06 نوفمبر 2024
فيزيل و"صناعة الهولوكوست"
لم يُسفر موت الكاتب اليهودي الأصل، إيلي فيزيل، الذي حاز جائزة نوبل للسلام، أخيرًا، عن عودته إلى مركز النقاش في إسرائيل بشأن الهولوكوست وكيفية تجييره، بقدر ما كان موته شكلاً من أشكال تكرار "المعنى المُشتهى" المسبق البرمجة والأدلجة إزاء هذا الحدث الجلل في حقلٍ من الدلالات المرتبطة بسياسة دولة الاحتلال في الزمان الراهن.
وكان رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، أول من أدلى بدلوه في طقس تأبينه من بين زعماء دولة الاحتلال، فأشار، على وجه الخصوص، إلى علاقة فيزيل بالقدس بصفتها "عاصمة إسرائيل الأبدية"، ورأى أنها مثّلت بالنسبة إليه "تعبيراً بشكل كبير عن قدرة اليهود على الخروج من أشدّ الكوارث ظلمةً، وإنارة المستقبل بأضواء ساطعة".
لم تقتصر علاقة فيزيل بالقدس خلال حياته على هذا "المعيار" المؤسطر، بل تعدّتها إلى الانخراط العمليّ في مشروع تهويدها الشرس، الجاري على قدم وساق منذ احتلال شقها الغربي في 1948، واحتلال شقها الشرقي في 1967، فقد أشغل فيزيل منصب رئيس "المجلس العام لجمعية إلعاد الاستيطانية" التي تركز نشاطها في القدس، وخصوصاً في بلدة سلوان، حيث تستولي على بيوت الفلسطينيين من خلال صفقات مشبوهة، وتسعى إلى إحياء ما تسمى "مدينة داود التوراتية" مكانها.
وفي عام 2010، وقف فيزيل على رأس حملة دعائية في الولايات المتحدة، كان عنوانها "دعوا إسرائيل ولا تمسّوا القدس"، في إثر نشوب أول "أزمةٍ" بين الدولتين، على خلفية البناء الاستيطاني في القدس المحتلة. وثمّة من يقول إنه نظراً للصداقة الحميمة التي تربطه بالرئيس الأميركي، باراك أوباما، انطوت هذه الحملة على أول براعم كبح ممارسة ضغوطٍ أميركيةٍ على حكومة نتنياهو، والتي تطوّرت، في سياق لاحق، إلى ناحية تخلي إدارة أوباما عن أي اهتمام بالصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني.
بيد أن القيمة الضمنية لفيزيل بالنسبة إلى إسرائيل تكمن في تخليده الحصري "الموت اليهودي" في غضون المحرقة النازية، وإخلاصه لـ"مبدأ" عدم الإتيان بأي ذكرٍ لموت الآخرين. وهو تخليد يخدم الرواية الصهيونية التي ما زالت تجتهد لناحية استنباط "خصوصية الإبادة" المتعلقة باليهود فقط.
ودأبت هذه الرواية على القول إن الدافع الأرأس لحملات الإبادة كون اليهود في المنفى، وتقصّدت، في سنواتٍ مضت، تذكير العالم بضرورة مساعدة "الدولة اليهودية الفتيّة"، تعويضاً عما لحق باليهود من فظائع وآثام، وتعمل حالياً على تعزيز الفكرة القائلة إن الدعاية المعادية للصهيونية لا سامية.
مرّت هذه الرواية بعدة مراحل، ففي وقت وقوع المحرقة، رأى كثيرون من زعماء الصهيونية أن يهود أوروبا ذهبوا "إلى المسلخ مثل الخراف"، وهو تعبير حرفي استخدم لتوصيف ضحايا النازية، في إلماحٍ مفرطٍ في جهارته إلى غيظ وحنق على هذا الخنوع الذي يصيب المنطلقات الصهيونية، لتعزيز صورة "اليهودي الجديد" (غير الخانع) في مقتل.
وترتباً على ذلك، ربط باحثون بين هذا الموقف وحقيقة أن قسماً من قيادة الحركة الصهيونية في فلسطين رفض تقديم أي مساعدةٍ في إنقاذ يهود أوروبا. وحتى عندما أضحت فكرة الإبادة النازية خطراً على درجةٍ كافيةٍ من الملموسية، اشترط هذا القسم تقديم المساعدة بالحصول على ضماناتٍ لا تُرَّد بأن يساهم الناجون في الجهود المنصرفة نحو صياغة "اليهودي الجديد" وإنشاء "الدولة اليهودية".
واستبدلت هذه الرؤية ثوبها بعد حرب 1967. في تلك اللحظة، بدأت "صناعة الهولوكوست" التي استهدفت إيصال ألم الماضي اليهودي إلى حدّه الأقصى، ثم استثماره لتحقيق أقصى ما يمكن من الربح السياسي والاقتصادي أيضاً. وفي سبيل ذلك، تم إخفاء جميع الضحايا الآخرين بصورةٍ تدريجية، واستأثر "الجينوسايد" بالحصرية اليهودية.
