31 أكتوبر 2024
عودة الجغرافيا في الصراع السوري
يتبلور الصراع في سورية، يوماً بعد آخر، صراعاً جغرافياً خالصاً، وتكاد الأبعاد الأخرى تتحوّل إلى مجرد أدواتٍ تخدم البعد الجغرافي، فعلى الرغم من كل ادعاءات أطرافٍ كثيرة عن وحدة سورية الإقليمية، أو الحفاظ عليها موحّدةً ضمن نسقٍ سياسيٍّ، إقليمي ودولي، فإن ذلك لا يعدو أن يكون أداةً تفاوضية تكتيكية، من أجل تعزيز المواقف الهادفة أصلاً إلى كسب مزيدٍ من الجغرافية المفيدة والنافعة.
وتكتشف أطراف الصراع، وخصوصاً نظام الأسد والأطراف الداعمة له، وعبر التجربة العملية، أن ما كانت تعتبره سورية المفيدة لا يمكن أن تكتمل فائدته إلا إذا أضيفت إليه الأقاليم الأخرى، ذلك أن كل إقليم يتمتع بمزايا اقتصادية وطبيعة استراتيجية تجعل السيطرة عليه أمراً لازماً، تهون أمامه التكاليف البشرية والمادية، بالإضافة إلى الحاجة الأمنية التي تفرضها طبيعة التداخل الجغرافي، وقرب المناطق من بعضها، وصعوبة الفصل بينها.
ينطبق الأمر نفسه على أطراف الصراع الإقليمية والدولية التي تنخرط في الصراع السوري، حيث تشكّل الجغرافية عنصراً مقرّراً وشارطاً لبلورة النفوذ وتظهيره في الحيز السوري والغلاف الإقليمي المحيط به، بل أكثر من ذلك، تصبح الجغرافيا العامل الذي يرسم حدود السيطرة وحجم النفوذ، ومن دونه تبقى تلك المسائل معلّقة وضبابية، وذات قابلية للتأويل والتفسير.
يتّضح مدى أهمية السيطرة الجغرافية من خلال التكتيكات التي تمارسها أطراف الصراع في توظيف المفاوضات عنصراً مساعداً على كسب المساحة الأكبر من الإقليم، ويتبدّى ذلك الأمر جلياً من خلال إصرار روسيا وإيران على شرعية نظام الأسد ومؤسساته، بما يمنحها حق الولاية القانونية على كامل الجغرافية السورية، وبما يحوّل الوضع الجغرافي والسياسي للأطراف الأخرى إلى وضعٍ مؤقتٍ وشاذ، ويتوجب تسويته ضمن المفاوضات، وليس ترسيخه وضعاً نهائياً، أو خطوط تماس دائمة لأطراف متصارعة.
تجسّد حلب، اليوم، هذا النمط الصراعي، وإذ تشكل أولويةً في الصراع بالنسبة للمحور الذي تقوده روسيا، فلأنها تعتبر المساحة الجغرافية التي تتداخل مع التأثير الإقليمي التركي، بما له من ارتباطاتٍ مع مجال التأثير لحلف الناتو، واحتمال وقوع هذه المنطقة ضمن فعالياته، وخصوصاً في حال اضطرار الحلف إلى تفعيل المادة الخامسة من ميثاق الحلف الأساسي الذي يمنح حق المساعدة للأعضاء، في حال تعرّضها للمخاطر، ويحصل ذلك في وقت جرى تسكين جبهة الجنوب، عبر تسوياتٍ إقليمية ودولية، انخرط فيها الروس مع الطرف الأردني، وبالتفاهم مع الجانب الإسرائيلي وموافقة نظام الأسد وداعميه، إيران وحزب الله، وعلى الرغم من حساسية هذه الجبهة القريبة من العاصمة دمشق، إلا أن الصياغة التي اعتمدتها روسيا للتسويات، وراعت من خلالها الحساسيات السياسية والتوازنات بين الأطراف كافة، كانت قادرةً على ضبط الصراع وإدارته بطريقة مختلفة، كان من نتيجتها تأجيل البت في وضعية هذه المناطق، إلى حين الانتهاء من ترتيباتٍ أخرى.
لا شك أن استخدام المعيار الإستراتيجي في تقييم المناطق الجغرافية حوّل الجبهات الداخلية، غوطة دمشق وأرياف حمص وحماة، إلى صراعاتٍ محليةٍ، لا تبذل الأطراف الإقليمية والدولية كامل طاقتها في الصراع فيها، وجعل أمر تشغيلها مرتبطاً، بدرجة كبيرة، بمدى تأثيرها في الصراع الإستراتيجي، المتمثل بمجال صدام القوى الدولية والإقليمية، حيث تتحوّل تلك الجبهات إلى روافد للضغط والتأثير في مجرى الصراع الكلي، ذلك أن جملة المكاسب التكتيكية على تلك الجبهات يُصار إلى توظيفها في السياق العام للصراع، لكنها ليست كافيةً لحسم الصراع، أو تغيير موازين القوى، و ما يعزّز هذا التحليل حقيقة أن أطراف الصراع زجّت بقوات نخبتها، والجزء الكبير من دعمها المناطق المعتبرة استراتيجية وحاسمة، وخصوصاً جبهة حلب.
