05 نوفمبر 2024
زوجة واحدة تكفي
صارت قضية اللاجئين من القضايا الساخنة في الوقت الراهن، تفتح على آفاقٍ واسعةٍ من المشكلات والإشكاليات والجوانب التي تلزمها دراسة متأنية، وطرح حلول لها، فهي، بالدرجة الأولى، مشكلة ثقافية، قبل أن تكون حياتية، خصوصاً بالنسبة للجوء في المجتمعات الأوروبية، مشكلة للطرفين بالتساوي، اللاجئين والمجتمع المضيف. وليس وضع الحلول لها أمراً سهلاً، خصوصاً لما يتعرّض له العالم اليوم من تهديداتٍ وأعمالٍ إرهابية عابرة للحدود من تنظيماتٍ متطرفة جهادية، أو من أفرادٍ متشربين فكر هذه التنظيمات التي تعتبر العالم كله كافراً، إلا من اتبع نهجها وسار على شريعتها، وما تولّد هذه التنظيمات من ردة فعل تجاهها، ومن تضخم في ظاهرة الإسلاموفوبيا لدى الشعوب التي معظمها لا يعرف وجهاً آخر للإسلام.
في تصريحٍ لافت، قال وزير العدل الألماني هيكو ماس: "لا يحقُّ لأحدٍ من الوافدين إلى هنا أن يضع جذوره الثقافية، أو إيمانه فوق قوانيننا. لذا، لن يكون هناك اعتراف بالزيجات المتعدّدة في ألمانيا". فألمانيا دولةٌ مستقرةٌ، بعدما مرّت بتجارب تاريخية عديدة، آخرها مازال بعض من عاشوا محنتها على قيد الحياة، فقد نهضت هذه الدولة من تحت ركام دمارها، بعد الحرب العالمية الثانية، وصنعت تجربتها الحضارية، وأوجدت لنفسها موطئ قدمٍ راسخ في العالم بقوةٍ واقتدار، وتسعى إلى الاحتفاظ بمكانتها من خلال الحفاظ على منظوماتها المختلفة التي تمشي الحياة بموجبها.
بناءً عليه، من حقّ وزير العدل الذي يمثّل الحكومة الألمانية، من خلال موقعه الوظيفي أن يقول هذا التصريح الكثيف والمعبّر: لا يحقُّ لأحدٍ من الوافدين إلى هنا أن يضع جذوره الثقافية أو إيمانه فوق قوانيننا. فالقانون هو الضامن لحقوق الفرد والمجتمع في الدولة الحديثة، وهو الذي يلعب الدور الوقائي تجاه المشكلات قبل أن تتفاقم، ويصبح علاجها مكلفاً أكثر.
معظم اللاجئين القادمين إلى المجتمع الألماني ينحدرون من أوطانٍ على وشك الانهيار، إن لم تكن في حالة الانهيار نفسها، وأحد أهم أسباب انهياراتها هو الركود والانغلاق والتراجع في مجالات الحياة كافة، بسبب النكوص إلى مجتمعات ما قبل الدولة، وفي ظل استبداد متعدد من سياسي واجتماعي وديني، وهذه السلاطين كلها لها سطوة تفوق سطوة أي قانونٍ وضعي. أما القوانين الناظمة للأسرة، أو للأحوال المدنية، فهي، في غالبية هذه الدول، تستند إلى الشريعة الإسلامية، باعتبارها دولاً ينص دستورها على أن دين الدولة الإسلام، وتعيش مجتمعاتها بروح الإسلام وعقيدته. وبناءً عليه، تعدّد الزوجات حق للرجل وحالة اجتماعية يضمنها القانون، كذلك الزواج من القاصرات، أو زواج القاصرين فهو تقليد مبارك في مناطق ما زالت تحكمها أعراف القبيلة وقوانينها، ولم تعمل الأنظمة الحاكمة على خلخلة هذا الوضع الشائك، بجعل المجتمعات القبلية هذه تنخرط في المجتمع المدني، بل حتى المجتمع المدني ليس مسموحاً به في ظل تلك الأنظمة السياسية، بل هناك مجتمع أهلي، بما تحمل هذه التسمية من دلالاتٍ على أن المجتمع الكلي متباين، وقد يصل إلى حدّ التنافر في بعض الحالات.
