04 نوفمبر 2024
مظلومية غزة و"ظلم" الضفة
الكاريكاتير أكثر الفنون قدرة على التحريض، حين يلوذ بالسخرية لممارسة النقد. تكثيف الحدث والأسلوب التصويري والحوار المقتضب، الزمن القصير المطلوب لتلقي المحتوى، وسرعة البديهة المطلوبة للتفاعل معه التي تستغني عن مستوى ثقافة متقدم، كل ذلك، يجعل الكاريكاتير أحد أكثر الفنون انتشاراً وجماهيرية. ولطالما استفز الكاريكاتير المشاعر المؤيدة والمعارضة في الوقت نفسه.
أخيراً، أثار رسم كاريكاتيري للرسام الغزّي، بهاء ياسين، نشره على حسابه في "تويتر"، استياء لدى الفلسطينيين، قبل أن يحذفه ويستبدله برسم جديد معدل. وكان حساب "تويتر" لصحيفة الرسالة، التابعة لحركة حماس، أعاد التغريد به، ما أكسبه انتشارا أوسع، قبل أن تتدارك الصحيفة الأمر، وتحذفه، لتصدر توضيحاً واعتذاراً. ولا حاجة لسرد مضمون الرسم الكاريكاتيري، طالما ما زال متاحا ومتداولا، بنسختيه، على الشبكة الإلكترونية. وأعلن الناطق باسم وزارة الداخلية في غزة نية الوزارة اتخاذ الإجراء القانوني بحق بهاء ياسين الذي أساء، حسب وصفه، للشعب ولثقافته ومقاومته ونضاله.
لكن، إذا صرفنا النظر عن عدم بقاء ياسين وفيا لفنه، حين لم يفرّق بين السخرية أداة للنقد الهادف، والسخرية في مستواها الشعبي الأكثر ابتذالا، فإن الرسم الكاريكاتيري لم يأت من فراغ، بل يعبّر، بشكل أو بآخر، عن توجه بدأ يستحوذ على غزّيين عديدين، في المستويين الشعوري واللاشعوري، مفاده التساؤل: لم علينا حمل أعباء القضية الفلسطينية، وأن نعاني وحدنا، أليس من العدل أن يعاني غيرنا كما نعاني؟
في صيف العام 2005، اعتبرت السلطة الفلسطينية الانسحاب الإسرائيلي من غزة، تتويجا لجهودها الدبلوماسية والتفاوضية، بينما اعتبرته حماس نصرا لها، ولتوجهاتها في عسكرة النضال الفلسطيني. بدأ مسلحو كتائب عز الدين القسام بالظهور العلني والإعلامي في القطاع بمناسبة وبدونها، ورفعت الحركة شعار "شركاء الدم شركاء القرار". قبل محمود عباس، ومعه حركة فتح وفصائل المنظمة، بشراكة حماس، وجرت انتخابات رئاسية وتشريعية، فضّلت حماس خوض الثانية، لتفوز بغالبية مقاعد المجلس التشريعي، وتشكل حكومة رفضتها إسرائيل، ومن خلفها المجموعة الدولية المانحة والراعية لاتفاقيات السلام الفلسطينية الإسرائيلية، بحجة أن حركة حماس حركة "إرهابية"، ليبدأ عقابها ومعها الشعب الفلسطيني. على الرغم من إقرار الأطراف المختلفة شكلياً بأحقية الجميع في المشاركة السياسية، إلا أن الانقسام السياسي وهيمنة العسكرة وفوضى السلاح أعاقت التداول السلمي للسلطة. وفي مواجهة الرافعة الدولية التي استندت إليها السلطة الفلسطينية، لاذت حماس برافعة إقليمية، وكان إنزال العلم الفلسطيني عن أسطح غزة لترفع مكانه رايات حماس، في صيف 2007، بمثابة إطلاق رصاص الرحمة على ما تبقى من أمل في توحيد الفلسطينيين حول مشروع وطني جامع.
