05 نوفمبر 2024
داعش حين تضرب في الساحل السوري
ليس الساحل السوري جنةً في الأرض السورية موازيةً للفردوس الذي يُدفع بالجهاد المقدس لأجله، وليس منطقةً تُصنّف بأنها آمنة، لأن النظام يسيطر عليها، وهو من يقرّر متى يضطرب أمنها، هو بقعة جغرافية قديمة، توالت عليه شعوب واندثرت، ونهض غيرها في سلسلة من الحياة البشرية المستمرة التي أنتجت حضاراتٍ، وتراكمت فيها ثقافاتٌ، هي حصيلة ما أنتجته تلك الشعوب. وهذا ليس مجال ما تريد هذه المقالة قوله.
طاولت يد الإرهاب هذه المنطقة التي بقيت، في جزءٍ منها، بعيدةً عن ساحات الاقتتال والمفخخات والقنص والهاونات والبراميل، وشهدت أجزاء أخرى معاركَ ما زالت تدور بين كرّ وفرّ، كما في الريف الشمالي للاذقية، تلك المعارك الطاحنة التي خطفت شباباً بعمر الأزهار والحلم، عدا شبابها الذين يموتون في المعارك العبثية، الدائرة منذ خمس سنوات، في شتى أنحاء الوطن. تعرّض أهل الساحل كثيراً للاعتداء بأبشع أشكاله، مثلما يحدث في مناطق كثيرة، وخُطف منهم أطفال ونساء وشيوخ، لم يعرف مصير بعضهم حتى اليوم، ومن رجالهم من شوهدوا على الشاشات، أو على صفحات الميديا، تقطع رؤوسهم وتعلق، بتهم بسيطةٍ لا تحتاج إلى قرائن أو أدلّة: أنهم نصيريون. ووضعت نساءٌ من أهل الساحل في أقفاص، وثمة غير هذه وتلك من وقائع التوحش الكثير المتغوّل في سورية على امتداد أراضيها، لا يهم بعد كل هذا التوحش إدانة جهةٍ دون غيرها، فالكل مرتكب، وسورية بلد المجازر في القرن الواحد والعشرين. لكن، حتى المجزرة في 23 مايو/ أيار الجاري، لم يبدر عن أهل الساحل أي رد فعل، أو سلوك انتقامي ضد إخوانهم وأهلهم الذين نزحوا هاربين من الموت في مناطقهم.
نفذت المجزرة نفذتها أيدٍ مجرمة، وكانت بمثابة الزلزال الذي صدّع النفوس، وأودى بالعقول إلى الغياب، لولا بعض الحكماء والعقلاء الذين كانوا يقظين بشأن الزلزال الأكبر الذي قد يحدث، فيما لو تمادى الغوغائيون أو المدفوعون في تحريضهم وإثارتهم الفتن، وهجوم بعضهم على المخيمات أو الأحياء التي يقطنها نازحون من باقي المحافظات السورية المنكوبة، وخصوصاً من حلب.
تفجير هنا وتفجير هناك، ومجزرة هنا ومجزرة هناك، واتهام هنا وآخر هناك، والناس، كل الناس، ذاهلون عن الواقع، غير مكترثين بما يجرى في المستوى الآخر، في الميادين الأكثر شيطانيةً، السياسة، لأن حياتهم مهدّدة، يعيشون على وقع الحروب والشائعات، ويلوذون خلف الحد الأدنى من حياةٍ تبقيهم على قيد الرمق.
تتبنى داعش الجريمة، وداعش مهدّدة قبلها بالهجوم والقضاء عليها في العراق، ومهدّدة بالحرب عليها من قوات التحالف الدولي في الرقة، القوات التي تضافرت فيها جهود وقوات من أكثر من ستين دولة بين دول قوية وأخرى حليفة أو تابعة لها. ومع هذا، تزداد داعش قوة وثباتاً وتخطيطاً وقدرةً على الانتقام، وتنفيذ عمليات بلا حدود. أي عقلٍ، يسكن جسداً غير مهدّد بالموت والفقر والجوع والتهجير، يمكن أن يقبل بدعةً من هذا النوع؟ بدعة هذا التنظيم الأسطوري الذي انبثق فوق أرضنا، مكتملاً ناضجاً، له كل مقومات القوة والمبادرة والسيطرة والتمدّد والتوسع؟ داعش هي اللعبة العظمى، هي الطاعون اللغز، هي تواطؤ العالم مجتمعاً على سكان هذه المنطقة، المصابة بلعنة تاريخها وجغرافيتها. داعش المستثمر العابر للحدود.