يقع الزواج وكل ما يتعلق بشؤون الأسرة في ألمانيا في صلب اهتمامات الدولة، كما أن القوانين الألمانية تتضمن بنوداً لحماية الزواج والأسرة والحفاظ عليها، وتسعى دائماً إلى تنظيم الأسرة والمجتمع، فالحكومة الألمانية لا تضع القوانين ثم تسترخي، إذ ما يميّز الأداء في دولٍ من هذا النمط هو المتابعة والاستقراء.
وإذا اعتبرنا التنظيم، بتعريف بسيط، أنه تصور مسبق مبنيٌّ على العلم والمنطق لموضوع ما،
والغاية المرتبطة به، أو الأهداف المنبثقة منه، ووضع الآليات والأسس اللازمة لتحقيقه، فإن موضوع تنظيم الزواج والأسرة ضروري لم يكن يلقى التعاطي الصحيح في المجتمعات التي وفدت منها جموع اللاجئين هذه، خصوصاً بالنسبة لسورية، فقد ارتبط تنظيم الأسرة بالإجراءات الهادفة إلى تحديد النسل، بدعم من منظمة الصحة العالمية، وحتى هذا الهدف لم يكن يحظى بالقبول في مناطق سورية كثيرة مرتبطة حياتها بمنظوماتٍ قيميةٍ وعادات أقوى من القانون، بمواربة من الحكومة، وعدم وجود النيات بمواجهتها أو ضبطها، على الرغم من الأطر النظرية الداعية إلى برامج التثقيف الصحي التي كانت مشلولةً وعاجزةً، بسبب الفساد والترهل وانعدام الحافز والمحاسبة في الآن نفسه.
لم تكن قضية تعدّد الزوجات مشكلةً تنوي الحكومات السورية المتعاقبة الخوض فيها، وبقي قانون الأحوال الشخصية القائم على الشريعة يمنح الرجل هذا الحقّ المبارك اجتماعياً ودينياً. لم تكن الشعارات الداعية إلى المساواة ومنح المرأة حقوقها وإعادة الاعتبار لها كفرد مواطنٍ مثلها مثل الرجل في دولةٍ تدّعي العلمانية، يحكمها أكثر من خمسين عاماً حزب وحيد قائد للدولة والمجتمع، كما يعرّف بنفسه، ويصرّح في المادة 38 من دستوره التي يخصّ فيها الأسرة والنسل والزواج بأن النسل أمانة في عنق الأسرة أولاً، والدولة ثانياً، وعليهما العمل على "تكثيره"، والعناية بصحته وتربيته، كذلك فإن الزواج واجب قومي، وعلى الدولة تشجيعه وتسهيله ومراقبته، لم تكن على مستوى المشكلة، ولا على مستوى دلالاتها النظرية. فهل كان الدستور يقصد بالواجب الوطني أن أحد أهم روافده وأدوات تكريسه هو تعدّد الزوجات؟ بل حتى مفهوم المواطنة كان مبهماً غامضاً في النظرية والتطبيق. كان هذا الأمر (تعدّد الزوجات) تنبثق عنه في الواقع مشكلات كبيرة وجسيمة، على مستوى الأسرة والمجتمع، وكان يضع الجهات المنظمة دائماً في خانة العاجز عن مواجهة هذه المشكلات في أبسط تجلياتها، فتترك المشكلات للمجتمع يحلّها، ويتحمّل تبعاتها التي تطاول الأسرة، وتوجِد أفراداً يعانون، في الغالب، بطرقٍ متنوعة. لا يمكن نسيان أزمات وقود التدفئة التي حاولت الحكومة حلّها، في إحدى السنوات، بقسائم تُمنح للأسرة بموجب دفتر العائلة، فأمر الزوجة الثانية كان عقبة كبيرة، فكيف بالثالثة والرابعة؟ كنّ سيُحرمن من حصة الدفء مع أطفالهن لعدم وجود حلولٍ بديلة. هذه مشكلة قد تثير الدهشة والسخرية السوداء، لكنها واقع مجسّد وحقيقي.
