09 نوفمبر 2024
العراق.. الفساد السياسي بعد المالي
لا شك أن الخطوات التي اتخذها رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، لمحاصرة الفساد المالي في بلاده جاءت في محلها، وشكّلت استجابةً، لا تخلو من جرأة لموجة السخط الشعبي العابرة للطوائف والمناطق. ومن أبرز هذه الخطوات منع كبار المسؤولين من السفر، ودمج وزرات وإلغاء بعضها، وتحضير ملفات لإحالتها الى القضاء، وتقليص أعداد الحماية للمسؤولين وإلغاء المخصصات المالية للرئاسات. وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها الاعتراف الرسمي الواضح بوجود فساد مستشرٍ، يطاول مستويات وزارية، وما هو دونها من مستويات عالية. فيما كان رئيس الحكومة السابق، نوري المالكي، يواظب على توجيه اتهامات غير مباشرة بالإرهاب للأصوات المعترضة. وها هي الأنباء تتردد عن احتمال توجيه اتهامات للمالكي نفسه، بعضها يتعلق بسقوط الموصل في أيدي داعش في يونيو/حزيران من العام الماضي 2014.
المشكلة التي ظهرت، بعد قرارات العبادي، أنها وُوجهت باعتراضات ذات طابع دستوري وقانوني من رئيس الدولة، فؤاد معصوم، فالعبادي أقال نواب الرئيس الثلاثة: إياد علاوي ونوري المالكي وأسامة النجيفي، ومناصب نواب رئيس الوزراء، روز نوري شاويس وبهاء الأعرجي وصالح المطلك. فالقرارات صدرت من دون علم معصوم. وسبق لرئيس الحكومة السابق، المالكي، أن أقصى نائب رئيس الجمهورية، طارق الهاشمي، بدون علم الرئيس جلال الطالباني آنذاك. وفي الآونة الأخيرة، وحين شن المالكي تهجماً على السعودية، أبدى معصوم ضيقه الشديد من هذه التهجمات، لكنه لم يملك إقالة نائبه! بينما فعلها العبادي، ولأسباب أخرى، لا تتعلق بهذه التهجمات، وأقال مع المالكي علاوي والنجيفي. والمناصب الستة (نواب رئيس الدولة ونواب رئيس الحكومة) أريد بها تحقيق توازن طائفي شكلي في المناصب العليا.
باعتراض رئيس الدولة معصوم، يتبين أن هناك خللاً في آلية إصدار القرارات، وفي توزيع الصلاحيات بين رئاستي الجمهورية والوزراء. وهو ما يسميه إياد علاوي بفساد سياسي، ويرى أن هذا الضرب من الفساد كامن ابتداء في مجلس الوزراءـ بلونه السياسي والاجتماعي الواحد، وتبعا لذلك، يدعو إلى انتخابات مبكرة.
على أن أوجه الفساد السياسي المسكوت عنها عديدة ومتضافرة، وفي مقدّمها الإخلال بمبدأ السيادة والاستقلال، والتبعية لدولة أجنبية هي إيران (الأخيرة حذرت من أية محاكمة للمالكي، وكما لو أن بلاد الرافدين محافظة إيرانية). ومن مظاهر هذه التبعية وجود مليشيات مسلحة ذات ارتباط ظاهر بطهران، مع تبوؤ بعض زعمائها مراكز حكومية عليا، كحال زعيم منظمة بدر الذي يتقلد منصب وزير الداخلية. وكما هو الحال في مشاركة مسؤولين إيرانيين في قيادة الحشد الشعبي. وخلال ذلك، جعل هذا الحشد، بلونه الطائفي، رديفا للجيش الوطني، بما يشكل مساساً بمؤسسة القوات المسلحة وازدواجاً معها. تعرض العراق، في العقد الأخير، إلى ما يقترب من تغيير هويته. فبدلاً من الانتماء لمحيطه القومي، وحيث هذا البلد عضو مؤسس في جامعة الدول العربية، وشريك في معارك العرب في فلسطين، وعلى جبهة الجولان، إذا به يتحول إلى بلد منزوع عن محيطه العربي. فيما الجار الإقليمي غير العربي بات مرجعاً عالياً للسياسات الاستراتيجية الداخلية والخارجية، مع اقتران ذلك بنزعة تكريس تغليب طائفي. وليس المقصود، هنا، أنه كان على العراق التمسك بشعارات قومية فضفاضة، وتشريع التمدد والتدخلات في شؤون بلدان عربية، تحت يافطة الترابط القومي والحزب القومي، بل الغرض من الملاحظة هو التأشير الى أهمية الحفاظ على الهوية العربية للدولة، وتحقيق أكبر قدر من التواصل مع المحيط الجغرافي القومي، مع ضمان حقوق الأقليات، اللغوية والثقافية والإدارية. لم يجر تغييب الهوية العربية عن هذا البلد منذ استقلاله، سوى في العقد الأخير. وخلال ذلك، لم تعد إيران دولة جارة أجنبية في الخطاب الرسمي، ولم يعد العراق أيضا في السلوك الإيراني بلداً سيداً مستقلاً، يتخذ قراراته بملء إرادته، بل بات أقرب إلى شقيق أصغر لإيران، وكما هو حال بيلاروسيا بالنسبة إلى روسيا، بينما احتفظ الجار الإقليمي الآخر، وهو تركيا، بصفته بلداً أجنبياً.
