20 اغسطس 2017
استقالة على الهواء
البرلمان بمسمّياته المختلفة، مثل مجلس الشعب أو مجلس النواب أو المجلس التشريعي، وغيرهم هو أعلى سلطة تشريعية في الدول والجمهوريات الدستورية. يتكوّن البرلمان من أفراد يطلق عليهم اسم النواب أو الممثلين، ويكون وصولهم إلى البرلمان بالانتخاب والاقتراع، حيث يتم اختيارهم بواسطة المواطنين المسجلين على اللوائح الانتخابية في عملية انتخاب أو اقتراع عام سرّي ومباشر. ويكون للبرلمان سلطة إصدار التشريعات والقوانين، أو إلغائها والتصديق على الاتفاقيات الدولية، إلى جانب محاسبة الجهاز التنفيذي في الدولة.
في الحالة السودانية، يطلق على البرلمان اسم "المجلس الوطني"، ويسيطر عليه الحزب الحاكم بأغلبية تُمكنه من تمرير كلّ القرارات والتشريعات التي يريدها.
الأسبوع الماضي ناقش البرلمان السوداني هموم معاش المواطنين، في ندوة مفتوحة مع وزير المالية، بدر الدين محمود بمشاركة اللجنة الاقتصادية. كان النقاش مُحتدماً بين أعضاء المجلس الوطني ووزير المالية، حيث انبرى نواب منتقدون سياسات الوزارة وعجز الطاقم الاقتصادي عن معالجة الضائقة المعيشية للمواطنين.
وزير المالية الحالي بدر الدين محمود رجل اقتصادي معروف، شغل منصب نائب محافظ بنك السودان المركزي، وصرّح ذات يوم قائلاً: "ما وصل إليه الاقتصاد السوداني لا يستوجب إقالتنا فقط، بل إجازة مدى الحياة"، ليتم بعدها ترفيع الرجل إلى منصب وزير المالية، فاستبشر به الناس خيراً، خصوصاً أنّه جاء خلفاً للوزير السابق علي محمود الذي اشتهر بتصريحاته الغريبة التي اعتبرها بعضهم "استفزازية".
غير أنّ بدرالدين لم يخرج من العباءة نفسها، فقد ذكر في "الندوة البرلمانية" أنّ ما يهمه تحقيق الوفرة في السلع وليس ارتفاع الأسعار، ولم ينفِ تأييده لتحرير سعر القمح والوقود والدواء في الموازنة الجديدة. كما أعلن تقديم استقالته، عقب إجازة موازنة العام 2017 للبلاد في نهاية ديسمبر/ كانون الأول المقبل، لكن رئيس البرلمان قاطعه قائلاً إنّ البرلمان ليس مكاناً لتقديم الاستقالات.
من يتوّلى منصب وزير المالية في بلدٍ كالسودان، يشكّل واجهة لأداء الحكومة الاقتصادي. لذلك، يكون عرضة للانتقاد على الرغم من أنّ المشكلة تكمن في الفشل الذي يعتري المنظومة الحكومية بأكملها، إذ أنّ وزير المالية موظف ينفذ سياسات الحكومة وّموجهات قطاعها الاقتصادي.
أبرز مواطن الخلل في ما يتعلق بالاقتصاد السوداني هي الاعتماد على الإيرادات المالية السهلة، فقد أكد خبراء اقتصاديون أنّ ما يزيد على 90% من إيرادات البلاد يتمّ تحصيلها من الضرائب والرسوم والجمارك، فلا يوجد إنتاج، ولا صادرات تذكر عدا القليل من الصمغ العربي والذهب والثروة الحيوانية.
حتى التجار والمزارعين الذين جرّبوا الاستثمار في القطاع الزراعي والحيواني أثقلت كاهلهم الكُلفة العالية لمدخلات الإنتاج، إذ تفرض السلطات رسوماً عالية وبمُسمّيات مختلفة ومتعدّدة على أيّ نشاط اقتصادي. كما أنّها "الحكومة" لا تهيئ البيئة اللازمة للمستثمرين، فقد حدثني، قبل فترة رجل أعمال خليجي أنّه دفع ملايين الدولارات من جيبه الخاص لتوصيل الكهرباء إلى مشروعه الزراعي، وعلى الرغم من ذلك يقطع التيار الكهربائي عن المنطقة، ما يؤدي إلى حدوث أضرار كبيرة في المحاصيل. اشتكى هذا الرجل إلى مسؤولين، من بينهم وزير الاستثمار شخصياً من دون جدوى.
