28 نوفمبر 2016
المحكمة الجنائية الدولية وجرائم الإبادة والحرب في سورية
سامية صديقي
باحثة جزائرية في القانون الدولي، أستاذ مساعد في كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة سطيف.
تعتبر الجرائم التي ترتكب في سورية على مدار واسع النطاق بمثابة انتهاكاتٍ جسيمة للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، وقد راح ضحيتها مدنيون أبرياء، ولا تزال الغارات الجوية وعمليات القصف العشوائية على الأماكن التي يوجد فيها السكان مستمرة من النظام بدعم من روسيا، ما يؤكد أن القوات النظامية التابعة للنظام مسؤولة عن تلك الجرائم الشنيعة، وبات أمر محاكمة مرتكبي هذه الجرائم واجباً، باعتبار أن مساءلة مرتكبي الجرائم الدولية جنائيا يعد من مبادئ القانون الجنائي الدولي، ويشكل قاعدةً آمرة لا يمكن مخالفتها، وقد عزّزت المحكمة الجنائية الدولية هذا المبدأ لمعاقبة المجرمين الذين اقترفوا جرائم توصف بأنها أشد خطورة على السلم والأمن الدوليين.
يقوم الاختصاص الموضوعي للمحكمة الجنائية الدولية على أساس نوع الجريمة التي يتم التحقيق فيها وملاحقة مرتكبيها ومحاكمتهم، وقد حصر النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية اختصاصها في الجرائم الأكثر خطورةً، والتي تتمثل في جرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان، حيث أكدت ديباجة نظامها الأساسي أن الأمم المتحدة قصدت العزم من أجل بلوغ الغايات لصالح الأجيال الحالية والمقبلة على إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة ومستقلة، لها اختصاص في الجرائم الأشد خطورًة على المجتمع الدولي، باعتبارها أعلى هيئة في مجال القانون الجنائي الدولي، بغية تشجيع أكبر عدد من الدول على قبول الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية، ما يعزّز فعاليتها.
تعرّف الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في جريمة الإبادة الجماعية التي عرفتها المادة 6 من نظام روما أساسي بأنها أي فعل يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو أثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه، إهلاكاً كلياً أو جزئياً، وتشمل قتل أفراد الجماعة أو إلحاق ضرر جسدي، أو عقلي جسيم، بأفراد الجماعة وإخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشة يقصد بها إهلاكها الفعلي، كليا أو جزئيا، وكذا فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة، أو نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى.
ارتُكبت بحق المدنيين في سورية كل الأفعال المادية المكونة لجريمة الإبادة الجماعية منذ بداية الاحتجاجات في 15 مارس/ آذار2011، وما زالت مستمرة، كالإبادة الجماعية التي تعرّض لها الإيزيديون، وهذا ما يظهر للعيان عبر وسائل الإعلام بالصوت والصورة، ما يعد دليلاً قويا لمساءلة مرتكبي جرائم الإبادة بحق الشعب السوري.
فيما يخص الجرائم ضد الإنسانية، فهي التي تمس الإنسانية جمعاء، ويعود على المجتمع الدولي بأسره محاكمة مرتكبيها، وورد في المادة 07 من نظام روما الأساسي بعض الأفعال المادية للجريمة ضد الإنسانية، واشترطت ارتكابها في إطار هجوم واسع النطاق، أو منهجي، ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، عن علم بالهجوم، وتشمل القتل والإبادة والاسترقاق وإبعاد السكان أو القتل القسري أو الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء أو الحمل القسري أو التعقيم القسري، أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي، على مثل هذه الدرجة من الخطورة، وكذا اضطهاد أية جماعة محدّدة، أو مجموع محدد من السكان، لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية أو متعلقة بنوع الجنس، وكل الأفعال غير الإنسانية الأخرى.