هذه التبدلات التي تمت عبر صياغات دستورية، وفي ظروف غير طبيعية (انتشار المليشيات مثالاً) وباسم مراعاة حقوق مكونات العراق كافة، انعكست على مختلف أوجه الحياة السياسية والعامة، وأسهمت في الشحن الطائفي، ووفرت بيئة للتطرف السنّي، كما لازدهار المليشيات الشيعية التي تنتقص، أساساً، من ولاية الدولة. وبينما كان إرهاب تنظيم داعش واحتلاله الموصل، مثلاً، يتطلب تحشيدا وطنيا عاما، إذا بالحشد يكتسب، للأسف، صبغة طائفية تنأى ببقية العراقيين من الإسهام في رد غائلة الإرهاب. وإذا بانتهاكات جسيمة تستهدف مكوناً بعينه، تتم بموازاة إرهاب داعش. هذا هو الفساد السياسي والخلل الجسيم في الرؤية السياسية الذي يحول دون توحد العراقيين حول دولة لهم، ويحول دون هذه الدولة بوضعها الماثل وتمثيل العراقيين بصورة منصفة وموضوعية.
لا تقلل هذه الملاحظات من أهمية الخطوات الإصلاحية التي اتخذها العبادي لمكافحة الفساد المالي الذي طال العهد عليه، والذي استنزف ثروات العراق، وأفقر العراقيين وجعل بلدهم في مصاف الدول الفقيرة العاجزة عن توفير خدمات أساسية، مثل الكهرباء والماء، وحتى الوقود في بلد نفطي، غير أن نجاعة هذه الخطوات مرتهنة بمدى الجدية في تنفيذها بصورة نزيهة وشاملة، ثم السعي إلى إدراجها حلقة في سلسلة من الإصلاحات العامة التي تطاول بنية الدولة ومؤسساتها وآليات اتخاذ القرارات، بما يوطد سيادة هذا البلد واستقلاله، ويقيّد المليشيات المسلحة، وصولاً إلى حلها، ويحظر تشكيل أحزاب طائفية، لمساسها بعقائد الآخرين، ولما تلحقه من ضرر مشهود بالوحدة الوطنية، وتكريس الدولة المدنية.. دولة الحق والقانون التي تتخذ من إرادة الشعب والدستور مصدراً لشرعيتها، وعدم الارتهان لأية قوة خارجية، سواء كانت أميركا أو إيران أو تركيا، أو أية دولة أخرى.
وهكذا، فإن أهمية خطوات العبادي تكمن في تنفيذها، وفي عدم الاكتفاء بها أو التوقف عندها، وقد أثبتت السياسات الفئوية ضيقة الأفق، على مدى عشر سنوات، مدى عقمها، وحجم إخفاقها في معالجة سائر المشكلات، بل إنها تسببت في نشوء مشكلات فادحة، ينوء بها العراقيون من سائر الشرائح والمناطق.
المشكلة التي ظهرت، بعد قرارات العبادي، أنها وُوجهت باعتراضات ذات طابع دستوري وقانوني من رئيس الدولة، فؤاد معصوم، فالعبادي أقال نواب الرئيس الثلاثة: إياد علاوي ونوري المالكي وأسامة النجيفي، ومناصب نواب رئيس الوزراء، روز نوري شاويس وبهاء الأعرجي وصالح المطلك. فالقرارات صدرت من دون علم معصوم. وسبق لرئيس الحكومة السابق، المالكي، أن أقصى نائب رئيس الجمهورية، طارق الهاشمي، بدون علم الرئيس جلال الطالباني آنذاك. وفي الآونة الأخيرة، وحين شن المالكي تهجماً على السعودية، أبدى معصوم ضيقه الشديد من هذه التهجمات، لكنه لم يملك إقالة نائبه! بينما فعلها العبادي، ولأسباب أخرى، لا تتعلق بهذه التهجمات، وأقال مع المالكي علاوي والنجيفي. والمناصب الستة (نواب رئيس الدولة ونواب رئيس الحكومة) أريد بها تحقيق توازن طائفي شكلي في المناصب العليا.
باعتراض رئيس الدولة معصوم، يتبين أن هناك خللاً في آلية إصدار القرارات، وفي توزيع الصلاحيات بين رئاستي الجمهورية والوزراء. وهو ما يسميه إياد علاوي بفساد سياسي، ويرى أن هذا الضرب من الفساد كامن ابتداء في مجلس الوزراءـ بلونه السياسي والاجتماعي الواحد، وتبعا لذلك، يدعو إلى انتخابات مبكرة.