هنا، برز دور فيزيل، وانكفأ دور غيره. كان معنى هذا، بحسب شلومو ساند، أن الخطاب الصهيوني شدّد على تميز اليهودي ضحيةً أبديةً، لا على تميز الجلاد النازي. وبناء عليه، ثمة جلادون كثر مثل هتلر. لكن، لم يكن ثمة ضحايا مثل اليهود في الماضي، ولن يكون في المستقبل أيضاً.
وكان رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، أول من أدلى بدلوه في طقس تأبينه من بين زعماء دولة الاحتلال، فأشار، على وجه الخصوص، إلى علاقة فيزيل بالقدس بصفتها "عاصمة إسرائيل الأبدية"، ورأى أنها مثّلت بالنسبة إليه "تعبيراً بشكل كبير عن قدرة اليهود على الخروج من أشدّ الكوارث ظلمةً، وإنارة المستقبل بأضواء ساطعة".
لم تقتصر علاقة فيزيل بالقدس خلال حياته على هذا "المعيار" المؤسطر، بل تعدّتها إلى الانخراط العمليّ في مشروع تهويدها الشرس، الجاري على قدم وساق منذ احتلال شقها الغربي في 1948، واحتلال شقها الشرقي في 1967، فقد أشغل فيزيل منصب رئيس "المجلس العام لجمعية إلعاد الاستيطانية" التي تركز نشاطها في القدس، وخصوصاً في بلدة سلوان، حيث تستولي على بيوت الفلسطينيين من خلال صفقات مشبوهة، وتسعى إلى إحياء ما تسمى "مدينة داود التوراتية" مكانها.
وفي عام 2010، وقف فيزيل على رأس حملة دعائية في الولايات المتحدة، كان عنوانها "دعوا إسرائيل ولا تمسّوا القدس"، في إثر نشوب أول "أزمةٍ" بين الدولتين، على خلفية البناء الاستيطاني في القدس المحتلة. وثمّة من يقول إنه نظراً للصداقة الحميمة التي تربطه بالرئيس الأميركي، باراك أوباما، انطوت هذه الحملة على أول براعم كبح ممارسة ضغوطٍ أميركيةٍ على حكومة نتنياهو، والتي تطوّرت، في سياق لاحق، إلى ناحية تخلي إدارة أوباما عن أي اهتمام بالصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني.
بيد أن القيمة الضمنية لفيزيل بالنسبة إلى إسرائيل تكمن في تخليده الحصري "الموت اليهودي" في غضون المحرقة النازية، وإخلاصه لـ"مبدأ" عدم الإتيان بأي ذكرٍ لموت الآخرين. وهو تخليد يخدم الرواية الصهيونية التي ما زالت تجتهد لناحية استنباط "خصوصية الإبادة" المتعلقة باليهود فقط.
ودأبت هذه الرواية على القول إن الدافع الأرأس لحملات الإبادة كون اليهود في المنفى، وتقصّدت، في سنواتٍ مضت، تذكير العالم بضرورة مساعدة "الدولة اليهودية الفتيّة"، تعويضاً عما لحق باليهود من فظائع وآثام، وتعمل حالياً على تعزيز الفكرة القائلة إن الدعاية المعادية للصهيونية لا سامية.
مرّت هذه الرواية بعدة مراحل، ففي وقت وقوع المحرقة، رأى كثيرون من زعماء الصهيونية أن يهود أوروبا ذهبوا "إلى المسلخ مثل الخراف"، وهو تعبير حرفي استخدم لتوصيف ضحايا النازية، في إلماحٍ مفرطٍ في جهارته إلى غيظ وحنق على هذا الخنوع الذي يصيب المنطلقات الصهيونية، لتعزيز صورة "اليهودي الجديد" (غير الخانع) في مقتل.
وترتباً على ذلك، ربط باحثون بين هذا الموقف وحقيقة أن قسماً من قيادة الحركة الصهيونية في فلسطين رفض تقديم أي مساعدةٍ في إنقاذ يهود أوروبا. وحتى عندما أضحت فكرة الإبادة النازية خطراً على درجةٍ كافيةٍ من الملموسية، اشترط هذا القسم تقديم المساعدة بالحصول على ضماناتٍ لا تُرَّد بأن يساهم الناجون في الجهود المنصرفة نحو صياغة "اليهودي الجديد" وإنشاء "الدولة اليهودية".
واستبدلت هذه الرؤية ثوبها بعد حرب 1967. في تلك اللحظة، بدأت "صناعة الهولوكوست" التي استهدفت إيصال ألم الماضي اليهودي إلى حدّه الأقصى، ثم استثماره لتحقيق أقصى ما يمكن من الربح السياسي والاقتصادي أيضاً. وفي سبيل ذلك، تم إخفاء جميع الضحايا الآخرين بصورةٍ تدريجية، واستأثر "الجينوسايد" بالحصرية اليهودية.
هنا، برز دور فيزيل، وانكفأ دور غيره. كان معنى هذا، بحسب شلومو ساند، أن الخطاب الصهيوني شدّد على تميز اليهودي ضحيةً أبديةً، لا على تميز الجلاد النازي. وبناء عليه، ثمة جلادون كثر مثل هتلر. لكن، لم يكن ثمة ضحايا مثل اليهود في الماضي، ولن يكون في المستقبل أيضاً.