ترتيبا لما سبق، فقد ارتكبت في حق الشعب السوري جرائم ضد الإنسانية من جرائم القتل والتعذيب وترحيل السكان والاختفاء القسري للأشخاص بمختلف فئات العمر، إضافة إلى النقل القسري للسكان، كما أن الهجوم على السكان المدنيين في سورية واسع النطاق ومنهجي في آن واحد، وقد ارتكبت هذه الجرائم بواسطة قوات المسلحة، أو بواسطة قوات الشرطة والأمن التابعة للدولة مع توافر القصد الجنائي، وعلم بارتكاب هذه الأفعال الشنيعة، ما يستوجب متابعتهم جنائياً، عما اقترفوه من جرائم ضد الإنسانية في حق الشعب السوري.
أما جرائم الحرب التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية، وفقاً للمادة 8 من نظام روما الأساسي، كل الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 أغسطس/ 1949، مثل القتل العمد والتعذيب وإلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والاستيلاء عليها، الإبعاد أو القتل أو الحبس المؤقت وإلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والإستيلاء عليها، الإبعاد أو القتل أو الحبس غير المشروع وأخذ الرهائن، إرغام أسرى الحرب أو الأشخاص المحميين على الخدمة لصالح الأعداء، وكذا الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة، مثل تعمّد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين، تعمّد توجيه هجماتٍ ضد مواقع مدنية، إضافة إلى الانتهاكات الجسيمة للمادة الثانية المشتركة في اتفاقيات جنيف لعام 1949، كاستعمال العنف ضد الأشخاص، والاعتداء على كرامة الشخص، وأخذ الرهائن وإصدار أحكام وتنفيذ إعدامات من دون وجود حكم سابق صادر عن محكمة مشكلةٍ تشكيلاً نظامياً، وكل الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية في المنازعات المسلحة غير الدولية، مثل تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين وضد المباني والوحدات الطبية ووسائل النقل والأفراد وأعمال النهب، الاغتصاب، الاستعباد الجنسي.
وعليه، نجد أن السكان المدنيين في سورية تعرّضوا لمعظم الأفعال التي تشكل جرائم حرب التي نصت عليها المادة 8 من نظام المحكمة الجنائية الدولية، ولا يزالون تحت وطأة المعاناة لمثل هذه الأفعال الإجرامية التي تشكل انتهاكات جسمية للقانونين، الدولي الإنساني والجنائي الدولي.
يكون محلاً للمساءلة الجنائية أمام المحكمة الجنائية الدولية كل من ارتكب جرائم بحق السكان المدنيين في سورية، بغض النظر عن الحصانة التي يتمتع بها، سواء ارتكب الجرائم بصفته الفردية، أو بالاشتراك مع آخر، أو قام بالتحريض، أو المساعدة بأي شكل آخر، لغرض تيسير ارتكاب هذه الجريمة أو الشروع في ارتكابها.
كما أن القادة والرؤساء، عسكريين أو مدنيين، يخضعون للمسؤولية الجنائية عن أعمال مرؤوسيهم الذين ارتكبوا ويرتكبون جرائم في حق الشعب السوري، ويخضعون لإمرتهم وسيطرتهم عند اقترافهم هذه الأفعال التي تشكل جرائم تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
إمكانية تحريك دعوى جنائية
ليس اختصاص المحكمة الجنائية الدولية تلقائياً، حتى في حالة ثبوت عدم رغبة الدول أو عدم قدرتها على التحقيق ومحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب أيٍّ من الجرائم الداخلة في اختصاصها. ولكن، يجب تحريك الدعوى الجنائية ضد الأشخاص المتهمين بارتكاب هذه الجرائم من الدولة الطرف في نظام المحكمة الجنائية الدولية، أي التي تقوم بإحالة أي حالة إلى المحكمة الجنائية الدولية، وفقا لأحكام المادة 14 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي نصت على أنه يجوز لدولةٍ طرف أن تحيل إلى المدعي العام أية حالة، يبدو فيها أن جريمةً أو أكثر من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة قد ارتكبت، وأن تطلب إلى المدعي العام التحقيق في الحالة، بغرض البتّ فيها.
ولا يمكن تفسير لفظ (حالة) بشكل محدود، والذي يعني قيام نزاع بين مجموعة أو أفراد أو وحدة عسكرية، أو أن يفسر ليشير إلى حدث معين، من دون الرجوع إلى السياق العام للنص. وسوف يكون هذا المعنى المقصود للفظ (حالة) مختلفا من واقعةٍ إلى أخرى. لذا، يجب تعريفه عن طريق المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لإزالة أي إبهام. كما يمكن لدولةٍ غير طرف في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أن تحيل أي دعوى إلى المحكمة، للتحقيق فيها، متى أعلنت هذه الدولة، بمقتضى إعلان خاص لدى مسجل المحكمة، قبولها مباشرة المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بالجريمة قيد البحث.