على أن أوجه الفساد السياسي المسكوت عنها عديدة ومتضافرة، وفي مقدّمها الإخلال بمبدأ السيادة والاستقلال، والتبعية لدولة أجنبية هي إيران (الأخيرة حذرت من أية محاكمة للمالكي، وكما لو أن بلاد الرافدين محافظة إيرانية). ومن مظاهر هذه التبعية وجود مليشيات مسلحة ذات ارتباط ظاهر بطهران، مع تبوؤ بعض زعمائها مراكز حكومية عليا، كحال زعيم منظمة بدر الذي يتقلد منصب وزير الداخلية. وكما هو الحال في مشاركة مسؤولين إيرانيين في قيادة الحشد الشعبي. وخلال ذلك، جعل هذا الحشد، بلونه الطائفي، رديفا للجيش الوطني، بما يشكل مساساً بمؤسسة القوات المسلحة وازدواجاً معها. تعرض العراق، في العقد الأخير، إلى ما يقترب من تغيير هويته. فبدلاً من الانتماء لمحيطه القومي، وحيث هذا البلد عضو مؤسس في جامعة الدول العربية، وشريك في معارك العرب في فلسطين، وعلى جبهة الجولان، إذا به يتحول إلى بلد منزوع عن محيطه العربي. فيما الجار الإقليمي غير العربي بات مرجعاً عالياً للسياسات الاستراتيجية الداخلية والخارجية، مع اقتران ذلك بنزعة تكريس تغليب طائفي. وليس المقصود، هنا، أنه كان على العراق التمسك بشعارات قومية فضفاضة، وتشريع التمدد والتدخلات في شؤون بلدان عربية، تحت يافطة الترابط القومي والحزب القومي، بل الغرض من الملاحظة هو التأشير الى أهمية الحفاظ على الهوية العربية للدولة، وتحقيق أكبر قدر من التواصل مع المحيط الجغرافي القومي، مع ضمان حقوق الأقليات، اللغوية والثقافية والإدارية. لم يجر تغييب الهوية العربية عن هذا البلد منذ استقلاله، سوى في العقد الأخير. وخلال ذلك، لم تعد إيران دولة جارة أجنبية في الخطاب الرسمي، ولم يعد العراق أيضا في السلوك الإيراني بلداً سيداً مستقلاً، يتخذ قراراته بملء إرادته، بل بات أقرب إلى شقيق أصغر لإيران، وكما هو حال بيلاروسيا بالنسبة إلى روسيا، بينما احتفظ الجار الإقليمي الآخر، وهو تركيا، بصفته بلداً أجنبياً.
هذه التبدلات التي تمت عبر صياغات دستورية، وفي ظروف غير طبيعية (انتشار المليشيات مثالاً) وباسم مراعاة حقوق مكونات العراق كافة، انعكست على مختلف أوجه الحياة السياسية والعامة، وأسهمت في الشحن الطائفي، ووفرت بيئة للتطرف السنّي، كما لازدهار المليشيات الشيعية التي تنتقص، أساساً، من ولاية الدولة. وبينما كان إرهاب تنظيم داعش واحتلاله الموصل، مثلاً، يتطلب تحشيدا وطنيا عاما، إذا بالحشد يكتسب، للأسف، صبغة طائفية تنأى ببقية العراقيين من الإسهام في رد غائلة الإرهاب. وإذا بانتهاكات جسيمة تستهدف مكوناً بعينه، تتم بموازاة إرهاب داعش. هذا هو الفساد السياسي والخلل الجسيم في الرؤية السياسية الذي يحول دون توحد العراقيين حول دولة لهم، ويحول دون هذه الدولة بوضعها الماثل وتمثيل العراقيين بصورة منصفة وموضوعية.
لا تقلل هذه الملاحظات من أهمية الخطوات الإصلاحية التي اتخذها العبادي لمكافحة الفساد المالي الذي طال العهد عليه، والذي استنزف ثروات العراق، وأفقر العراقيين وجعل بلدهم في مصاف الدول الفقيرة العاجزة عن توفير خدمات أساسية، مثل الكهرباء والماء، وحتى الوقود في بلد نفطي، غير أن نجاعة هذه الخطوات مرتهنة بمدى الجدية في تنفيذها بصورة نزيهة وشاملة، ثم السعي إلى إدراجها حلقة في سلسلة من الإصلاحات العامة التي تطاول بنية الدولة ومؤسساتها وآليات اتخاذ القرارات، بما يوطد سيادة هذا البلد واستقلاله، ويقيّد المليشيات المسلحة، وصولاً إلى حلها، ويحظر تشكيل أحزاب طائفية، لمساسها بعقائد الآخرين، ولما تلحقه من ضرر مشهود بالوحدة الوطنية، وتكريس الدولة المدنية.. دولة الحق والقانون التي تتخذ من إرادة الشعب والدستور مصدراً لشرعيتها، وعدم الارتهان لأية قوة خارجية، سواء كانت أميركا أو إيران أو تركيا، أو أية دولة أخرى.
وهكذا، فإن أهمية خطوات العبادي تكمن في تنفيذها، وفي عدم الاكتفاء بها أو التوقف عندها، وقد أثبتت السياسات الفئوية ضيقة الأفق، على مدى عشر سنوات، مدى عقمها، وحجم إخفاقها في معالجة سائر المشكلات، بل إنها تسببت في نشوء مشكلات فادحة، ينوء بها العراقيون من سائر الشرائح والمناطق.