بدأ الانقسام الفلسطيني الجيوسياسي الجديد يجر معه فصولاً متلاحقة من الخسائر والويلات على الفلسطينيين، حيثما وجدوا. ومع إحكام الحصار على القطاع، براً وبحراً وجواً، طيلة ثماني سنوات تعرض في أثنائها لحروب إسرائيلية مدمرة، افتقد القطاع الحد الأدنى من مقومات الحياة. ولم تخل الضفة الغربية من المعاناة. فالجدار العازل يقطّع أوصالها، والمستوطنات والمصادرات تقضم أراضيها، وقطعان المستوطنين تفتك بالبشر والحجر والشجر، والاجتياحات والاعتقالات ممارسات يومية لجنود الاحتلال الإسرائيلي. لكن، طوال تلك السنوات كان يجري اختزال القضية الفلسطينية في حصار غزة، فباتت غزة عنواناً مستقلا ومكتفياً بذاته وبمضمونه، في المواد الإخبارية والتقارير الصحافية. ولا مبالغة في القول إن بعضهم بات يعتقد أن رام الله، مقارنة بغزة، إما إحدى أهم المدن السياحية في العالم، أو أنها لاس فيغاس أخرى. وكان صاروخ بدائي يطلقه مقاومو القطاع فيسقط في أرض مفتوحة في الجانب الآخر يحظى بكل البهرجة الإعلامية، اللازمة والفائضة عن الحاجة. وباستثناء القدس التي كان من الضروري أن تعكس أحداثها استمرار الصراع الديني، الإسلامي اليهودي، فإن النضال الشعبي المدني، كالمسيرات الأسبوعية المناهضة للجدار العازل، في قرى نعلين وبلعين وكفر قدوم والخضر وغيرها، والذي رأى فيه مناضلو الضفة أحد الوسائل المتاحة لمقاومة الاحتلال، لم يحظ بالدعم ولا بالتغطية الإعلامية اللازمة، على الرغم من استقطابه دعما ومشاركة من ناشطين ومتضامنين أجانب. ولم تنقشع الضبابية الإعلامية التي فرضت حول نضال فلسطينيي الضفة ومعاناتهم، إلا في حالات نادرة، فرضها موت أحدهم، مثل المناضل بحجم زياد أبو عين، أو طفل ببراءة علي دوابشة.
ومع كل ذلك الدعم السياسي والإعلامي لصمود القطاع، الذي لم يكن له معنى من دون الشعب الفلسطيني في غزة، لم يُقدّم دعم ملموس وفعلي، يوازي حجم الصمود والمعاناة. وكانت الخطب الرنانة المعدة للاستهلاك قوتاً يومياً لأهالي غزة. والنتيجة، سلطة فلسطينية عاجزة على طاولة المفاوضات في مواجهة المماطلة والتسويف الإسرائيلي، عديمة الحيلة ميدانيا في مواجهة الاستيطان والمستوطنين. وتركت غزة، بمدنييها ومقاوميها، يلعقون جراحهم، إن تسنى لهم ذلك في ظل حصار مستمر. كان على السياسي والعسكري أن يوضعا موضع التعارض، لتبقى الورقة الفلسطينية تحت الطلب.
أما نرجسية غزة التي جرى تضخيمها المتعمد، وبنت نفسها على تضحيات أهلها وصمودهم، فبدأت تتوارى خلف عذاباتهم ومرارة حياتهم، وبدأ كثيرون منهم يشعرون أنهم تركوا وحيدين في مواجهة آلة البطش الإسرائيلية، ولا سيما أن صمودهم البطولي لم يثمر عن دفع الظلم. أما الحديث عن هدنة تطول أو تقصر مع إسرائيل، فكان مدعاة للتساؤل بشأن جدوى كل تلك التضحيات. وكان تحول مظلومية غزة، الموظفة سياسياً وإعلامياً، إلى ظلم للضفة وأهلها، إحدى النتائج الممكنة لتلك البروباغاندا التي جعلت من غزة الخاضعة لسيطرة حماس رمزا للصمود والتمسك بالثوابت، وتكريس الضفة الخاضعة للسلطة الفلسطينية أرضاً للمساومة والتفريط. ومن هنا، نستطيع أن نقرأ الرسم الكاريكاتيري لبهاء ياسين الذي لم يتجاوز، للأسف، حتى في صيغته المعدلة حدود هذه البروباغاندا.
سابقا، في سياق المفاوضات حول عودة اللاجئين، قسّم المفاوض الفلسطيني اللاجئين الفلسطينيين، بكل سذاجة، بحسب جداول، انطلاقا من حجم معاناتهم، وجعلت أولوية العودة لمن في لبنان. اليوم، نحن أبعد ما نكون عن تحقيق حلم العودة، ومع بقاء معاناة لاجئي لبنان من الفلسطينيين مستمرة، إلا أن حالهم باتت أفضل من حال غيرهم، بل باتت مخيماتهم ملاذاً للاجئين الفلسطينيين الهاربين من أتون الأزمة السورية. من المعيب حقا أن تبقى معاناتنا، نحن الفلسطينيين، عرضة للمزايدات والاستثمار السياسي، ناهيك عن السذاجة من نخبنا السياسية، وكأنه لا ينقصنا إلا انقسامات مناطقية، ترسم حدودها كم معاناتنا والمفاضلة فيها. ألا يكفينا ما نحن فيه من انقسامات وصراع سياسي، يحاول فرض نهج فصائلي معين، وتضارب في الرؤى والأهداف والولاءات، مع استمرار نهج الاتهام والتخوين المتبادلين؟ يكفي، فقد أصبتم من الروح الفلسطينية مقتلا.