06 نوفمبر 2024
ربيع ديمقراطي لاتيني أم ثورات مضادة؟
تعيش قارة أميركا اللاتينية على إيقاع أحداث متواصلة، أشبه ما تكون بالزلزال الكبير الذي ضرب دولاً عديدة فيها، وصلت ارتداداته إلى كل دول القارة المنسية التي نادراً ما نسمع أخبارها في وسائل الإعلام العالمية.
الحدث الأكبر الذي هز القارة اللاتينية ضرب أكبر دولة فيها، البرازيل، وأدى إلى إطاحة رئيستها المنتخبة، ديلما روسيف. وأصابت الضربة الثانية القوية فنزويلا التي تعيش على صفيح ساخن، يهدد مستقبل رئيسها، نيكولاس مادورو، الذي بات مهدداً هو الآخر بالإطاحة أو الانقلاب عليه. وقبل ذلك رأينا كيف لعب الإعلام الغربي دوراً خبيثا في إطاحة رئيسة الأرجنتين السابقة، كريستينا دي كيرشنير، التي عُرفت بانتقاداتها اللاذعة والعلنية على منصة الأمم المتحدة، وداخل مجلس الأمن، لأميركا وإسرائيل. واليوم يقود الإعلام نفسه حملة مشينة لتشويه صورتها، باتهامها الإضرارَ بالمال العام، والإيعاز أن اسمها ورد في "وثائق بنما".
أغلب دول أميركا اللاتينية التي عرفت، أو تعرف، حكم أحزاب يسارية، تعيش اليوم على إيقاع أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، بعد أن دخلت مرحلة الاضطراب الاقتصادي وعدم الاستقرار الاجتماعي.
ثمّة من يفسر ما يحصل هناك بأزمة اليسار نفسه في تلك الدول، وهناك من يبحث لها عن تبرير في قاموس المؤامرة "الإمبريالية" التي تقود ثوراتٍ معارضة، يغذيها الغضب الشعبي وطموحات الأحزاب اليمينية المعارضة، الساعية إلى استعادة زمام أمور الحكم في بلدانها.
يرى أصحاب نظرية المؤامرة في كل ما يحصل في دول أميركا اللاتينية مؤامرة إمبريالية تقودها الولايات المتحدة الأميركية للانتقام من اليسار اللاتيني الذي وصل إلى الحكم في أكثر من دولة لاتينية، وأصبح يهدد الوجود الحيوي للرأسمالية الأميركية في قارة أميركا الجنوبية التي كانت واشنطن تعتبرها حديقتها الخلفية.
فالبرازيل التي كانت تعيش تحت حكم العسكر المدعوم من أميركا ومخابراتها، تحولت إلى دولة ديمقراطية، وباتت تشكل قوة اقتصادية عالمية، احتلت عام 2011 المرتبة السادسة بين القوى الاقتصادية الكبرى العالمية، متجاوزة بريطانيا. وشكلت، إلى جانب روسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا، محوراً اقتصادياً كبيراً هو مجموعة "بريكس" التي انتهجت سياساتٍ اقتصادية، تسعى إلى مواجهة الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي .
كما أن سياسة قادة فنزويلا التي تعتبر ثالث دولة منتجة للنفط، ورابع دولة مصدرة له، لم تكن دائماً تروق واشنطن، خصوصاً في عهد الرئيس الفنزويلي الراحل، هوغو تشافيز، الذي لم يكن يخفي عداءه لأميركا، ومناصرته أعداءها من كوبا إلى إيران، مروراً بحزب الله في لبنان ومناصرته القضية الفلسطينية.
نجح ما بات يسمى "اليسار اللاتيني"، في العقود العشرة الماضية، في بناء نموذج اقتصادي
فعال ساهم، إلى حدٍّ ما، في تقليص الفوارق الطبقية في أكثر من بلد لاتيني، وفي انتشال الملايين من سكان تلك الدول من بؤر الفقر، ونجح في الحد من سلطة عصابات الجريمة المنظمة. وأكثر من ذلك، أصبح له صوت مسموع في العالم ينتقد أميركا علناً، ويسعى إلى الحد من نفوذها الرأسمالي. وكانت أميركا تنظر إلى كل هذه النجاحات كاستفزازاتٍ لم تكن لتسمح لها أن تدوم، وبالأحرى أن تُصدر إلى باقي دول العالم.