يحق للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية تحريك الدعوى أمامها، كما هو الأمر في النظم الوطنية، لتجنب سوء استغلال هذه الصلاحية من المنظمات غير الحكومية التي ترغب في إحراج بعض الدول، أو إثقال كاهل المدعي العام بالشكاوي التافهة التي تدفعه إلى استهلاك المصادر المحدودة للمحكمة، من أجل التحقق منها جميعا. وكذا إلى إمكانية وجود ضغوط سياسية على المدّعي العام، لكي يتولى التحقيق في حالةٍ معينةٍ، حتى ولو لم يكن هناك ما يبرّرها، ولكن صلاحية المدعي العام في تحريك الدعوى مقيدٌ بوجود أسبابٍ تدعوه إلى البدء في التحقيق، وحصوله على إذنٍ بالتحقيق من الدائرة التمهيدية.
أما مجلس الأمن فله صلاحية الإحالة إلى محكمة الجنائية الدولية، إذا رأى أن الجريمة المرتكبة تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وأن يكون من شأن هذا لإجراء حفظ السلم و الأمن الدوليين، من دون اشتراط أن تكون الجريمة قد ارتكبت في إقليم دولةٍ طرف، أو من شخصٍ يحمل جنسية دولةٍ طرف، ويكون قرار إحالة قضية إلى المحكمة الجنائية الدولية عن مجلس الأمن، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يعطيه سلطة تكييف أي حالةٍ على أنها تهديد للسلم والأمن الدولي. وهنا، يكون لمجلس الأمن سلطة تكييف الانتهاكات الجسمية للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان على أنها تشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، وهذا يعد ضماناً لتكريس المسؤولية الجنائية الفردية، في إطار صلاحيات حفظ السلم والأمن الدولي.
وباعتبار أن سورية وقعت على نظام المحكمة الجنائية الدولية في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2000، ولم تصادق عليه، فهي ليست طرفاً في المحكمة الجنائية الدولية. وبناء عليه، حتى تمارس المحكمة الجنائية الدولية اختصاصها على الجرائم الواقعة في سورية، يقتضي منها المصادقة على نظام روما الأساسي، أو قبولها لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية عبر إعلان يبلغ إلى مكتب المدعي العام، وفق الفقرة 03 من المادة 12 من نظام روما الأساسي. ومن هنا، يبقى الطريق الوحيد لمساءلة هؤلاء المجرمين من المحكمة الجنائية الدولية الدائمة هو إحالة الوضع من مجلس الأمن، باعتباره يمتلك السلطة التقديرية لتكييف الحالة على أنها إخلال بالسلم والأمن الدوليين.
وقد أعدت فرنسا، عدة مرات، مسودة قرار لعرضه على مجلس الأمن، يقضي بإحالة الوضع في سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة المسؤولين عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وكلما طرح القرار للتصويت عليه أمام مجلس تستخدم كل من روسيا والصين في مجلس الأمن حق النقض من أجل رفضه، بحجة أن صدور مثل هذا القرار يشكل حيلةً دعائيةً، ويعرقل جهود المجتمع الدولي المشتركة في محاولة حل الأزمة في سورية، لكن حقيقة المعارضة دعم روسيا والصين نظام الرئيس السوري بشار الأسد، كما أنه حتى لو قبلت سورية باختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وتم إحالة القضية إلى المحكمة، فإنه سيصطدم بالنقض الروسي بتوقيف التحقيق في الجرائم المرتكبة في حق الشعب السوري من مجلس الأمن، باعتباره يملك صلاحية إرجاء التحقيق 12 شهراً قابلة للتجديد، ما يعرقل اختصاص المحكمة بإحالة المجرمين للمحاكمة أمامها.