الساحل بقعة من أرض سورية، مكتظة بعدد كبير من الشعب السوري المتنوع والمتعدّد، هي أكبر وأرحب من تصنيفها الماكر منطقة موالاةٍ، أو منطقة علويين، كما تصر بعض الأطراف على تسميتها. وللأسف، يكرّر هذه التسمية من يُفترض أنهم نخبة اجتماعية أو ثقافية، مثلما يشوّه سمعتها، في المقابل، بعض المستفيدين من ظروف الحرب وحقول الفساد المنتجة بوفرةٍ، إذ يكرّسون هذا التصنيف، ويروّجون فكرة أنها أرض الموالاة فقط. الساحل هو سورية الأزمة، سورية الوحدة الوطنية بأبسط تجلياتها أو إمكانية تحققها. لم يلجأ إليها الناس من المناطق المنكوبة، لأنهم موالاة، ولا لأنهم عائلات معارضين يقاتلون النظام في مناطقهم، كما يحلو لبعض من يكرّس هذا المفهوم الهادم، بل لأنهم سوريون في الدرجة الأولى، يريدون أن يعيشوا بأمانٍ وسلامٍ ضمن وطنهم، لا يريدون الغربة واللجوء. المنطقة الساحلية هي ملاذ لمن يعيش سوريته بأبسط أشكالها، ربما بلا طموحٍ في هذه الظروف. لكن، على الأقل بضمان الحياة والحد الأدنى من العيش، بانتظار حلمٍ قد يتحقق، حلم أن تكف الحرب عن التغوّل في وطنهم، ويعيدوا بناءه من جديد.
الصوت الملحّ اليوم هو صوت العقل والضمير، السلوك الملحّ اليوم هو العمل على درء الفتن ومحاربة من يريدون إضرامها بغوغائيةٍ مضبوطةٍ وموجهة. كل الأطراف المتحاربة مستفيدةٌ من إبقاء جذوةٍ تحت رماد كل احتراقٍ يصيب منطقةً من سورية. ها هم أهلنا في الرقة محاصرون، ليكونوا حطب محرقةٍ قادمة، كتب أحد أبنائها الذين غادروا خارج البلاد وبقي أهله هناك: ما أسهل مرور داعش بين دمشق والعراق وتركيا، وما أصعب خروج أهلي. بينما صفحات التواصل الاجتماعي زاخرة بالمعارك بين العرب والكرد، بين موالاةٍ ومعارضةٍ، بين مؤيد لداعش أو جبهة النصرة، أو بعض الفصائل الإسلامية المقاتلة، ومؤيدٍ لما تبقى من الجيش الحر، ويضيع صوت العقل وصوت الضمير.
لا بد من أجراسٍ تُقرع، حتى لو كان الجمهور أصمّ، استمرار قرعها سيجعلهم يسمعون. هو أوان الدعوة إلى العقل والسلم والرحمة والابتعاد عن التجييش والتضليل، قال الدكتور محمد حبش: إذا كنا لن نتحدّث عن السلام يوم الحرب، فما جدوى الحديث عن السلام يوم السلام؟ خطاب السلام شأنه أن ينطلق في ساعة الهول والموت، وأن يكسر السيوف المتقاطعة، وأن يكفّ الأنياب والأظافر المتشابكة عن ممارسة الخنق والذبح، وأن يضع فيها المناجل بدل السيوف، والأقلام بدل السهام، والكلمة بدل الرصاص. نعم، نحن بحاجة إلى هذا الخطاب، ولو أن المناوئين كثر، ولو أن المعارك الجانبية ستحتدم من أجل إسكاته، هي معركة أشرف بكثير من المعارك الخسيسة الدائرة، هي معركة الخير ضد الشر، الرحمة ضد الانتهاك، الغفران ضد الثأرية والانتقام.