في ظل هذا الاحتدام، ثمّة سؤال يطرح نفسه حول موقع أميركا في خريطة الاشتباك، خصوصاً أن جميع أطراف الصراع، المحور الذي تقوده روسيا، والمحور المؤيد للثورة السورية، توجّه أصابع الإتهام لإدارة الرئيس باراك أوباما، إما بسبب ما تراه من لبس وغموض في مواقفها، أو لما يعتبره بعضهم تراجعاً لمصلحة موسكو وطهران في سورية، لكن تفحّص سلوك واشنطن العملياتي يوضح، بدرجةٍ كبيرة، إنخراطها في لعبة الصراع الجغرافي، وهو ما تكشفه بيانات دعمها بالأسلحة لما تعتبره أدواتها على الأرض (قوات سورية الديمقراطية، وبعض فصائل المعارضة السورية)، وكذا زيادة أعداد مستشاريها وخبرائها العسكريين، وفوق ذلك فرضها خطوطاً حمر، وخصوصاً في حلب، على أساسها جرى ضبط التحرك الروسي، ومنعه من الذهاب بعيداً إلى الحد الذي يغيّر موازين القوى نهائياً، وهو ما تحاول إيران ونظام الأسد التملص منه، لكن ضعف قوتهما يمنعانهما من ترجمة هذه الرغبة عملياً.
على ذلك، تعيد الجغرافيا صياغة الصراع السوري من جديد، وتمنحه المحفّزات الكافية لتجديد طاقة محركاته، بعد أن سقطت السياسة، بوصفها المحرّك الأساس له. صحيح أن البعد الجيوسياسي شكّل، في السنوات السابقة، أهم عناصر الصراع في سورية وعليها، لكنه، في لحظاتٍ كثيرة، بدا متخفّفاً من حمولة الجغرافية، وبدا أن ميل بعض الأطراف يتجه إلى الاكتفاء والانكفاء بمقادير جغرافية محدّدة، تناسب طاقاتها، وتوفر عليها مزيداً من الجهد والتكاليف. وعلى هذا الأساس، أعلن بشار الأسد تخليه عن بعض المساحات الجغرافية للدفاع عن مساحاتٍ أخرى، وكانت إيران قد روّجت سورية المفيدة، فيما طرحت روسيا فكرة الفيدرالية. والواقع أن ذلك كله تغيّر في ظل احتدام الصراع الجيوسياسي العالمي، من بحر الصين إلى أوروبا الشرقية، حيث تتحوّل سورية إلى مختبر لقوة الأطراف وإنعكاس لمدى إراداتها السياسية في الصراع.
وتكتشف أطراف الصراع، وخصوصاً نظام الأسد والأطراف الداعمة له، وعبر التجربة العملية، أن ما كانت تعتبره سورية المفيدة لا يمكن أن تكتمل فائدته إلا إذا أضيفت إليه الأقاليم الأخرى، ذلك أن كل إقليم يتمتع بمزايا اقتصادية وطبيعة استراتيجية تجعل السيطرة عليه أمراً لازماً، تهون أمامه التكاليف البشرية والمادية، بالإضافة إلى الحاجة الأمنية التي تفرضها طبيعة التداخل الجغرافي، وقرب المناطق من بعضها، وصعوبة الفصل بينها.
ينطبق الأمر نفسه على أطراف الصراع الإقليمية والدولية التي تنخرط في الصراع السوري، حيث تشكّل الجغرافية عنصراً مقرّراً وشارطاً لبلورة النفوذ وتظهيره في الحيز السوري والغلاف الإقليمي المحيط به، بل أكثر من ذلك، تصبح الجغرافيا العامل الذي يرسم حدود السيطرة وحجم النفوذ، ومن دونه تبقى تلك المسائل معلّقة وضبابية، وذات قابلية للتأويل والتفسير.
يتّضح مدى أهمية السيطرة الجغرافية من خلال التكتيكات التي تمارسها أطراف الصراع في توظيف المفاوضات عنصراً مساعداً على كسب المساحة الأكبر من الإقليم، ويتبدّى ذلك الأمر جلياً من خلال إصرار روسيا وإيران على شرعية نظام الأسد ومؤسساته، بما يمنحها حق الولاية القانونية على كامل الجغرافية السورية، وبما يحوّل الوضع الجغرافي والسياسي للأطراف الأخرى إلى وضعٍ مؤقتٍ وشاذ، ويتوجب تسويته ضمن المفاوضات، وليس ترسيخه وضعاً نهائياً، أو خطوط تماس دائمة لأطراف متصارعة.