هناك خيار آخر يمكن على أساسه متابعة المتهمين بارتكاب جرائم في سورية، يتمثل في قيام المحاكم الوطنية التابعة للدول التي تأخذ بمبدأ العالمية، مثل بلجيكا وألمانيا وفرنسا، بمساءلة هؤلاء المجرمين، مثل محاكمة رئيس تشيلي السبق بينوشيه أمام القضاء الإسباني، وقضية إرييل شارون أمام القضاء البلجيكي، لكن المشكلة عدم وجود إرادة سياسية لأي دولةٍ تطبق عالمية الاختصاص لمتابعة المجرمين في سورية.
يقوم الاختصاص الموضوعي للمحكمة الجنائية الدولية على أساس نوع الجريمة التي يتم التحقيق فيها وملاحقة مرتكبيها ومحاكمتهم، وقد حصر النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية اختصاصها في الجرائم الأكثر خطورةً، والتي تتمثل في جرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان، حيث أكدت ديباجة نظامها الأساسي أن الأمم المتحدة قصدت العزم من أجل بلوغ الغايات لصالح الأجيال الحالية والمقبلة على إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة ومستقلة، لها اختصاص في الجرائم الأشد خطورًة على المجتمع الدولي، باعتبارها أعلى هيئة في مجال القانون الجنائي الدولي، بغية تشجيع أكبر عدد من الدول على قبول الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية، ما يعزّز فعاليتها.
تعرّف الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في جريمة الإبادة الجماعية التي عرفتها المادة 6 من نظام روما أساسي بأنها أي فعل يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو أثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه، إهلاكاً كلياً أو جزئياً، وتشمل قتل أفراد الجماعة أو إلحاق ضرر جسدي، أو عقلي جسيم، بأفراد الجماعة وإخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشة يقصد بها إهلاكها الفعلي، كليا أو جزئيا، وكذا فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة، أو نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى.
ارتُكبت بحق المدنيين في سورية كل الأفعال المادية المكونة لجريمة الإبادة الجماعية منذ بداية الاحتجاجات في 15 مارس/ آذار2011، وما زالت مستمرة، كالإبادة الجماعية التي تعرّض لها الإيزيديون، وهذا ما يظهر للعيان عبر وسائل الإعلام بالصوت والصورة، ما يعد دليلاً قويا لمساءلة مرتكبي جرائم الإبادة بحق الشعب السوري.
فيما يخص الجرائم ضد الإنسانية، فهي التي تمس الإنسانية جمعاء، ويعود على المجتمع الدولي بأسره محاكمة مرتكبيها، وورد في المادة 07 من نظام روما الأساسي بعض الأفعال المادية للجريمة ضد الإنسانية، واشترطت ارتكابها في إطار هجوم واسع النطاق، أو منهجي، ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، عن علم بالهجوم، وتشمل القتل والإبادة والاسترقاق وإبعاد السكان أو القتل القسري أو الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء أو الحمل القسري أو التعقيم القسري، أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي، على مثل هذه الدرجة من الخطورة، وكذا اضطهاد أية جماعة محدّدة، أو مجموع محدد من السكان، لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية أو متعلقة بنوع الجنس، وكل الأفعال غير الإنسانية الأخرى.
ترتيبا لما سبق، فقد ارتكبت في حق الشعب السوري جرائم ضد الإنسانية من جرائم القتل والتعذيب وترحيل السكان والاختفاء القسري للأشخاص بمختلف فئات العمر، إضافة إلى النقل القسري للسكان، كما أن الهجوم على السكان المدنيين في سورية واسع النطاق ومنهجي في آن واحد، وقد ارتكبت هذه الجرائم بواسطة قوات المسلحة، أو بواسطة قوات الشرطة والأمن التابعة للدولة مع توافر القصد الجنائي، وعلم بارتكاب هذه الأفعال الشنيعة، ما يستوجب متابعتهم جنائياً، عما اقترفوه من جرائم ضد الإنسانية في حق الشعب السوري.