أمر آخر لا يقل أهمية عن ما ذكرنا، هو إنّ الإيرادات المالية على قلّتها يذهب أكثر من ثُلثيها إلى ميزانية الأمن والدفاع. أضف إلى ذلك الأعداد المهوّلة للوزراء ووزراء الدولة والنواب البرلمانيين، وغيرهم من شاغلي المناصب الدستورية، ومن هم في حُكمهم، هؤلاء يكلفون خزينة الدولة أموالاً طائلة، تصرف على رواتبهم ونثرياتهم، بجانب سفريات الوفود الرسمية خارج البلاد وما ينفق عليها من عملات حرّة رغم الحالة الاقتصادية للبلد.
بالعودة إلى الندوة البرلمانية، تحدّث رئيس لجنة الشؤون المالية الاقتصادية، أحمد المجذوب، عن اتساع الفجوة بين كلفة المعيشة وأجور العاملين، وأوصى بضرورة إصلاح السياسات الاقتصادية، داعياً إلى إيقاف شراء السيارات الحكومية، وتخفيض التمثيل الدبلوماسي في الخارج، وكذلك الطاقم الدبلوماسي، وتخفيف المشاركات في المؤتمرات والأنشطة الخارجية.
نتفق مع حديث رئيس اللجنة الاقتصادية أنّ أكبر مهدّد للاقتصاد هو الصرف غير المرشد على الحكومة، كذلك نتمنى أن تتخذ الدولة إجراءاتٍ عاجلة، لتخفيض هذا الإنفاق والكرم الحاتمي في ظل شح الإيرادات والأزمة الاقتصادية التي يتوقع أن تستفحل أكثر، إذا ما طبق قرار رفع ما تبقى من دعم عن المحروقات والقمح، وبجانب إجراءات تقليص الإنفاق، يجب تفعيل الأجهزة الرقابية التي تضطلع بمهام مكافحة الفساد ومحاربة تجنيب الإيرادات الذي يهدر أموالاً يمكنها رفد خزينة الدولة التي تشتكي من ضعف الموارد.
بالإضافة إلى ذلك كله، لماذا لا تتبنى الدولة قرارات تشجّع على رفع الإنتاج الزراعي والصناعي، خصوصاً أنّه يتوفر لدينا حوالي 200 مليون فدان صالحة للزراعة، ولدينا مصادر مياه وفيرة، وأيدي عاملة تكفي لاستصلاح الأراضي، فقط تنقصنا الإدارة الجيدة وسياسة تحفيز المنتجين والمزارعين.
استقالة وزير المالية لن تحل الأزمة، ولن تجلب الرخاء والرفاهية لمواطني السودان، لأنّ الخلل ليس في شخص الوزير بل يكمن في المنظومة الحكومية بأكملها، والسياسات الفاشلة التي استمرت، وما زالت مستمرة، منذ ما يزيد عن 27 عاما.
في الحالة السودانية، يطلق على البرلمان اسم "المجلس الوطني"، ويسيطر عليه الحزب الحاكم بأغلبية تُمكنه من تمرير كلّ القرارات والتشريعات التي يريدها.
الأسبوع الماضي ناقش البرلمان السوداني هموم معاش المواطنين، في ندوة مفتوحة مع وزير المالية، بدر الدين محمود بمشاركة اللجنة الاقتصادية. كان النقاش مُحتدماً بين أعضاء المجلس الوطني ووزير المالية، حيث انبرى نواب منتقدون سياسات الوزارة وعجز الطاقم الاقتصادي عن معالجة الضائقة المعيشية للمواطنين.
وزير المالية الحالي بدر الدين محمود رجل اقتصادي معروف، شغل منصب نائب محافظ بنك السودان المركزي، وصرّح ذات يوم قائلاً: "ما وصل إليه الاقتصاد السوداني لا يستوجب إقالتنا فقط، بل إجازة مدى الحياة"، ليتم بعدها ترفيع الرجل إلى منصب وزير المالية، فاستبشر به الناس خيراً، خصوصاً أنّه جاء خلفاً للوزير السابق علي محمود الذي اشتهر بتصريحاته الغريبة التي اعتبرها بعضهم "استفزازية".
غير أنّ بدرالدين لم يخرج من العباءة نفسها، فقد ذكر في "الندوة البرلمانية" أنّ ما يهمه تحقيق الوفرة في السلع وليس ارتفاع الأسعار، ولم ينفِ تأييده لتحرير سعر القمح والوقود والدواء في الموازنة الجديدة. كما أعلن تقديم استقالته، عقب إجازة موازنة العام 2017 للبلاد في نهاية ديسمبر/ كانون الأول المقبل، لكن رئيس البرلمان قاطعه قائلاً إنّ البرلمان ليس مكاناً لتقديم الاستقالات.