تنزف سورية، منذ خمس سنوات، من مجزرةٍ إلى أخرى، وتتهاوى من بنيانٍ إلى آخر، ويجوع أهلها ويتهدّدهم الفقر والموت، ويكادون يخسرون ما تبقى من وطنٍ هو قدر أطفالهم، وهو دين عليهم تجاه الأجيال القادمة.
طاولت يد الإرهاب هذه المنطقة التي بقيت، في جزءٍ منها، بعيدةً عن ساحات الاقتتال والمفخخات والقنص والهاونات والبراميل، وشهدت أجزاء أخرى معاركَ ما زالت تدور بين كرّ وفرّ، كما في الريف الشمالي للاذقية، تلك المعارك الطاحنة التي خطفت شباباً بعمر الأزهار والحلم، عدا شبابها الذين يموتون في المعارك العبثية، الدائرة منذ خمس سنوات، في شتى أنحاء الوطن. تعرّض أهل الساحل كثيراً للاعتداء بأبشع أشكاله، مثلما يحدث في مناطق كثيرة، وخُطف منهم أطفال ونساء وشيوخ، لم يعرف مصير بعضهم حتى اليوم، ومن رجالهم من شوهدوا على الشاشات، أو على صفحات الميديا، تقطع رؤوسهم وتعلق، بتهم بسيطةٍ لا تحتاج إلى قرائن أو أدلّة: أنهم نصيريون. ووضعت نساءٌ من أهل الساحل في أقفاص، وثمة غير هذه وتلك من وقائع التوحش الكثير المتغوّل في سورية على امتداد أراضيها، لا يهم بعد كل هذا التوحش إدانة جهةٍ دون غيرها، فالكل مرتكب، وسورية بلد المجازر في القرن الواحد والعشرين. لكن، حتى المجزرة في 23 مايو/ أيار الجاري، لم يبدر عن أهل الساحل أي رد فعل، أو سلوك انتقامي ضد إخوانهم وأهلهم الذين نزحوا هاربين من الموت في مناطقهم.
نفذت المجزرة نفذتها أيدٍ مجرمة، وكانت بمثابة الزلزال الذي صدّع النفوس، وأودى بالعقول إلى الغياب، لولا بعض الحكماء والعقلاء الذين كانوا يقظين بشأن الزلزال الأكبر الذي قد يحدث، فيما لو تمادى الغوغائيون أو المدفوعون في تحريضهم وإثارتهم الفتن، وهجوم بعضهم على المخيمات أو الأحياء التي يقطنها نازحون من باقي المحافظات السورية المنكوبة، وخصوصاً من حلب.
تفجير هنا وتفجير هناك، ومجزرة هنا ومجزرة هناك، واتهام هنا وآخر هناك، والناس، كل الناس، ذاهلون عن الواقع، غير مكترثين بما يجرى في المستوى الآخر، في الميادين الأكثر شيطانيةً، السياسة، لأن حياتهم مهدّدة، يعيشون على وقع الحروب والشائعات، ويلوذون خلف الحد الأدنى من حياةٍ تبقيهم على قيد الرمق.
تتبنى داعش الجريمة، وداعش مهدّدة قبلها بالهجوم والقضاء عليها في العراق، ومهدّدة بالحرب عليها من قوات التحالف الدولي في الرقة، القوات التي تضافرت فيها جهود وقوات من أكثر من ستين دولة بين دول قوية وأخرى حليفة أو تابعة لها. ومع هذا، تزداد داعش قوة وثباتاً وتخطيطاً وقدرةً على الانتقام، وتنفيذ عمليات بلا حدود. أي عقلٍ، يسكن جسداً غير مهدّد بالموت والفقر والجوع والتهجير، يمكن أن يقبل بدعةً من هذا النوع؟ بدعة هذا التنظيم الأسطوري الذي انبثق فوق أرضنا، مكتملاً ناضجاً، له كل مقومات القوة والمبادرة والسيطرة والتمدّد والتوسع؟ داعش هي اللعبة العظمى، هي الطاعون اللغز، هي تواطؤ العالم مجتمعاً على سكان هذه المنطقة، المصابة بلعنة تاريخها وجغرافيتها. داعش المستثمر العابر للحدود.