أما جرائم الحرب التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية، وفقاً للمادة 8 من نظام روما الأساسي، كل الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 أغسطس/ 1949، مثل القتل العمد والتعذيب وإلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والاستيلاء عليها، الإبعاد أو القتل أو الحبس المؤقت وإلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والإستيلاء عليها، الإبعاد أو القتل أو الحبس غير المشروع وأخذ الرهائن، إرغام أسرى الحرب أو الأشخاص المحميين على الخدمة لصالح الأعداء، وكذا الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة، مثل تعمّد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين، تعمّد توجيه هجماتٍ ضد مواقع مدنية، إضافة إلى الانتهاكات الجسيمة للمادة الثانية المشتركة في اتفاقيات جنيف لعام 1949، كاستعمال العنف ضد الأشخاص، والاعتداء على كرامة الشخص، وأخذ الرهائن وإصدار أحكام وتنفيذ إعدامات من دون وجود حكم سابق صادر عن محكمة مشكلةٍ تشكيلاً نظامياً، وكل الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية في المنازعات المسلحة غير الدولية، مثل تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين وضد المباني والوحدات الطبية ووسائل النقل والأفراد وأعمال النهب، الاغتصاب، الاستعباد الجنسي.
وعليه، نجد أن السكان المدنيين في سورية تعرّضوا لمعظم الأفعال التي تشكل جرائم حرب التي نصت عليها المادة 8 من نظام المحكمة الجنائية الدولية، ولا يزالون تحت وطأة المعاناة لمثل هذه الأفعال الإجرامية التي تشكل انتهاكات جسمية للقانونين، الدولي الإنساني والجنائي الدولي.
يكون محلاً للمساءلة الجنائية أمام المحكمة الجنائية الدولية كل من ارتكب جرائم بحق السكان المدنيين في سورية، بغض النظر عن الحصانة التي يتمتع بها، سواء ارتكب الجرائم بصفته الفردية، أو بالاشتراك مع آخر، أو قام بالتحريض، أو المساعدة بأي شكل آخر، لغرض تيسير ارتكاب هذه الجريمة أو الشروع في ارتكابها.
كما أن القادة والرؤساء، عسكريين أو مدنيين، يخضعون للمسؤولية الجنائية عن أعمال مرؤوسيهم الذين ارتكبوا ويرتكبون جرائم في حق الشعب السوري، ويخضعون لإمرتهم وسيطرتهم عند اقترافهم هذه الأفعال التي تشكل جرائم تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
إمكانية تحريك دعوى جنائية
ليس اختصاص المحكمة الجنائية الدولية تلقائياً، حتى في حالة ثبوت عدم رغبة الدول أو عدم قدرتها على التحقيق ومحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب أيٍّ من الجرائم الداخلة في اختصاصها. ولكن، يجب تحريك الدعوى الجنائية ضد الأشخاص المتهمين بارتكاب هذه الجرائم من الدولة الطرف في نظام المحكمة الجنائية الدولية، أي التي تقوم بإحالة أي حالة إلى المحكمة الجنائية الدولية، وفقا لأحكام المادة 14 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي نصت على أنه يجوز لدولةٍ طرف أن تحيل إلى المدعي العام أية حالة، يبدو فيها أن جريمةً أو أكثر من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة قد ارتكبت، وأن تطلب إلى المدعي العام التحقيق في الحالة، بغرض البتّ فيها.
ولا يمكن تفسير لفظ (حالة) بشكل محدود، والذي يعني قيام نزاع بين مجموعة أو أفراد أو وحدة عسكرية، أو أن يفسر ليشير إلى حدث معين، من دون الرجوع إلى السياق العام للنص. وسوف يكون هذا المعنى المقصود للفظ (حالة) مختلفا من واقعةٍ إلى أخرى. لذا، يجب تعريفه عن طريق المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لإزالة أي إبهام. كما يمكن لدولةٍ غير طرف في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أن تحيل أي دعوى إلى المحكمة، للتحقيق فيها، متى أعلنت هذه الدولة، بمقتضى إعلان خاص لدى مسجل المحكمة، قبولها مباشرة المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بالجريمة قيد البحث.
