09 نوفمبر 2024
سورية... موسم دراسي متردٍ جديد
للمرة الخامسة، يأتي العام الدراسي، بعد هبوب عواصف التغيير التي خلعت أركان دول ومجتمعات في منطقتنا، فما الذي تغير على صعيد الأنظمة التربوية والتعليمية بعد فاتورة الدم، وتعطّل الحياة في بعض دول الربيع العربي، وفي سورية نموذجاً؟
كان النظام التربوي في سورية، في العقود الماضية، جزءاً من نظام سلطوي خاص، اشتغل على أن يكون النظام التعليمي ركناً أساسياً من أركانه، يعدّ ويخرّج كوادر تخدم النظام القائم، وتعمل على تحقيق أهدافه، وتمكين سلطته وتسلّطه. تجلّى هذا النظام التربوي في أدوات إنتاج المعرفة ومؤسساتها مجتمعة، انطلاقاً من المراحل التعليمية الأولى، وصولاً إلى التعليم العالي، وذلك في المناهج التعليمية والتربوية، وفي طرق التعليم، وفي الإدارة التربوية والإشراف التربوي، بل حتى كانت العملية التعليمية ضمن الفصل الدراسي تجري، وفق النهج التربوي الشامل، إذ كانت علاقة الطلاب بعضهم ببعض، والعلاقة بينهم وبين مدرسيهم تقوم على السلطوية، كذلك علاقة المعلم مع الإدارة والتوجيه، هذا بالإضافة إلى شكل آخر من التسلط السافر، وهو السطوة التي تمارسها الأجهزة الأمنية، وفروع الحزب القائد وشُعبه، على سير العملية التربوية، حتى إنه توجد مكاتب فرعية للتربية في فروع الحزب، تتبع المكتب الرئيسي في القيادة القطرية. هذا الإشراف يمارس دوره القيادي في نظم العملية التربوية، وفي تعيين المديرين والموجهين والمدرسين ومديري التربية، وفي إعداد المناهج والكتاب المدرسي، وعلينا ألاّ ننسى الدور القيادي القمعي الذي كانت تمارسه روابط اتحاد شبيبة الثورة في المدارس، واتحاد الطلبة في الجامعات، حتى إن اتحاد شبيبة الثورة دخل بازار سوق المعرفة "الوطني"، واستحدث لنفسه مفاضلة خاصة للقبول الجامعي، يستفيد بموجبها الرفيق الشبيبي بعلامات إضافية، تخوّله الحصول على مقعد دراسي في فرعٍ، لم يكن مقبولاً فيه بمعدّل نجاحه، يرتفع هذا العطاء الاستثنائي، فيما لو كان هذا الشبيبي قد "قفز" في المظلة، فحقق بطولة خارقة، هي بمثابة طاقة كامنة، سوف تستثمر في مواجهة العدو الصهيوني ومقارعته.
ضمن تلك الشروط الناظمة للتعليم، كان التسلط، مفهوماً ونظاماً، يعيد إنتاج نفسه، وعليه، كان المتضرر هو الفرد والمجتمع. فالعملية التربوية والتعليمية تحتاج مناخاً من الحرية، واتكاء على الديمقراطية، وإلاّ فقدت فاعليتها الإنتاجية. يقول طه حسين في إحدى مقابلاته الصحافية: "المواطن الممتاز هو محصلة للتعليم والديمقراطية معاً، الديمقراطية شرط للتعليم وتوأم له، فالتعليم بلا ديمقراطية محوٌ للأمية لا أكثر، ومنهج ينتج تلميذاً ممتثلاً، لا يحسن الإرسال، ولا الاستقبال، كما لو كان موضوعاً للمعلم، لا ذاتاً تعرف الرفض والاختيار، إن لم يحسن الصمت والخضوع، عوضاً عن الحوار والشعور والكرامة".
