04 نوفمبر 2024
عبودية طويلة الأمد
في الماضي غير السحيق، أقصد أيام الجاهلية الصحية والبيئية الأولى، اعتدنا على عادية سلوك التدخين وبداهته، وكان وقتها ممارسة اجتماعية مقبولة، بل ومستحبّة، لا ترتّب تحفظاتٍ من أي نوع، ولا تستجلب شبهة النيات العدوانية على النفس، أو على حق الآخرين في أوكسجين خالٍ من النيكوتين.
كان التدخين الأصل في أبجديات التواصل الاجتماعي، حيث عانى غير المدخّن من الشعور بالغربة والحرج، لتخلّفه عن ركب السائد، وتعيّن عليه أن يعتذر عمّا لم يفعل! معزّزا ذلك بتقارير طبية مصدّقة حسب الأصول، تبريرا لإعاقته في هذا السياق.
واعتبر، في وقتٍ، الاعتذار عن سيجارةٍ ممدودةٍ تصرفاً فظاً، وغير لائق اجتماعياً، حتى لو كان المدعو إلى السيجارة غير مدخّن أساساً، فإنه سوف يجد نفسه مضطراً إلى "تنفيخ نفسين"، على سبيل المجاملة، لكي لا يجرح مشاعر المضيف. حتى أن مشهد صينية السجائر، بأنواعها المختلفة، مجاورة لدلّة القهوة، بمثابة لازمةٍ أساسيةٍ في مفردات الضيافة وأصولها المرعية، ولطالما نظر المجتمع بعين المباركة والإقرار لهذا السلوك الذي لم يكن مؤسفاً آنذاك، ولم يستدع، بطبيعة الحال، أية إدانة أخلاقيه لفعل روتيني اعتبر أقل عادية من شربة ماء.
وساهمت السينما، خصوصاً في ترويج صورةٍ شديدة الإيجابية، فائقة التضليل للمدخنين. فالبطل الشجاع الساحر الفاتن غير المكترث، قاهر الأعداء وملوّع قلوب الحسناوات، هو بالضرورة مدخّن، تحتل السيجارة زاويةً دائمةً في فمه، فتزيده سحب الدخان المنبعثة سحراً ووسامة. ولا يختلف الأمر بالنسبة لنجمات هوليوود الكلاسيكيات، حيث قاع السيجارة ملطخ على الدوام بأحمر الشفاه القاني.
ساهم ذلك كله في توجيه اللاوعي الجمعي، واستدراج الأفراد نحو قبول تلك الصورة، بل والسعي إلى تمثّلها، والتماهي معها باعتبارها نماذج عليا من حيث ديناميكيتها ونجاحها المهني والإنساني الذي يؤهّلها لحصد الإعجاب والشهرة الواسعة. ولم تخرج السينما المصرية عن السياق نفسه، فكلنا نتذكّر فاتنات الشاشة اللواتي صغن ذائقة أجيال بكاملها، هند رستم وناديا لطفي مثلاً، وقد كن من المدخنات النهمات العريقات. وإن ارتبط فعل التدخين بعنصر الشر والغواية، غير أنه لم يتعارض مع سلوك الشخصيات الإيجابية، وفي الوقت الذي لم يكفّ فيه محمود المليجي عن التدخين في أثناء تدبيره شؤون العصابة، كان فتى الشاشة الجميل رشدي أباظة معشوق السيدات مدخناً من طراز ثقيل أيضاً.
أياً كان الحال، فإنه، ولحسن الحظ، إلى تغيّر وتبدّل تدريجياً، وبالتوازي مع تعاظم الوعي بمخاطر التدخين وارتباطه الوثيق بالسرطان، وأمراض قاتلة كثيرة.
حقّق الغرب قفزاتٍ واسعة في سن القوانين والتشريعات الاحترازية، وإيقاع العقوبات التأديبية الرادعة، وفرض القيود الضريبية المعرقلة لتجارة التبغ، وقد تطرّفت دولٌ في اعتماد طرائق مكافحة التدخين، والتضييق على متعاطيه، إلى درجة اعتبرها بعضهم مساساً مباشراً بالحرية الشخصية. ويلمس الزائر إلى معظم دول أوروبا وأميركا مدى جديّة هذه القوانين وفاعليتها في تخفيف الإغراء باتجاه السيجارة.
يمكن القول إننا، في العالم العربي، قطعنا شوطاً معقولاً، وتبدو الصورة على الورق زاهية ومبشّرة، من حيث التشريعات والقوانين، غير أن ما يحدث على أرض الواقع باعث على القلق، لأن هذه القوانين غير مفعّلة، إلا في حدّها الأدنى، وما يزال في وسع أي صبي في معظم العواصم العربية ابتياع السجائر من المحلات التجارية. ولا تخلو المرافق العامة والدوائر الحكومية من مشاهد غير حضارية، باعثة على الأسى، في هذا السياق. وتظل الظاهرة الأشد خطورة تفشي التدخين بين صفوف الفتيات والشبان ممّن لم يتجاوزوا المرحلة الثانوية، يُقدِمون على التدخين بحسبانه فعل تمرّد وتحدٍّ، غير مدركين أنهم واقعون في شرك عبوديةٍ سوف يطول أمدها.