يحق للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية تحريك الدعوى أمامها، كما هو الأمر في النظم الوطنية، لتجنب سوء استغلال هذه الصلاحية من المنظمات غير الحكومية التي ترغب في إحراج بعض الدول، أو إثقال كاهل المدعي العام بالشكاوي التافهة التي تدفعه إلى استهلاك المصادر المحدودة للمحكمة، من أجل التحقق منها جميعا. وكذا إلى إمكانية وجود ضغوط سياسية على المدّعي العام، لكي يتولى التحقيق في حالةٍ معينةٍ، حتى ولو لم يكن هناك ما يبرّرها، ولكن صلاحية المدعي العام في تحريك الدعوى مقيدٌ بوجود أسبابٍ تدعوه إلى البدء في التحقيق، وحصوله على إذنٍ بالتحقيق من الدائرة التمهيدية.
أما مجلس الأمن فله صلاحية الإحالة إلى محكمة الجنائية الدولية، إذا رأى أن الجريمة المرتكبة تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وأن يكون من شأن هذا لإجراء حفظ السلم و الأمن الدوليين، من دون اشتراط أن تكون الجريمة قد ارتكبت في إقليم دولةٍ طرف، أو من شخصٍ يحمل جنسية دولةٍ طرف، ويكون قرار إحالة قضية إلى المحكمة الجنائية الدولية عن مجلس الأمن، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يعطيه سلطة تكييف أي حالةٍ على أنها تهديد للسلم والأمن الدولي. وهنا، يكون لمجلس الأمن سلطة تكييف الانتهاكات الجسمية للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان على أنها تشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، وهذا يعد ضماناً لتكريس المسؤولية الجنائية الفردية، في إطار صلاحيات حفظ السلم والأمن الدولي.
وباعتبار أن سورية وقعت على نظام المحكمة الجنائية الدولية في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2000، ولم تصادق عليه، فهي ليست طرفاً في المحكمة الجنائية الدولية. وبناء عليه، حتى تمارس المحكمة الجنائية الدولية اختصاصها على الجرائم الواقعة في سورية، يقتضي منها المصادقة على نظام روما الأساسي، أو قبولها لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية عبر إعلان يبلغ إلى مكتب المدعي العام، وفق الفقرة 03 من المادة 12 من نظام روما الأساسي. ومن هنا، يبقى الطريق الوحيد لمساءلة هؤلاء المجرمين من المحكمة الجنائية الدولية الدائمة هو إحالة الوضع من مجلس الأمن، باعتباره يمتلك السلطة التقديرية لتكييف الحالة على أنها إخلال بالسلم والأمن الدوليين.
وقد أعدت فرنسا، عدة مرات، مسودة قرار لعرضه على مجلس الأمن، يقضي بإحالة الوضع في سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة المسؤولين عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وكلما طرح القرار للتصويت عليه أمام مجلس تستخدم كل من روسيا والصين في مجلس الأمن حق النقض من أجل رفضه، بحجة أن صدور مثل هذا القرار يشكل حيلةً دعائيةً، ويعرقل جهود المجتمع الدولي المشتركة في محاولة حل الأزمة في سورية، لكن حقيقة المعارضة دعم روسيا والصين نظام الرئيس السوري بشار الأسد، كما أنه حتى لو قبلت سورية باختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وتم إحالة القضية إلى المحكمة، فإنه سيصطدم بالنقض الروسي بتوقيف التحقيق في الجرائم المرتكبة في حق الشعب السوري من مجلس الأمن، باعتباره يملك صلاحية إرجاء التحقيق 12 شهراً قابلة للتجديد، ما يعرقل اختصاص المحكمة بإحالة المجرمين للمحاكمة أمامها.
هناك خيار آخر يمكن على أساسه متابعة المتهمين بارتكاب جرائم في سورية، يتمثل في قيام المحاكم الوطنية التابعة للدول التي تأخذ بمبدأ العالمية، مثل بلجيكا وألمانيا وفرنسا، بمساءلة هؤلاء المجرمين، مثل محاكمة رئيس تشيلي السبق بينوشيه أمام القضاء الإسباني، وقضية إرييل شارون أمام القضاء البلجيكي، لكن المشكلة عدم وجود إرادة سياسية لأي دولةٍ تطبق عالمية الاختصاص لمتابعة المجرمين في سورية.
دلالات
سامية صديقي
باحثة جزائرية في القانون الدولي، أستاذ مساعد في كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة سطيف.
سامية صديقي
مقالات أخرى
22 سبتمبر 2016
23 اغسطس 2016