تجسّد حلب، اليوم، هذا النمط الصراعي، وإذ تشكل أولويةً في الصراع بالنسبة للمحور الذي تقوده روسيا، فلأنها تعتبر المساحة الجغرافية التي تتداخل مع التأثير الإقليمي التركي، بما له من ارتباطاتٍ مع مجال التأثير لحلف الناتو، واحتمال وقوع هذه المنطقة ضمن فعالياته، وخصوصاً في حال اضطرار الحلف إلى تفعيل المادة الخامسة من ميثاق الحلف الأساسي الذي يمنح حق المساعدة للأعضاء، في حال تعرّضها للمخاطر، ويحصل ذلك في وقت جرى تسكين جبهة الجنوب، عبر تسوياتٍ إقليمية ودولية، انخرط فيها الروس مع الطرف الأردني، وبالتفاهم مع الجانب الإسرائيلي وموافقة نظام الأسد وداعميه، إيران وحزب الله، وعلى الرغم من حساسية هذه الجبهة القريبة من العاصمة دمشق، إلا أن الصياغة التي اعتمدتها روسيا للتسويات، وراعت من خلالها الحساسيات السياسية والتوازنات بين الأطراف كافة، كانت قادرةً على ضبط الصراع وإدارته بطريقة مختلفة، كان من نتيجتها تأجيل البت في وضعية هذه المناطق، إلى حين الانتهاء من ترتيباتٍ أخرى.
لا شك أن استخدام المعيار الإستراتيجي في تقييم المناطق الجغرافية حوّل الجبهات الداخلية، غوطة دمشق وأرياف حمص وحماة، إلى صراعاتٍ محليةٍ، لا تبذل الأطراف الإقليمية والدولية كامل طاقتها في الصراع فيها، وجعل أمر تشغيلها مرتبطاً، بدرجة كبيرة، بمدى تأثيرها في الصراع الإستراتيجي، المتمثل بمجال صدام القوى الدولية والإقليمية، حيث تتحوّل تلك الجبهات إلى روافد للضغط والتأثير في مجرى الصراع الكلي، ذلك أن جملة المكاسب التكتيكية على تلك الجبهات يُصار إلى توظيفها في السياق العام للصراع، لكنها ليست كافيةً لحسم الصراع، أو تغيير موازين القوى، و ما يعزّز هذا التحليل حقيقة أن أطراف الصراع زجّت بقوات نخبتها، والجزء الكبير من دعمها المناطق المعتبرة استراتيجية وحاسمة، وخصوصاً جبهة حلب.
في ظل هذا الاحتدام، ثمّة سؤال يطرح نفسه حول موقع أميركا في خريطة الاشتباك، خصوصاً أن جميع أطراف الصراع، المحور الذي تقوده روسيا، والمحور المؤيد للثورة السورية، توجّه أصابع الإتهام لإدارة الرئيس باراك أوباما، إما بسبب ما تراه من لبس وغموض في مواقفها، أو لما يعتبره بعضهم تراجعاً لمصلحة موسكو وطهران في سورية، لكن تفحّص سلوك واشنطن العملياتي يوضح، بدرجةٍ كبيرة، إنخراطها في لعبة الصراع الجغرافي، وهو ما تكشفه بيانات دعمها بالأسلحة لما تعتبره أدواتها على الأرض (قوات سورية الديمقراطية، وبعض فصائل المعارضة السورية)، وكذا زيادة أعداد مستشاريها وخبرائها العسكريين، وفوق ذلك فرضها خطوطاً حمر، وخصوصاً في حلب، على أساسها جرى ضبط التحرك الروسي، ومنعه من الذهاب بعيداً إلى الحد الذي يغيّر موازين القوى نهائياً، وهو ما تحاول إيران ونظام الأسد التملص منه، لكن ضعف قوتهما يمنعانهما من ترجمة هذه الرغبة عملياً.
على ذلك، تعيد الجغرافيا صياغة الصراع السوري من جديد، وتمنحه المحفّزات الكافية لتجديد طاقة محركاته، بعد أن سقطت السياسة، بوصفها المحرّك الأساس له. صحيح أن البعد الجيوسياسي شكّل، في السنوات السابقة، أهم عناصر الصراع في سورية وعليها، لكنه، في لحظاتٍ كثيرة، بدا متخفّفاً من حمولة الجغرافية، وبدا أن ميل بعض الأطراف يتجه إلى الاكتفاء والانكفاء بمقادير جغرافية محدّدة، تناسب طاقاتها، وتوفر عليها مزيداً من الجهد والتكاليف. وعلى هذا الأساس، أعلن بشار الأسد تخليه عن بعض المساحات الجغرافية للدفاع عن مساحاتٍ أخرى، وكانت إيران قد روّجت سورية المفيدة، فيما طرحت روسيا فكرة الفيدرالية. والواقع أن ذلك كله تغيّر في ظل احتدام الصراع الجيوسياسي العالمي، من بحر الصين إلى أوروبا الشرقية، حيث تتحوّل سورية إلى مختبر لقوة الأطراف وإنعكاس لمدى إراداتها السياسية في الصراع.