يبدو تصريح وزير العدل الألماني برنامجاً وقائياً، مثلما هي طبيعة التدابير في هذا البلد، الوقاية في كل مجالات الحياة، وليس في مجال الصحة البدنية وحده، قبل أن تتفاقم المشكلات، ومن حق هذه الدولة أن تضع القوانين والتدابير والإجراءات الضامنة لاستقرار المجتمع، وتخفيف المشكلات المستقبلية، وهي جزء من خطة الاندماج التي تسعى إلى تطبيقها، لجعل اللاجئين أفراداً فاعلين في الحياة، فهل سيكون هناك من يتصدّى لهذه المشكلة ومثيلاتها في أوساط اللاجئين السوريين، ويعمل على التوعية والنصح والإرشاد؟ اللاجئون بحاجة إلى هذا الجانب التثقيفي والتوعوي، وهذا عملٌ لا يمكن القيام به بشكل فردي، مهما كانت النيات صادقةً وعازمة، يحتاج إلى عملٍ جماعي ومؤسساتي، يرقى إلى مستوى التطلع نحو حياةٍ أفضل، وأكثر أماناً وكرامةً للسوريين.
في تصريحٍ لافت، قال وزير العدل الألماني هيكو ماس: "لا يحقُّ لأحدٍ من الوافدين إلى هنا أن يضع جذوره الثقافية، أو إيمانه فوق قوانيننا. لذا، لن يكون هناك اعتراف بالزيجات المتعدّدة في ألمانيا". فألمانيا دولةٌ مستقرةٌ، بعدما مرّت بتجارب تاريخية عديدة، آخرها مازال بعض من عاشوا محنتها على قيد الحياة، فقد نهضت هذه الدولة من تحت ركام دمارها، بعد الحرب العالمية الثانية، وصنعت تجربتها الحضارية، وأوجدت لنفسها موطئ قدمٍ راسخ في العالم بقوةٍ واقتدار، وتسعى إلى الاحتفاظ بمكانتها من خلال الحفاظ على منظوماتها المختلفة التي تمشي الحياة بموجبها.
بناءً عليه، من حقّ وزير العدل الذي يمثّل الحكومة الألمانية، من خلال موقعه الوظيفي أن يقول هذا التصريح الكثيف والمعبّر: لا يحقُّ لأحدٍ من الوافدين إلى هنا أن يضع جذوره الثقافية أو إيمانه فوق قوانيننا. فالقانون هو الضامن لحقوق الفرد والمجتمع في الدولة الحديثة، وهو الذي يلعب الدور الوقائي تجاه المشكلات قبل أن تتفاقم، ويصبح علاجها مكلفاً أكثر.
معظم اللاجئين القادمين إلى المجتمع الألماني ينحدرون من أوطانٍ على وشك الانهيار، إن لم تكن في حالة الانهيار نفسها، وأحد أهم أسباب انهياراتها هو الركود والانغلاق والتراجع في مجالات الحياة كافة، بسبب النكوص إلى مجتمعات ما قبل الدولة، وفي ظل استبداد متعدد من سياسي واجتماعي وديني، وهذه السلاطين كلها لها سطوة تفوق سطوة أي قانونٍ وضعي. أما القوانين الناظمة للأسرة، أو للأحوال المدنية، فهي، في غالبية هذه الدول، تستند إلى الشريعة الإسلامية، باعتبارها دولاً ينص دستورها على أن دين الدولة الإسلام، وتعيش مجتمعاتها بروح الإسلام وعقيدته. وبناءً عليه، تعدّد الزوجات حق للرجل وحالة اجتماعية يضمنها القانون، كذلك الزواج من القاصرات، أو زواج القاصرين فهو تقليد مبارك في مناطق ما زالت تحكمها أعراف القبيلة وقوانينها، ولم تعمل الأنظمة الحاكمة على خلخلة هذا الوضع الشائك، بجعل المجتمعات القبلية هذه تنخرط في المجتمع المدني، بل حتى المجتمع المدني ليس مسموحاً به في ظل تلك الأنظمة السياسية، بل هناك مجتمع أهلي، بما تحمل هذه التسمية من دلالاتٍ على أن المجتمع الكلي متباين، وقد يصل إلى حدّ التنافر في بعض الحالات.