الساحل بقعة من أرض سورية، مكتظة بعدد كبير من الشعب السوري المتنوع والمتعدّد، هي أكبر وأرحب من تصنيفها الماكر منطقة موالاةٍ، أو منطقة علويين، كما تصر بعض الأطراف على تسميتها. وللأسف، يكرّر هذه التسمية من يُفترض أنهم نخبة اجتماعية أو ثقافية، مثلما يشوّه سمعتها، في المقابل، بعض المستفيدين من ظروف الحرب وحقول الفساد المنتجة بوفرةٍ، إذ يكرّسون هذا التصنيف، ويروّجون فكرة أنها أرض الموالاة فقط. الساحل هو سورية الأزمة، سورية الوحدة الوطنية بأبسط تجلياتها أو إمكانية تحققها. لم يلجأ إليها الناس من المناطق المنكوبة، لأنهم موالاة، ولا لأنهم عائلات معارضين يقاتلون النظام في مناطقهم، كما يحلو لبعض من يكرّس هذا المفهوم الهادم، بل لأنهم سوريون في الدرجة الأولى، يريدون أن يعيشوا بأمانٍ وسلامٍ ضمن وطنهم، لا يريدون الغربة واللجوء. المنطقة الساحلية هي ملاذ لمن يعيش سوريته بأبسط أشكالها، ربما بلا طموحٍ في هذه الظروف. لكن، على الأقل بضمان الحياة والحد الأدنى من العيش، بانتظار حلمٍ قد يتحقق، حلم أن تكف الحرب عن التغوّل في وطنهم، ويعيدوا بناءه من جديد.
الصوت الملحّ اليوم هو صوت العقل والضمير، السلوك الملحّ اليوم هو العمل على درء الفتن ومحاربة من يريدون إضرامها بغوغائيةٍ مضبوطةٍ وموجهة. كل الأطراف المتحاربة مستفيدةٌ من إبقاء جذوةٍ تحت رماد كل احتراقٍ يصيب منطقةً من سورية. ها هم أهلنا في الرقة محاصرون، ليكونوا حطب محرقةٍ قادمة، كتب أحد أبنائها الذين غادروا خارج البلاد وبقي أهله هناك: ما أسهل مرور داعش بين دمشق والعراق وتركيا، وما أصعب خروج أهلي. بينما صفحات التواصل الاجتماعي زاخرة بالمعارك بين العرب والكرد، بين موالاةٍ ومعارضةٍ، بين مؤيد لداعش أو جبهة النصرة، أو بعض الفصائل الإسلامية المقاتلة، ومؤيدٍ لما تبقى من الجيش الحر، ويضيع صوت العقل وصوت الضمير.
لا بد من أجراسٍ تُقرع، حتى لو كان الجمهور أصمّ، استمرار قرعها سيجعلهم يسمعون. هو أوان الدعوة إلى العقل والسلم والرحمة والابتعاد عن التجييش والتضليل، قال الدكتور محمد حبش: إذا كنا لن نتحدّث عن السلام يوم الحرب، فما جدوى الحديث عن السلام يوم السلام؟ خطاب السلام شأنه أن ينطلق في ساعة الهول والموت، وأن يكسر السيوف المتقاطعة، وأن يكفّ الأنياب والأظافر المتشابكة عن ممارسة الخنق والذبح، وأن يضع فيها المناجل بدل السيوف، والأقلام بدل السهام، والكلمة بدل الرصاص. نعم، نحن بحاجة إلى هذا الخطاب، ولو أن المناوئين كثر، ولو أن المعارك الجانبية ستحتدم من أجل إسكاته، هي معركة أشرف بكثير من المعارك الخسيسة الدائرة، هي معركة الخير ضد الشر، الرحمة ضد الانتهاك، الغفران ضد الثأرية والانتقام.
تنزف سورية، منذ خمس سنوات، من مجزرةٍ إلى أخرى، وتتهاوى من بنيانٍ إلى آخر، ويجوع أهلها ويتهدّدهم الفقر والموت، ويكادون يخسرون ما تبقى من وطنٍ هو قدر أطفالهم، وهو دين عليهم تجاه الأجيال القادمة.
دلالات
مقالات أخرى
27 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024
05 أكتوبر 2024