06 نوفمبر 2024
"شرعنة" المليشيات في العراق
بُعيْد الغزو الأميركي للعراق بأسابيع، عندما كنت أحاضر في أحد صفوف كلية الإعلام في بغداد، باغتني شخص يرتدي اللباس الأسود، ليطلب السماح له بتلاوة ما أسماها "توجيهات من الحوزة العلمية"، وقد أوضحتُ له أن هذه الأمور محظورةٌ في الحرم الجامعي، خصوصاً في أثناء تلقي الدروس، وخرج إثر ذلك غاضباً. تكرّرت الواقعة مع زميل لي، رفض هو الآخر السماح بذلك، ثم دفع حياته ثمناً لرفضه، إذ اغتيل على أبواب الكلية، وقيّدت الحادثة ضد مجهول!
انتشرت، آنذاك، مثل هذه الممارسات في بغداد والمحافظات على أيدي أفرادٍ يرتدون اللباس الأسود، ويمارسون سلطتهم بقوة السلاح، كان الهدف منها ترهيب الناس وإخضاعهم. وكانوا يعطون لأنفسهم هذا الحق في غياب الشرطة والأجهزة الأمنية التي انحسر ظلها من الشوارع والمواقع المهمة، وبدا أنّ ثمة قدراً من الخوف على الوجوه، ولم يجد الأميركيون غضاضةً في ما يجري أمام أعينهم، وسط الفوضى التي سادت البلاد، حيث سجلت عشرات حوادث الاغتيال والاختطاف والتغييب المتعمد لعلماء وأكاديميين وأطباء ومهندسين، ومن مهن واعدة أخرى، لكن كل هذه الحوادث قيّدت ضد مجهولين، وعرف الناس أن ذوي القمصان السوداء هم الذين نفذوها، وأن دوائر استخبارية لدولٍ خططت لها، وساعدت على تنفيذها، لكن أحداً لم يجرؤ على كشف حقيقتها التي بقيت مغطاة!
وعندما بدأت حملة اغتيال الضباط والطيارين الذين شاركوا في حرب العراق وإيران، انكشف ما هو مستور، إذ توفرت وثائق تثبت أن إيران هي التي أشرفت على تنفيذ الحملة، وأمدّتها بالمال والسلاح اللازمين، واستخدمت أجهزة رسمية عراقية في ترتيب عمليات التنصّل من الجريمة وإخفائها وحماية الفاعلين.
كان هناك بعد آخر للمسألة، إذ ظهر أن هناك من يحثّ الخطى نحو تنظيم عمل هذه المجاميع والحلقات السوداء، ووضع الأطر والسياقات التي تجعل منها "جيشاً" مدرّباً ومؤهلاً وجاهزاً لتنفيذ مشروع طائفي معين، له خلفيته الاستراتيجية والأيديولوجية. وعلى حين غرة، جرت محاولة تفجير مرقدي الإمامين العسكريين في سامراء، ليتقرّر إثرها وضع المراقد المقدسة، تحت حماية مليشيات بعينها، بمبرّر تفادي وقوع أي اعتداء عليها، ولدرء أية فتنة طائفية محتملة، كما قيل. وتواترت تقارير لم يعرف مدى دقتها أن محاولة التفجير خططت لها المخابرات الإيرانية، أو على الأقل دفعت باتجاه تنفيذها بغرض الوصول عبرها إلى هدف معيّن.
ولسوف نعرف لاحقاً أن تلك المليشيات شرعت تتدخل في الشأن الأمني، تحت أعين رجال الحكومة، وأنها تحظى بدعمٍ من طهران، وأن رجالها تلقوا، أو يتلقون، تدريباً عسكرياً في معسكراتٍ خاصة، ويصل إليهم السلاح من مصادر عديدة. وعندما اشتدّ عودُها، شرعت في إنشاء سجونٍ ومعتقلاتٍ، تتبعها هيئات تحقيقية وإدارية، وسمعنا عن اختطاف هذه المليشيا أو تلك أشخاصاً، أو حتى شخصيات أجنبية، جرى التفاوض بشأنها مع الخاطفين ممن يشغلون مواقع نافذة في المليشيات نفسها، ولم تحرّك الحكومة ساكناً!
