة النتنة. إذن، ليست ظاهرة الربيع العربي مسؤولة عن تفكك مفاصل العالم العربي، وإنما كشفت عورة الأنظمة الحاكمة السياسية. كشفتها على ثلاثة صعد: بينت مدى فشل هذه الأنظمة وتسلطها، وحتى انكشافها، على الرغم من آلتها القمعية؛ وأوضحت مدى عرضية تحالفاتها السياسية الداخلية والخارجية؛ بيّنت قدرة أنظمة أخرى على الالتفاف على المطلب الديمقراطي في البلدان "الشقيقة" وإجهاضه بـ "الموعضة الحسنة" (التحريض ضد الديمقراطية باسم الإسلام والأمن...) وبالمال وبالسلاح.
ويبدو أن الصراع بين قوى التغيير التي أتى بها الربيع العربي ومعارضيها حسم لصالح القوى المحافظة، قوى الوضع القائم والأنظمة القائمة. وحتى التجربة التونسية "الاستثنائية" بدأت تتعرض لبعض عوامل التعرية، تجعلها تحيد عن سكّتها الانتقالية. فعودة "الحرس القديم" إلى الحكم عبر الانتخابات مهدت الطريق لعودة ممارسات قديمة، بحلة جديدة، مثل سير حزب نداء تونس الحاكم على خطى الدستور السابق، والسير نحو الدولة الأمنية بفعل النشاط الإرهابي. وهنا، تجري الرياح الإرهابية بما تشتهي السفن السياسية (الإرهاب من أكبر مسوغات الدولة الأمنية). أما في التجارب المجهضة (ليبيا، سورية، اليمن، مصر)، ففي مصر تمكن النظام القديم من استعادة المبادرة وتجديد سيطرته بذرائع جديدة. لكن، بمضامين قديمة، فيما انهارت الدولة في ليبيا وسورية واليمن.
وإذا كانت الدولة العربية غير مسؤولة وحدها عن التعقد والتفكك في المشهد السياسي العربي، بالنظر إلى تنوع وتداخل العوامل وتفاعلاتها، فإنها مسؤولة عن تفكيك المنطقة. فبعض الدول العربية مسؤولة، بشكل مباشر، عن إجهاض الربيع العربي في مصر، وعن الحروب الأهلية في ليبيا، وسورية واليمن، مرتكبة خطيئة استراتيجية. فهي موّلت وسلّحت، ولا زالت تفعل فواعل غير دولتية، لضرب الأنظمة في هذه الدول، لتجد نفسها في مواجهة مفتوحة مع هذه الفواعل. ومعظم هذه الدول كان حليفاً لأميركا في حربها ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، إبّان استعانت الولايات المتحدة بتنظيمات إسلامية انقلبت عليها (بعدما انتفت الحاجة الأميركية إليها ونُطق بالطلاق بينهما) لتضرب أميركا في عقر دارها ومصالحها في مناطق عدة.
لكن، ليس هذا الرسوب السياسي المحلي وامتداداته الإقليمية وحيداً، فهذه الأنظمة رسبت في امتحان آخر؛ في تموقعها الإقليمي، كما هو الحال بشأن العلاقة مع إيران. فبعد الاتفاق بشأن النووي الإيراني، اتضح أنها في حيرة من نفسها. ادّعت، وطوال عقود، صلابة ووجاهة تحالفها مع الولايات المتحدة، لكن الأخيرة لا تشاطرها القراءة نفسها بشأن إيران. ولا نبالغ إذا قلنا إن الاتفاق حول النووي الإيراني فضح استراتيجيات بعض الدولة العربية، على مستويين على الأقل. أولاً، بيَّن أن ثقلها مهمل في لعبة الأمم، وأن مفعول تحالفها مع أميركا غير شامل. ثانياً، فضح انتقائيتها، فهي تصعّد اللهجة في ما يخص نووي إيران المحتمل، وتخفت صوتها بشأن نووي إسرائيل الحقيقي، ربما خطباً لود أميركا، فإذا بها تخسر على الصعيدين. ثم إن بعضها أوحى بأنه يسعى إلى إحلال قوى غربية أخرى، بالتقرب منها (خصوصاً فرنسا) بعد أن خاب الظن في أميركا. لكن، لهذه القوى حساباتها ومصالحها هي الأخرى، وتتقرب هي الأخرى من إيران، فبد أن أساء العرب إدارة الصراع مع إسرائيل ها هم يسيئون إدارة العلاقة مع إيران.
اقتصادياً، لا يقل المشهد العربي قتامة، فالريع هو العمود الفقرى للاقتصاد العربي. ولم تغير عقود من عائدات النفط والغاز من معالم الاقتصاد العربي وأسسه. والأغرب من ذلك أن جزءاً من هذه العائدات، ومن الودائع المترتبة عنها، تستثمر لإنقاذ اقتصاديات دول غربية من الأزمة المالية، أما الجزء المتبقي فينخره الفساد في معظمه.
اجتماعياً، ليست الأمور في أحسن حال، فالمجتمعات العربية مفككة المفاصل، هي الأخرى، وتتخبط في أزمات بنيوية، فتغول الخطاب الديني الرسمي، وغير الرسمي التبريري، بلغ مستويات غير معهودة، إلى درجة أن قطاعات واسعة من المجتمعات العربية أصبحت معنية بالأساس بقضايا دينية-اجتماعية هامشية، مديرة ظهرها لقضايا مصيرية. إذ طغت ثقافة التكفير على ثقافة التفكير، وثقافة التبرير على ثقافة المساءلة، فاختلط الحابل بالنابل، وفسد العمران. وصار الفساد عربياً مؤسسة في الدولة وفي المجتمع أيضاً، أين يتوفر له الحامل الاجتماعي، وبما أن الفساد عمّ، فإنه لا سبيل لمحاسبة المسؤولين السياسيين ومساءلتهم.
بالطبع، ليست هذه الأمور وراثية أو مرتبطة بالمزاج العربي، كما قد يدعي بعضهم، بل هي مبنية اجتماعياً وسياسياً، أي أنها خطط لها ورغب فيها. والهدف طبعاً إبعاد الشعوب عن المطلب الديمقراطي، بجعلها تتخبط في حلقة مفرغة من قضايا هامشية، لا تمس بأركان الأنظمة القائمة، لكنها تخلق حراكاً اجتماعياً يعطي الانطباع أن الجميع يدلي بدلوه في النقاش... وهذا، كمتنفس سياسي أيضاً، حتى لا يُصب جم الغضب الشعبي على الحكام. والخاسر الأكبر، في نهاية الأمر، الدولة العربية التي لم يستتب أمرها بعد.