08 نوفمبر 2024
تركيا والنفاق الغربي
لم تُعَرِّ المحاولة الانقلابية في تركيا معسكر الثورات العربية المضادة وسفاهته فحسب، بقدر ما أنها عَرَّتْ كذلك النفاق الغربي المتسربل بلبوس ديمقراطي زائف. وإذا كان إعلام معسكر الثورات المضادة أقربَ إلى الهزلية والانحطاط، ذلك أنه تعبيرٌ عن معسكرٍ لا يتمنى إلا الفشل، على غراره، للناجحين، فإن المحاولة الانقلابية كانت فرصة لإخراج أضغان مجمل إعلام الغرب ومسؤوليه، بصورة أجلى وأوضح مما كانت عليه سابقاً. ولا يمكن تفسير هذا التحامل الغربي، وتحديداً الأميركي، على تركيا، إلا لأنها دولة ذات أغلبية مسلمة، يحكمها حزبٌ يوصف بـ"الإسلامي"، حقّق نجاحاتٍ وقفزاتٍ اقتصادية هائلة، ويسعى إلى تحرير الإرادة التركية، قدر المستطاع، من الارتهان إلى أجندات الغرب وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، والذي تتمتع تركيا بعضويته منذ مطلع الخمسينات، لكنه لا يكفّ يرسل رسائل ضمنية لها، في السنوات الأخيرة، من أنه يتوقع منها أن تشارك في المسؤوليات والأعباء، وأن لا تتوقع، في المقابل، الحقوق والامتيازات الممنوحة للأعضاء الآخرين نفسها. رأينا ذلك في مجمل الأزمة السورية، مروراً بأزمة إسقاط الطائرة الروسية، وصولاً، الآن، إلى محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا.
ليس سرّاً أن أغلب، إن لم يكن كل الدول الغربية، تردّدوا في اتخاذ موقفٍ سريعٍ من محاولة الانقلاب العسكري، وكان في مقدمة هؤلاء الولايات المتحدة. فأول رد فعل صدر عن وزير الخارجية، جون كيري، في أثناء المحاولة الفاشلة، كان الدعوة إلى الهدوء والسلام وضرورة وجود جهةٍ تدير شؤون البلد. بمعنى آخر، إن وجود حكومة شرعية لم يكن همّه الأول. أيضاً، الموقف الأولي للسفارة الأميركية في أنقرة، خلال أحداث المحاولة الانقلابية، كان بعيداً عن الدبلوماسية، مع دولةٍ يفترض أنها حليف، إذ اعتبرت، في بيانها الأول، أن ما يجري "انتفاضة" لا انقلاباً. ولا يخفى على أحدٍ أن تعبير "الانتفاضة" يحمل مدلولات الثورة الإيجابية. ولعل هذه المواقف الأولوية المخيّبة للآمال هي ما دفع مسؤولين أتراك إلى اتهام الولايات المتحدة بالتواطؤ في المحاولة الانقلابية.
قد يقول بعضهم إن التردّد والارتباك أمر مفهوم في عالم السياسة، فحسابات الدول ومصالحها غير حسابات الأفراد وأخلاقياتهم، وهذا صحيح. وسيقول آخرون، إن الولايات المتحدة، ودول غربية أخرى، سارعت، بعد ساعات، إلى إدانة العملية الانقلابية والتعبير عن دعمها الحكومة الشرعية. وهذا أيضاً صحيح. ولكن، هذا لا يعني أن القصة انتهت عند ذلك الحد، فضلاً عن أن يُختصر المشهد في ذلك فحسب. فمن ناحيةٍ، من تابع الإعلام الغربي، وتحديداً الأميركي، فوجئ بدرجة التوافق، إنْ لم يكن التماهي الغريب بين وسائله وأجنحته المختلفة، الليبرالية واليمينية على السواء. كلهم انشغلوا في تبرير المحاولة الانقلابية وأسبابها، عبر الحديث عن "سلطوية" الرئيس رجب طيب أردوغان، وسياساته المبتعدة عن الغرب وإسرائيل، و"أصولية" جذور الحزب الحاكم، حزب العدالة والتنمية، وتهديده العلمانية التركية.
كانت تغطية المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا شبيهة بالتغطية التي سبقت الغزو الأميركي
للعراق ورافقته، حين بدا وكأن الجميع يطبق سياسةً تحريريةً واحدةً هدفها الدفع باتجاه إقناع الرأي العام الأميركي بضرورة وقوع الغزو واحتلال العراق وتدميره. حينها، تخلى الإعلام الأميركي عن حياديته وموضوعيته، وبدا وكأنه إعلام نظام، وليس حتى إعلام دولة، وهو الأمر نفسه الذي رأيناه يتكرّر خلال المحاولة الانقلابية في تركيا.