تطوّر الحال بسرعة، وكأن قدراً خفياً يسوق الناس إلى ما لا يريدونه، وقيل، في حينه، إن شخصية أمنية إيرانية غامضة تتجوّل في أنحاء البلاد، وسط حماية مشدّدة، تحمل مفاتيح وأسراراً وخططاً، يصعب الوصول إلى كنهها، سنعرف لاحقاً أيضاً أن الشخصية المذكورة تحمل اسم قاسم سليماني، وأنه جاء من أجل نقل تجربة الحرس الثوري الإيراني إلى العراق، لكن المناخ السياسي آنذاك لم يكن مهيئاً تماماً لتلك الخطوة. ولا بد إذن من الانتظار، وعندما أعلن الأميركيون عن انسحاب معظم قواتهم من العراق، بعد أن أمنوا موطئ قدم ثابتاً لهم فيه، ولحقت ذلك تفاهمات أميركية- إيرانية في مواضيع عديدة، جرت مياه كانت راكدةً في أكثر من مكان، قبل أن تقتحم "داعش" الموصل، في صفقةٍ مريبةٍ، رتبت أوضاعاً جديدة، ودفعت بفتوى ملزمة من المرجع الشيعي الأعلى، تدعو الشباب إلى مواجهة إرهاب "داعش"، ولحماية البلاد من شروره، وكسبت المليشيات اعترافاً رسمياً معلناً بتشكيل ما وصف بأنه "حشد شعبي"، خصصت له ميزانية ومعسكرات تدريب وأسلحة من مختلف الصنوف. وعندما دقت ساعة معركة الموصل، واشتدّ أوارها سط تجاذباتٍ بخصوص الدور الذي يمكن أن يلعبه "الحشد الشعبي" فيها، دفعت أطراف نافذة لائحة قانون يشرعن "الحشد"، ويعطيه وضعاً قانونياً، كتشكيل عسكري رديف، ولسوف نسمع، في مقبل الأيام، عن سيطرةٍ مباشرة للحشد على مصادر القرار، وعن سلطةٍ له على مؤسسات ومرافق وأجهزة أمنية واقتصادية، تماما كصنوه "الحرس الثوري الإيراني"، ولسوف تكتمل هيمنة إيران على العراق، في غياب أي مشروع جدّي لإنقاذ الوطن والمواطن.
انتشرت، آنذاك، مثل هذه الممارسات في بغداد والمحافظات على أيدي أفرادٍ يرتدون اللباس الأسود، ويمارسون سلطتهم بقوة السلاح، كان الهدف منها ترهيب الناس وإخضاعهم. وكانوا يعطون لأنفسهم هذا الحق في غياب الشرطة والأجهزة الأمنية التي انحسر ظلها من الشوارع والمواقع المهمة، وبدا أنّ ثمة قدراً من الخوف على الوجوه، ولم يجد الأميركيون غضاضةً في ما يجري أمام أعينهم، وسط الفوضى التي سادت البلاد، حيث سجلت عشرات حوادث الاغتيال والاختطاف والتغييب المتعمد لعلماء وأكاديميين وأطباء ومهندسين، ومن مهن واعدة أخرى، لكن كل هذه الحوادث قيّدت ضد مجهولين، وعرف الناس أن ذوي القمصان السوداء هم الذين نفذوها، وأن دوائر استخبارية لدولٍ خططت لها، وساعدت على تنفيذها، لكن أحداً لم يجرؤ على كشف حقيقتها التي بقيت مغطاة!
وعندما بدأت حملة اغتيال الضباط والطيارين الذين شاركوا في حرب العراق وإيران، انكشف ما هو مستور، إذ توفرت وثائق تثبت أن إيران هي التي أشرفت على تنفيذ الحملة، وأمدّتها بالمال والسلاح اللازمين، واستخدمت أجهزة رسمية عراقية في ترتيب عمليات التنصّل من الجريمة وإخفائها وحماية الفاعلين.