لكن، يجب الإقرار، أيضاً، أن اليسار في أميركا اللاتينية لم يكن كله "مثالياً"، ولم تكن كل إنجازاته نجاحات، وإنما كانت له إخفاقات كبيرة، لعل أهمها فشله في تقوية البناء الديمقراطي، وانسياق أغلبيته وراء الشعارات الشعبوية التي كانت لها انعكاسات وخيمة على الاقتصاد. وأكثر من ذلك على طريقة الحكم الذي تمت شخصنته بعيداً عن المؤسسات التي يقوم عليها النظام الديمقراطي السليم.
ما يحصل، اليوم، في أكثر من دولة من دول أميركا اللاتينية هو تحالف هجين بين سياسات الفشل، المسؤول عنها حكومات اليسار في تلك الدول، وسياسات أميركا التي لم تكن تريد أن تنجح تلك الدول في بناء نموذج اقتصادي وسياسي مستقل عنها، ومنافس لها، وبالأحرى معادٍ لها. فهل ما يحصل، اليوم، في دول أميركا اللاتينية، في البرازيل وفنزويلا والأرجنتين، ربيع ديمقراطي لاتيني، أم أن الأمر يتعلق بثورات مضادة، تريد القضاء على تجارب اليسار اللاتيني؟
يحاول الإعلام الغربي أن يصوّر ما يحدث في أكثر من دولة من دول أميركا اللاتينية، أن الأمر يتعلق بربيع ديمقراطي، تقوده الطبقة المتوسطة في تلك الدول، وهذا نصف الحقيقة، لأن النصف الآخر الخفي الذي لا يظهره هذا الإعلام هو "الحرب غير التقليدية" التي تحرّك هذا الربيع من بروباغاندا وإعداد نفسي لتقبل الانقلاب متى وقع، والتطبيع مع نتائجه.
لكن، لا يحسن إلقاء اللوم كله على أميركا والإمبريالية العالمية فيما يحصل في دول أميركا اللاتينية، فأنظمتها، وخصوصاً يسارها، يتحمل مسؤولية كبيرة في ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لبلدانهم. لا يكفي أن ترفع شعار محاربة الإمبريالية لهزيمتها، فالإمبريالية نظام معقد، والأسلم لمن لا يملك القدرة على مواجهته أن يبحث كيف يتعايش معه، لأن النتيجة، في الحالة الأولى، حتمية ومعروفة: الانكسار، وهو ما يحدث اليوم لليسار اللاتيني.
الحدث الأكبر الذي هز القارة اللاتينية ضرب أكبر دولة فيها، البرازيل، وأدى إلى إطاحة رئيستها المنتخبة، ديلما روسيف. وأصابت الضربة الثانية القوية فنزويلا التي تعيش على صفيح ساخن، يهدد مستقبل رئيسها، نيكولاس مادورو، الذي بات مهدداً هو الآخر بالإطاحة أو الانقلاب عليه. وقبل ذلك رأينا كيف لعب الإعلام الغربي دوراً خبيثا في إطاحة رئيسة الأرجنتين السابقة، كريستينا دي كيرشنير، التي عُرفت بانتقاداتها اللاذعة والعلنية على منصة الأمم المتحدة، وداخل مجلس الأمن، لأميركا وإسرائيل. واليوم يقود الإعلام نفسه حملة مشينة لتشويه صورتها، باتهامها الإضرارَ بالمال العام، والإيعاز أن اسمها ورد في "وثائق بنما".
أغلب دول أميركا اللاتينية التي عرفت، أو تعرف، حكم أحزاب يسارية، تعيش اليوم على إيقاع أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، بعد أن دخلت مرحلة الاضطراب الاقتصادي وعدم الاستقرار الاجتماعي.
ثمّة من يفسر ما يحصل هناك بأزمة اليسار نفسه في تلك الدول، وهناك من يبحث لها عن تبرير في قاموس المؤامرة "الإمبريالية" التي تقود ثوراتٍ معارضة، يغذيها الغضب الشعبي وطموحات الأحزاب اليمينية المعارضة، الساعية إلى استعادة زمام أمور الحكم في بلدانها.