من يتوّلى منصب وزير المالية في بلدٍ كالسودان، يشكّل واجهة لأداء الحكومة الاقتصادي. لذلك، يكون عرضة للانتقاد على الرغم من أنّ المشكلة تكمن في الفشل الذي يعتري المنظومة الحكومية بأكملها، إذ أنّ وزير المالية موظف ينفذ سياسات الحكومة وّموجهات قطاعها الاقتصادي.
أبرز مواطن الخلل في ما يتعلق بالاقتصاد السوداني هي الاعتماد على الإيرادات المالية السهلة، فقد أكد خبراء اقتصاديون أنّ ما يزيد على 90% من إيرادات البلاد يتمّ تحصيلها من الضرائب والرسوم والجمارك، فلا يوجد إنتاج، ولا صادرات تذكر عدا القليل من الصمغ العربي والذهب والثروة الحيوانية.
حتى التجار والمزارعين الذين جرّبوا الاستثمار في القطاع الزراعي والحيواني أثقلت كاهلهم الكُلفة العالية لمدخلات الإنتاج، إذ تفرض السلطات رسوماً عالية وبمُسمّيات مختلفة ومتعدّدة على أيّ نشاط اقتصادي. كما أنّها "الحكومة" لا تهيئ البيئة اللازمة للمستثمرين، فقد حدثني، قبل فترة رجل أعمال خليجي أنّه دفع ملايين الدولارات من جيبه الخاص لتوصيل الكهرباء إلى مشروعه الزراعي، وعلى الرغم من ذلك يقطع التيار الكهربائي عن المنطقة، ما يؤدي إلى حدوث أضرار كبيرة في المحاصيل. اشتكى هذا الرجل إلى مسؤولين، من بينهم وزير الاستثمار شخصياً من دون جدوى.
أمر آخر لا يقل أهمية عن ما ذكرنا، هو إنّ الإيرادات المالية على قلّتها يذهب أكثر من ثُلثيها إلى ميزانية الأمن والدفاع. أضف إلى ذلك الأعداد المهوّلة للوزراء ووزراء الدولة والنواب البرلمانيين، وغيرهم من شاغلي المناصب الدستورية، ومن هم في حُكمهم، هؤلاء يكلفون خزينة الدولة أموالاً طائلة، تصرف على رواتبهم ونثرياتهم، بجانب سفريات الوفود الرسمية خارج البلاد وما ينفق عليها من عملات حرّة رغم الحالة الاقتصادية للبلد.
بالعودة إلى الندوة البرلمانية، تحدّث رئيس لجنة الشؤون المالية الاقتصادية، أحمد المجذوب، عن اتساع الفجوة بين كلفة المعيشة وأجور العاملين، وأوصى بضرورة إصلاح السياسات الاقتصادية، داعياً إلى إيقاف شراء السيارات الحكومية، وتخفيض التمثيل الدبلوماسي في الخارج، وكذلك الطاقم الدبلوماسي، وتخفيف المشاركات في المؤتمرات والأنشطة الخارجية.
نتفق مع حديث رئيس اللجنة الاقتصادية أنّ أكبر مهدّد للاقتصاد هو الصرف غير المرشد على الحكومة، كذلك نتمنى أن تتخذ الدولة إجراءاتٍ عاجلة، لتخفيض هذا الإنفاق والكرم الحاتمي في ظل شح الإيرادات والأزمة الاقتصادية التي يتوقع أن تستفحل أكثر، إذا ما طبق قرار رفع ما تبقى من دعم عن المحروقات والقمح، وبجانب إجراءات تقليص الإنفاق، يجب تفعيل الأجهزة الرقابية التي تضطلع بمهام مكافحة الفساد ومحاربة تجنيب الإيرادات الذي يهدر أموالاً يمكنها رفد خزينة الدولة التي تشتكي من ضعف الموارد.
بالإضافة إلى ذلك كله، لماذا لا تتبنى الدولة قرارات تشجّع على رفع الإنتاج الزراعي والصناعي، خصوصاً أنّه يتوفر لدينا حوالي 200 مليون فدان صالحة للزراعة، ولدينا مصادر مياه وفيرة، وأيدي عاملة تكفي لاستصلاح الأراضي، فقط تنقصنا الإدارة الجيدة وسياسة تحفيز المنتجين والمزارعين.
استقالة وزير المالية لن تحل الأزمة، ولن تجلب الرخاء والرفاهية لمواطني السودان، لأنّ الخلل ليس في شخص الوزير بل يكمن في المنظومة الحكومية بأكملها، والسياسات الفاشلة التي استمرت، وما زالت مستمرة، منذ ما يزيد عن 27 عاما.
مقالات أخرى
19 يوليو 2017
22 مايو 2017
16 مايو 2017