كان التدخين الأصل في أبجديات التواصل الاجتماعي، حيث عانى غير المدخّن من الشعور بالغربة والحرج، لتخلّفه عن ركب السائد، وتعيّن عليه أن يعتذر عمّا لم يفعل! معزّزا ذلك بتقارير طبية مصدّقة حسب الأصول، تبريرا لإعاقته في هذا السياق.
واعتبر، في وقتٍ، الاعتذار عن سيجارةٍ ممدودةٍ تصرفاً فظاً، وغير لائق اجتماعياً، حتى لو كان المدعو إلى السيجارة غير مدخّن أساساً، فإنه سوف يجد نفسه مضطراً إلى "تنفيخ نفسين"، على سبيل المجاملة، لكي لا يجرح مشاعر المضيف. حتى أن مشهد صينية السجائر، بأنواعها المختلفة، مجاورة لدلّة القهوة، بمثابة لازمةٍ أساسيةٍ في مفردات الضيافة وأصولها المرعية، ولطالما نظر المجتمع بعين المباركة والإقرار لهذا السلوك الذي لم يكن مؤسفاً آنذاك، ولم يستدع، بطبيعة الحال، أية إدانة أخلاقيه لفعل روتيني اعتبر أقل عادية من شربة ماء.
وساهمت السينما، خصوصاً في ترويج صورةٍ شديدة الإيجابية، فائقة التضليل للمدخنين. فالبطل الشجاع الساحر الفاتن غير المكترث، قاهر الأعداء وملوّع قلوب الحسناوات، هو بالضرورة مدخّن، تحتل السيجارة زاويةً دائمةً في فمه، فتزيده سحب الدخان المنبعثة سحراً ووسامة. ولا يختلف الأمر بالنسبة لنجمات هوليوود الكلاسيكيات، حيث قاع السيجارة ملطخ على الدوام بأحمر الشفاه القاني.
ساهم ذلك كله في توجيه اللاوعي الجمعي، واستدراج الأفراد نحو قبول تلك الصورة، بل والسعي إلى تمثّلها، والتماهي معها باعتبارها نماذج عليا من حيث ديناميكيتها ونجاحها المهني والإنساني الذي يؤهّلها لحصد الإعجاب والشهرة الواسعة. ولم تخرج السينما المصرية عن السياق نفسه، فكلنا نتذكّر فاتنات الشاشة اللواتي صغن ذائقة أجيال بكاملها، هند رستم وناديا لطفي مثلاً، وقد كن من المدخنات النهمات العريقات. وإن ارتبط فعل التدخين بعنصر الشر والغواية، غير أنه لم يتعارض مع سلوك الشخصيات الإيجابية، وفي الوقت الذي لم يكفّ فيه محمود المليجي عن التدخين في أثناء تدبيره شؤون العصابة، كان فتى الشاشة الجميل رشدي أباظة معشوق السيدات مدخناً من طراز ثقيل أيضاً.
أياً كان الحال، فإنه، ولحسن الحظ، إلى تغيّر وتبدّل تدريجياً، وبالتوازي مع تعاظم الوعي بمخاطر التدخين وارتباطه الوثيق بالسرطان، وأمراض قاتلة كثيرة.
حقّق الغرب قفزاتٍ واسعة في سن القوانين والتشريعات الاحترازية، وإيقاع العقوبات التأديبية الرادعة، وفرض القيود الضريبية المعرقلة لتجارة التبغ، وقد تطرّفت دولٌ في اعتماد طرائق مكافحة التدخين، والتضييق على متعاطيه، إلى درجة اعتبرها بعضهم مساساً مباشراً بالحرية الشخصية. ويلمس الزائر إلى معظم دول أوروبا وأميركا مدى جديّة هذه القوانين وفاعليتها في تخفيف الإغراء باتجاه السيجارة.
يمكن القول إننا، في العالم العربي، قطعنا شوطاً معقولاً، وتبدو الصورة على الورق زاهية ومبشّرة، من حيث التشريعات والقوانين، غير أن ما يحدث على أرض الواقع باعث على القلق، لأن هذه القوانين غير مفعّلة، إلا في حدّها الأدنى، وما يزال في وسع أي صبي في معظم العواصم العربية ابتياع السجائر من المحلات التجارية. ولا تخلو المرافق العامة والدوائر الحكومية من مشاهد غير حضارية، باعثة على الأسى، في هذا السياق. وتظل الظاهرة الأشد خطورة تفشي التدخين بين صفوف الفتيات والشبان ممّن لم يتجاوزوا المرحلة الثانوية، يُقدِمون على التدخين بحسبانه فعل تمرّد وتحدٍّ، غير مدركين أنهم واقعون في شرك عبوديةٍ سوف يطول أمدها.