هذا النموذج السلبي للتلميذ هو الغالب في المجتمع، وهو الذي كبر وأعطى المواطن المقموع المغيّب عن ذاته، والمسلوب القدرة على المبادرة أو الإبداع، وهو مسؤول، بدرجةٍ ما، عن فشل حركات التمرد وشللها وعجزها عن بلوغ أهدافها في التغيير، وأنتج، أيضاً، مجتمعاً مكوناً من مجموعة من الأفراد، متماثلين في نظم التفكير وأساليب الأداء، ومن تابع ويتابع الأفراد الضالعين بالقضايا العامة، منذ بدء الحراك الشعبي في سورية، يرى الموالين، كما المعارضين، لديهم الأسلوب الخطابي نفسه، ونهج التفكير نفسه، مع استثناءات قليلة طبعاً.
يعود الموسم الدراسي، مرة أخرى، في ظروف بالغة السوء والتردّي، خصوصاً في المناطق المصنفة آمنة، بينما الواقع يظهر أن لا مكان بقي آمناً في سورية، فالكثافة البشرية الموجودة في هذه المدن والمناطق تفوق القدرة الاستيعابية للمدارس، كما أن الأبنية المدرسية هي، في الأساس، نموذج للترهل والفساد الإداري والحكومي، على الرغم من التنظيمات الهيكلية المتعددة والمتشعبة، ومن القوانين والتشريعات واللوائح التنظيمية، إلاّ أن واقع المدارس مزرٍ، فأعمال الصيانة والإصلاح مشلولة، والبنية التحتية والمرافق الملحقة بالمدارس مهلهلة، لا تليق بزرائب الحيوانات. لم يكن هذا الوضع مسؤولية الدولة بشكل مباشر فقط، بل بشكل غير مباشر، نتيجة للشكل التسلطي الذي كانت تقوم عليه العملية التربوية، والنهج القمعي والإقصائي، إقصاء التلميذ عن مجاله وعدم إشراكه في العملية. لذلك، كانت هناك نزعة انتقامية لدى التلاميذ، ولدى المواطنين عموماً، تجاه كل ما يمت إلى الحكومة أو النظام بصلة، ربما المظاهر الشائعة في المدارس والمؤسسات التعليمية من تكسير مقاعد أو خلع لمبات الإنارة أو تكسير صنابير المياه أو التعدي على المخابر، فيما لو وجدت، وتكسير الأبواب وغيرها من ممارسات الشغب، ليست أكثر من علامات احتجاج وتمرد، وصراخ بلغة أخرى، في وجه كل أشكال المظالم التي يعاني منها التلاميذ، أدركوها أم شعروا بها فقط.
كانت هذه الصورة القاتمة للتعليم في سورية قبل الأزمة، وهي تستفحل أكثر في ظل الواقع الرهيب الحالي. لكن هذا الواقع الذي تنتجه الأزمات تقدم له حلولها أيضاً، حلول تعيد إنتاج الواقع بشكل آخر، فمثلما يتحمل الشعب مفرزات الأزمة، ويقدم تجار الحرب البدائل، فإن الاستثمار في التعليم بات أحد الملامح الجديدة، والتي تنمو بسرعة ضوئية في الوقت الحالي. باتت المدارس الخاصة تتكاثر مثل الفطر في سورية، ابتداء من مرحلة رياض الأطفال، وحتى المراحل التعليمية العليا، تنافس فيها أصحاب الأموال، ومعظمهم من الأثرياء الجدد أو ممن استفادوا من غياب الرقابة والقانون، فحصّلوا رؤوس أموال على هامش الأزمة، وتقدموا بطلبات تراخيص، لإنشاء هذه المدارس، مستفيدين من الفساد المستشري، فصار في كل حي ما يفوق حاجته من رياض الأطفال، وصارت المعاهد والمدارس الخاصة تحلّ محل المدارس الحكومية، وبقي النظام التعليمي نفسه، وأسس التقدم للامتحانات في الشهادات، والقبول في الجامعات هو نفسه، مثلما بقيت النواظم والضوابط نفسها. وفي المحصلة، ما زالت المؤسسات التعليمية عاجزة عن إنتاج المعرفة، بل وبعيدة عن هذا الهدف، وكل التغيير الذي حصل هو تكريس التمييز، وترسيخ التباين الطبقي على أساس الفارق الوحيد بين المدارس الخاصة والمدارس العامة، وهو الناحية الفندقية والخدمية، بينما بقيت النظم التربوية انعكاساً للواقع السياسي القائم.
دلالات
مقالات أخرى
05 نوفمبر 2024
27 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024