كان ذلك على المستوى الإعلامي. أما على المستوى الرسمي، فإن حيثيات الصورة تصبح أكثر وضوحاَ. فالإدارة الأميركية، وبعد أن اتضح لها فشل المحاولة الانقلابية، أطلقت تحذيراتٍ لتركيا بضرورة احترام حكم القانون وعدم المبالغة في الاعتقالات، بناء على الشبهة أو الموقف السياسي. ولا أظن أن أحداً هنا يعارض هذه القيم من حيث المبدأ. ولكن، في الوقت نفسه ليس من حق الولايات المتحدة أن تحاول الضغط على تركيا لثنيها عن إجراء التحقيقات اللازمة للوصول إلى الشبكة الانقلابية كلها، واستئصالها، بحكم القانون طبعاً. بل وصل الأمر بكيري إلى أن يلمح ضمناً لاحتمالية إعادة النظر في عضوية تركيا في "الناتو"، إن لم تحترم "المعايير الديمقراطية" للحلف.
المشكلة أن كيري، كما لاحظ رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، محقاً، لا يحدّثنا هنا عن "المعايير الديمقراطية" التي اتبعتها الولايات المتحدة في فتح معتقل غوانتنامو، وإيداع مئات من الأبرياء سنوات طوال بين جدرانه، وهو الأمر الذي تقر به إدارة باراك أوباما، وأكدته أحكام قضائية. بل الأدهى، أن ثمة من المعتقلين من صدرت أحكام ببراءتهم، ولا زالوا في غياهب الجُبِّ الأميركي، لا لشيء إلا لأنه لا توجد دولٌ تقبل بهم، أو لأن وزارة الدفاع تتخوّف مما يمكن أن يفعلوه بعد الإفراج عنهم! الأنكى من هذا وذاك، أن أوباما ضغط، محقاً، عام 2010 على الجنرال الأميركي، ستانلي مكريستال، القائد السابق للقوات الأميركية والدولية في أفغانستان، لتقديم استقالته، لا لشيء إلا لأن مساعدين له استهزأوا، في مقابلةٍ مع مجلة أميركيةٍ بقيادات الدولة الأميركية، المدنية والسياسية. وعلى الرغم من أن مكريستال اعتذر عن ذلك، وزعم عدم معرفته به، إلا أنه أجبر على الاستقالة. فيا ترى، ماذا كان سيكون الموقف لو أن مكريستال أو غيره من الجنرالات الأميركيين ارتكبوا جرم الخيانة العظمى، وأنزلوا الدبابات إلى الشوارع، وسعوا إلى إسقاط الشرعية السياسية، وتسبّبوا بمقتل مئات من أبناء الشعب؟
يمكن أن يُقال الأمر نفسه عن تهديدات مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، باستبعاد طلب تركيا للانضمام إلى الاتحاد، إذا ما أعادت العمل بعقوبة الإعدام لمعاقبة المتهمين بالضلوع في الانقلاب. وكأن تركيا لم تفاوض على هذه العضوية، حتى تحت حكومات "علمانية"، منذ أواخر الثمانينات، وألغت عقوبة الإعدام عام 2003، تحت قيادة "العدالة والتنمية" للتسريع بملف عضويتها، ومع ذلك، بقي بعض قادة أوروبا يذكّرونها، غير مرة، أنها لن تكون عضواً أبداً في الاتحاد، لأنها دولة مسلمة؟
باختصار، الموقف الغربي مما جرى في تركيا لا يدل إلا على نفاقٍ، ورغبة كامنة في التخلص من حكم "العدالة والتنمية"، لا لشيء إلا لأنه يحمل مشروعاً لتركيا، اتفقنا أم اختلفنا معه، يعيد لها بعض استقلالها وكرامتها. ومن المفارقات أن يحاضر وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك إيرولت، تركيا عن ضرورة احترام القانون، في الوقت الذي تفرض فيه بلاده قوانين الطوارئ، وتأخذ المسلم البريء بجريرة الإرهابي. إنه النفاق بعينه.
ليس سرّاً أن أغلب، إن لم يكن كل الدول الغربية، تردّدوا في اتخاذ موقفٍ سريعٍ من محاولة الانقلاب العسكري، وكان في مقدمة هؤلاء الولايات المتحدة. فأول رد فعل صدر عن وزير الخارجية، جون كيري، في أثناء المحاولة الفاشلة، كان الدعوة إلى الهدوء والسلام وضرورة وجود جهةٍ تدير شؤون البلد. بمعنى آخر، إن وجود حكومة شرعية لم يكن همّه الأول. أيضاً، الموقف الأولي للسفارة الأميركية في أنقرة، خلال أحداث المحاولة الانقلابية، كان بعيداً عن الدبلوماسية، مع دولةٍ يفترض أنها حليف، إذ اعتبرت، في بيانها الأول، أن ما يجري "انتفاضة" لا انقلاباً. ولا يخفى على أحدٍ أن تعبير "الانتفاضة" يحمل مدلولات الثورة الإيجابية. ولعل هذه المواقف الأولوية المخيّبة للآمال هي ما دفع مسؤولين أتراك إلى اتهام الولايات المتحدة بالتواطؤ في المحاولة الانقلابية.