يقع الزواج وكل ما يتعلق بشؤون الأسرة في ألمانيا في صلب اهتمامات الدولة، كما أن القوانين الألمانية تتضمن بنوداً لحماية الزواج والأسرة والحفاظ عليها، وتسعى دائماً إلى تنظيم الأسرة والمجتمع، فالحكومة الألمانية لا تضع القوانين ثم تسترخي، إذ ما يميّز الأداء في دولٍ من هذا النمط هو المتابعة والاستقراء.
وإذا اعتبرنا التنظيم، بتعريف بسيط، أنه تصور مسبق مبنيٌّ على العلم والمنطق لموضوع ما،
لم تكن قضية تعدّد الزوجات مشكلةً تنوي الحكومات السورية المتعاقبة الخوض فيها، وبقي قانون الأحوال الشخصية القائم على الشريعة يمنح الرجل هذا الحقّ المبارك اجتماعياً ودينياً. لم تكن الشعارات الداعية إلى المساواة ومنح المرأة حقوقها وإعادة الاعتبار لها كفرد مواطنٍ مثلها مثل الرجل في دولةٍ تدّعي العلمانية، يحكمها أكثر من خمسين عاماً حزب وحيد قائد للدولة والمجتمع، كما يعرّف بنفسه، ويصرّح في المادة 38 من دستوره التي يخصّ فيها الأسرة والنسل والزواج بأن النسل أمانة في عنق الأسرة أولاً، والدولة ثانياً، وعليهما العمل على "تكثيره"، والعناية بصحته وتربيته، كذلك فإن الزواج واجب قومي، وعلى الدولة تشجيعه وتسهيله ومراقبته، لم تكن على مستوى المشكلة، ولا على مستوى دلالاتها النظرية. فهل كان الدستور يقصد بالواجب الوطني أن أحد أهم روافده وأدوات تكريسه هو تعدّد الزوجات؟ بل حتى مفهوم المواطنة كان مبهماً غامضاً في النظرية والتطبيق. كان هذا الأمر (تعدّد الزوجات) تنبثق عنه في الواقع مشكلات كبيرة وجسيمة، على مستوى الأسرة والمجتمع، وكان يضع الجهات المنظمة دائماً في خانة العاجز عن مواجهة هذه المشكلات في أبسط تجلياتها، فتترك المشكلات للمجتمع يحلّها، ويتحمّل تبعاتها التي تطاول الأسرة، وتوجِد أفراداً يعانون، في الغالب، بطرقٍ متنوعة. لا يمكن نسيان أزمات وقود التدفئة التي حاولت الحكومة حلّها، في إحدى السنوات، بقسائم تُمنح للأسرة بموجب دفتر العائلة، فأمر الزوجة الثانية كان عقبة كبيرة، فكيف بالثالثة والرابعة؟ كنّ سيُحرمن من حصة الدفء مع أطفالهن لعدم وجود حلولٍ بديلة. هذه مشكلة قد تثير الدهشة والسخرية السوداء، لكنها واقع مجسّد وحقيقي.
يبدو تصريح وزير العدل الألماني برنامجاً وقائياً، مثلما هي طبيعة التدابير في هذا البلد، الوقاية في كل مجالات الحياة، وليس في مجال الصحة البدنية وحده، قبل أن تتفاقم المشكلات، ومن حق هذه الدولة أن تضع القوانين والتدابير والإجراءات الضامنة لاستقرار المجتمع، وتخفيف المشكلات المستقبلية، وهي جزء من خطة الاندماج التي تسعى إلى تطبيقها، لجعل اللاجئين أفراداً فاعلين في الحياة، فهل سيكون هناك من يتصدّى لهذه المشكلة ومثيلاتها في أوساط اللاجئين السوريين، ويعمل على التوعية والنصح والإرشاد؟ اللاجئون بحاجة إلى هذا الجانب التثقيفي والتوعوي، وهذا عملٌ لا يمكن القيام به بشكل فردي، مهما كانت النيات صادقةً وعازمة، يحتاج إلى عملٍ جماعي ومؤسساتي، يرقى إلى مستوى التطلع نحو حياةٍ أفضل، وأكثر أماناً وكرامةً للسوريين.
دلالات
مقالات أخرى
27 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024
05 أكتوبر 2024