يرى أصحاب نظرية المؤامرة في كل ما يحصل في دول أميركا اللاتينية مؤامرة إمبريالية تقودها الولايات المتحدة الأميركية للانتقام من اليسار اللاتيني الذي وصل إلى الحكم في أكثر من دولة لاتينية، وأصبح يهدد الوجود الحيوي للرأسمالية الأميركية في قارة أميركا الجنوبية التي كانت واشنطن تعتبرها حديقتها الخلفية.
فالبرازيل التي كانت تعيش تحت حكم العسكر المدعوم من أميركا ومخابراتها، تحولت إلى دولة ديمقراطية، وباتت تشكل قوة اقتصادية عالمية، احتلت عام 2011 المرتبة السادسة بين القوى الاقتصادية الكبرى العالمية، متجاوزة بريطانيا. وشكلت، إلى جانب روسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا، محوراً اقتصادياً كبيراً هو مجموعة "بريكس" التي انتهجت سياساتٍ اقتصادية، تسعى إلى مواجهة الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي .
كما أن سياسة قادة فنزويلا التي تعتبر ثالث دولة منتجة للنفط، ورابع دولة مصدرة له، لم تكن دائماً تروق واشنطن، خصوصاً في عهد الرئيس الفنزويلي الراحل، هوغو تشافيز، الذي لم يكن يخفي عداءه لأميركا، ومناصرته أعداءها من كوبا إلى إيران، مروراً بحزب الله في لبنان ومناصرته القضية الفلسطينية.
نجح ما بات يسمى "اليسار اللاتيني"، في العقود العشرة الماضية، في بناء نموذج اقتصادي
لكن، يجب الإقرار، أيضاً، أن اليسار في أميركا اللاتينية لم يكن كله "مثالياً"، ولم تكن كل إنجازاته نجاحات، وإنما كانت له إخفاقات كبيرة، لعل أهمها فشله في تقوية البناء الديمقراطي، وانسياق أغلبيته وراء الشعارات الشعبوية التي كانت لها انعكاسات وخيمة على الاقتصاد. وأكثر من ذلك على طريقة الحكم الذي تمت شخصنته بعيداً عن المؤسسات التي يقوم عليها النظام الديمقراطي السليم.
ما يحصل، اليوم، في أكثر من دولة من دول أميركا اللاتينية هو تحالف هجين بين سياسات الفشل، المسؤول عنها حكومات اليسار في تلك الدول، وسياسات أميركا التي لم تكن تريد أن تنجح تلك الدول في بناء نموذج اقتصادي وسياسي مستقل عنها، ومنافس لها، وبالأحرى معادٍ لها. فهل ما يحصل، اليوم، في دول أميركا اللاتينية، في البرازيل وفنزويلا والأرجنتين، ربيع ديمقراطي لاتيني، أم أن الأمر يتعلق بثورات مضادة، تريد القضاء على تجارب اليسار اللاتيني؟
يحاول الإعلام الغربي أن يصوّر ما يحدث في أكثر من دولة من دول أميركا اللاتينية، أن الأمر يتعلق بربيع ديمقراطي، تقوده الطبقة المتوسطة في تلك الدول، وهذا نصف الحقيقة، لأن النصف الآخر الخفي الذي لا يظهره هذا الإعلام هو "الحرب غير التقليدية" التي تحرّك هذا الربيع من بروباغاندا وإعداد نفسي لتقبل الانقلاب متى وقع، والتطبيع مع نتائجه.
لكن، لا يحسن إلقاء اللوم كله على أميركا والإمبريالية العالمية فيما يحصل في دول أميركا اللاتينية، فأنظمتها، وخصوصاً يسارها، يتحمل مسؤولية كبيرة في ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لبلدانهم. لا يكفي أن ترفع شعار محاربة الإمبريالية لهزيمتها، فالإمبريالية نظام معقد، والأسلم لمن لا يملك القدرة على مواجهته أن يبحث كيف يتعايش معه، لأن النتيجة، في الحالة الأولى، حتمية ومعروفة: الانكسار، وهو ما يحدث اليوم لليسار اللاتيني.