قد يقول بعضهم إن التردّد والارتباك أمر مفهوم في عالم السياسة، فحسابات الدول ومصالحها غير حسابات الأفراد وأخلاقياتهم، وهذا صحيح. وسيقول آخرون، إن الولايات المتحدة، ودول غربية أخرى، سارعت، بعد ساعات، إلى إدانة العملية الانقلابية والتعبير عن دعمها الحكومة الشرعية. وهذا أيضاً صحيح. ولكن، هذا لا يعني أن القصة انتهت عند ذلك الحد، فضلاً عن أن يُختصر المشهد في ذلك فحسب. فمن ناحيةٍ، من تابع الإعلام الغربي، وتحديداً الأميركي، فوجئ بدرجة التوافق، إنْ لم يكن التماهي الغريب بين وسائله وأجنحته المختلفة، الليبرالية واليمينية على السواء. كلهم انشغلوا في تبرير المحاولة الانقلابية وأسبابها، عبر الحديث عن "سلطوية" الرئيس رجب طيب أردوغان، وسياساته المبتعدة عن الغرب وإسرائيل، و"أصولية" جذور الحزب الحاكم، حزب العدالة والتنمية، وتهديده العلمانية التركية.
كانت تغطية المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا شبيهة بالتغطية التي سبقت الغزو الأميركي
كان ذلك على المستوى الإعلامي. أما على المستوى الرسمي، فإن حيثيات الصورة تصبح أكثر وضوحاَ. فالإدارة الأميركية، وبعد أن اتضح لها فشل المحاولة الانقلابية، أطلقت تحذيراتٍ لتركيا بضرورة احترام حكم القانون وعدم المبالغة في الاعتقالات، بناء على الشبهة أو الموقف السياسي. ولا أظن أن أحداً هنا يعارض هذه القيم من حيث المبدأ. ولكن، في الوقت نفسه ليس من حق الولايات المتحدة أن تحاول الضغط على تركيا لثنيها عن إجراء التحقيقات اللازمة للوصول إلى الشبكة الانقلابية كلها، واستئصالها، بحكم القانون طبعاً. بل وصل الأمر بكيري إلى أن يلمح ضمناً لاحتمالية إعادة النظر في عضوية تركيا في "الناتو"، إن لم تحترم "المعايير الديمقراطية" للحلف.
المشكلة أن كيري، كما لاحظ رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، محقاً، لا يحدّثنا هنا عن "المعايير الديمقراطية" التي اتبعتها الولايات المتحدة في فتح معتقل غوانتنامو، وإيداع مئات من الأبرياء سنوات طوال بين جدرانه، وهو الأمر الذي تقر به إدارة باراك أوباما، وأكدته أحكام قضائية. بل الأدهى، أن ثمة من المعتقلين من صدرت أحكام ببراءتهم، ولا زالوا في غياهب الجُبِّ الأميركي، لا لشيء إلا لأنه لا توجد دولٌ تقبل بهم، أو لأن وزارة الدفاع تتخوّف مما يمكن أن يفعلوه بعد الإفراج عنهم! الأنكى من هذا وذاك، أن أوباما ضغط، محقاً، عام 2010 على الجنرال الأميركي، ستانلي مكريستال، القائد السابق للقوات الأميركية والدولية في أفغانستان، لتقديم استقالته، لا لشيء إلا لأن مساعدين له استهزأوا، في مقابلةٍ مع مجلة أميركيةٍ بقيادات الدولة الأميركية، المدنية والسياسية. وعلى الرغم من أن مكريستال اعتذر عن ذلك، وزعم عدم معرفته به، إلا أنه أجبر على الاستقالة. فيا ترى، ماذا كان سيكون الموقف لو أن مكريستال أو غيره من الجنرالات الأميركيين ارتكبوا جرم الخيانة العظمى، وأنزلوا الدبابات إلى الشوارع، وسعوا إلى إسقاط الشرعية السياسية، وتسبّبوا بمقتل مئات من أبناء الشعب؟
يمكن أن يُقال الأمر نفسه عن تهديدات مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، باستبعاد طلب تركيا للانضمام إلى الاتحاد، إذا ما أعادت العمل بعقوبة الإعدام لمعاقبة المتهمين بالضلوع في الانقلاب. وكأن تركيا لم تفاوض على هذه العضوية، حتى تحت حكومات "علمانية"، منذ أواخر الثمانينات، وألغت عقوبة الإعدام عام 2003، تحت قيادة "العدالة والتنمية" للتسريع بملف عضويتها، ومع ذلك، بقي بعض قادة أوروبا يذكّرونها، غير مرة، أنها لن تكون عضواً أبداً في الاتحاد، لأنها دولة مسلمة؟
باختصار، الموقف الغربي مما جرى في تركيا لا يدل إلا على نفاقٍ، ورغبة كامنة في التخلص من حكم "العدالة والتنمية"، لا لشيء إلا لأنه يحمل مشروعاً لتركيا، اتفقنا أم اختلفنا معه، يعيد لها بعض استقلالها وكرامتها. ومن المفارقات أن يحاضر وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك إيرولت، تركيا عن ضرورة احترام القانون، في الوقت الذي تفرض فيه بلاده قوانين الطوارئ، وتأخذ المسلم البريء بجريرة الإرهابي. إنه النفاق بعينه.