كان هناك بعد آخر للمسألة، إذ ظهر أن هناك من يحثّ الخطى نحو تنظيم عمل هذه المجاميع والحلقات السوداء، ووضع الأطر والسياقات التي تجعل منها "جيشاً" مدرّباً ومؤهلاً وجاهزاً لتنفيذ مشروع طائفي معين، له خلفيته الاستراتيجية والأيديولوجية. وعلى حين غرة، جرت محاولة تفجير مرقدي الإمامين العسكريين في سامراء، ليتقرّر إثرها وضع المراقد المقدسة، تحت حماية مليشيات بعينها، بمبرّر تفادي وقوع أي اعتداء عليها، ولدرء أية فتنة طائفية محتملة، كما قيل. وتواترت تقارير لم يعرف مدى دقتها أن محاولة التفجير خططت لها المخابرات الإيرانية، أو على الأقل دفعت باتجاه تنفيذها بغرض الوصول عبرها إلى هدف معيّن.
ولسوف نعرف لاحقاً أن تلك المليشيات شرعت تتدخل في الشأن الأمني، تحت أعين رجال الحكومة، وأنها تحظى بدعمٍ من طهران، وأن رجالها تلقوا، أو يتلقون، تدريباً عسكرياً في معسكراتٍ خاصة، ويصل إليهم السلاح من مصادر عديدة. وعندما اشتدّ عودُها، شرعت في إنشاء سجونٍ ومعتقلاتٍ، تتبعها هيئات تحقيقية وإدارية، وسمعنا عن اختطاف هذه المليشيا أو تلك أشخاصاً، أو حتى شخصيات أجنبية، جرى التفاوض بشأنها مع الخاطفين ممن يشغلون مواقع نافذة في المليشيات نفسها، ولم تحرّك الحكومة ساكناً!
تطوّر الحال بسرعة، وكأن قدراً خفياً يسوق الناس إلى ما لا يريدونه، وقيل، في حينه، إن شخصية أمنية إيرانية غامضة تتجوّل في أنحاء البلاد، وسط حماية مشدّدة، تحمل مفاتيح وأسراراً وخططاً، يصعب الوصول إلى كنهها، سنعرف لاحقاً أيضاً أن الشخصية المذكورة تحمل اسم قاسم سليماني، وأنه جاء من أجل نقل تجربة الحرس الثوري الإيراني إلى العراق، لكن المناخ السياسي آنذاك لم يكن مهيئاً تماماً لتلك الخطوة. ولا بد إذن من الانتظار، وعندما أعلن الأميركيون عن انسحاب معظم قواتهم من العراق، بعد أن أمنوا موطئ قدم ثابتاً لهم فيه، ولحقت ذلك تفاهمات أميركية- إيرانية في مواضيع عديدة، جرت مياه كانت راكدةً في أكثر من مكان، قبل أن تقتحم "داعش" الموصل، في صفقةٍ مريبةٍ، رتبت أوضاعاً جديدة، ودفعت بفتوى ملزمة من المرجع الشيعي الأعلى، تدعو الشباب إلى مواجهة إرهاب "داعش"، ولحماية البلاد من شروره، وكسبت المليشيات اعترافاً رسمياً معلناً بتشكيل ما وصف بأنه "حشد شعبي"، خصصت له ميزانية ومعسكرات تدريب وأسلحة من مختلف الصنوف. وعندما دقت ساعة معركة الموصل، واشتدّ أوارها سط تجاذباتٍ بخصوص الدور الذي يمكن أن يلعبه "الحشد الشعبي" فيها، دفعت أطراف نافذة لائحة قانون يشرعن "الحشد"، ويعطيه وضعاً قانونياً، كتشكيل عسكري رديف، ولسوف نسمع، في مقبل الأيام، عن سيطرةٍ مباشرة للحشد على مصادر القرار، وعن سلطةٍ له على مؤسسات ومرافق وأجهزة أمنية واقتصادية، تماما كصنوه "الحرس الثوري الإيراني"، ولسوف تكتمل هيمنة إيران على العراق، في غياب أي مشروع جدّي لإنقاذ الوطن والمواطن.