10 نوفمبر 2024
"نظرية العمل" و"نموذج الإلهام" الداعشي
من الطبيعي أن يحدث لغطٌ شديدٌ وارتباكٌ في أوساط المسؤولين الألمان، في تحديد الأسباب وراء فتح الفتى الألماني (من أصول إيرانية) النار على عدد كبير من الناس في سوق تجاري، فحتى لو تمّ معرفة اسم الشخص والحصول سريعاً على معلوماتٍ عنه، فمع الطفرة التي حدثت في "نظرية العمل" لدى تنظيم داعش، أصبحت الأمور أكثر تعقيداً وصعوبةً في كشف الدوافع، ما إذا كانت إرهابية أم لا؟
لو تجاوزنا الغموض الذي أحاط بعملية ميونخ، وأعدنا قراءة الأحداث السابقة عليها؛ منذ عملية أورلاندو التي قام بها متين عمر، وعملية نيس التي قام بها محمد بوهلال، وقبل أيام في ألمانيا نفسها عندما حمل محمد رياض، الفتى الأفغاني، فأساً وقام بالهجوم على الناس وقتلهم، ليظهر القتيل لاحقاً في شريط فيديو يبايع تنظيم داعش، ويتوعد بقتل أكبر عدد ممكن من الناس.
يجمع بين الملفات الشخصية لمنفّذي العمليات السابقة سمة الاضطراب النفسي والتوتر في الشخصية، وأحياناً التناقضات القيمية فيها، فهنالك علامات استفهام شديدة حول ماضي متين عمر، وعلاقته بمجتمع المثليين، وعدم استقراره العائلي والشخصي، وهي الحالة القريبة من منفّذ اعتداء نيس الدموي، محمد بوهلال، إذ تكشف تقارير وتسريبات إعلامية عن عدم استقرار واضطراب، ووجود شبهات في ميوله الجنسية، ولا تبدو شخصية الفتى الأفغاني في جنوب ألمانيا أكثر استقراراً من الحالتين السابقتين.
قبل الولوج إلى الفكرة الجوهرية في هذا المقال، من الضروري الإشارة إلى أنّه ليس ضرورياً أن يكون هنالك تاريخ نقي لمن يقومون بالعمليات العسكرية، أو سجل خالٍ من الانحراف الأخلاقي والجرائم، بل على النقيض من ذلك تماماً، هنالك حالات عديدة وأمثلة كثيرة لخلفيةٍ مشابهةٍ لمن قاموا بعملياتٍ إرهابيةٍ كانوا ممن يتعاطون المخدّرات، ولهم سجل جنسي أو جنائي، سواء ممن قاموا بتفجيرات باريس، نهاية العام الماضي، أو الذي قام بالهجوم على مركز الطوارئ قرب الحرم النبوي في المدينة المنورة.
يشير إلى هذه الملحوظة علي صوفان، مؤلف كتاب "الرايات السود"، وهو من المحققين السابقين المتمرسين لدى المباحث الفدرالية الأميركية، إذ يذكر ولع عدد ممن قاموا بعمليات 11 سبتمبر بالنساء والرقص والحياة الغربية.
إذاً، ما الجديد أو أوجه الاختلاف بين العمليات الأخيرة والعمليات السابقة؟ أو بعبارةٍ أخرى: هل هنالك فرق بين نظرية داعش في العمل ونظرية القاعدة سابقاً؟ الجواب: نعم، هنالك عناصر جوهرية في الاختلاف بين النظريتين. لكن، دعونا نقف مرّة أخرى مع العمليات الأخيرة، حتى نشير إلى عاملٍ مهم، وهو الوقت، وهو أمر ينطبق بوضوحٍ على حالة بوهلال، ولعلّ جملة وزير الداخلية الفرنسي تكشف أهمية هذا العمل، عندما قال "يبدو أنّه (بوهلال) تطرّف سريعاً"، فهو صُنع على عجل، كما ذكر تقرير لصحيفة فرنسية، فانتقل من رجل مرتبطٍ غاضبٍ محبط، يعالج نفسياً، إلى أحد "أسود الدولة الإسلامية"، أي ذئب منفرد مرتبط أيديولوجياً فقط بهذا التنظيم، فعملية التجنيد لم تعد، وفق نظرية داعش، معقدة ولا متسلسلة، ولا تحتاج إلى وقت، ولا حتى إلى موافقةٍ من القيادة وإقرارٍ على العمل، ولا تأكّد فيما إذا كان من الذي يريد تنفيذ العملية مرّ بمرحلة "التوبة النصوح"، ولا ترسيم الأهداف وتخطيطها، كل ما في المسألة أن يعطي المنفّذ أي إشارةٍ إلى أنّ هذا العمل هو لصالح تنظيم الدولة الإسلامية، فيتم مباركته وإعطاؤه الشرعية الدينية والسياسية.
ما قام به "داعش" هو إحداث طفرة خطيرة مرعبة في نظرية العمل، مقارنةً بالقاعدة، فنقلت
العمل الإرهابي من حيّز النخبوية والعمل المتسلسل المضبوط إلى فضاء الشعبوية، فيستطيع اليوم أي شخص غاضب محتقن، يشعر بعدم الرضا عن أوضاعه الاجتماعية، لديه أزمات نفسية، أن يقوم بأي عملٍ ضد المجتمع الذي يشعر بالانفصال عنه، بينما الحال في "القاعدة" مختلفة تماماً، فعلى الرغم من وجود "الخلفيات" السابقة لدى أعضاء "القاعدة"، ومنفذي العمليات، إلّا أنّ هنالك عمليات انتقاء واصطفاء ومعايير توضع للتجنيد والتنفيذ.
أصبحت نظرية العمل لدى "داعش" تقوم على عنصر رئيس واحد فقط، هو الإلهام، فهذا التنظيم الذي يعلن عداءه للعالم، للغرب بوصفه كافراً، والنظام العربي بوصفه مرتدّاً، وللشيعة بوصفهم صفويين، والحركات الإسلامية الأخرى بوصفهم صحواتٍ، ولا يوجد لديه تمييز بين محاربٍ ومدني، كما برّر مرجعهم الفقهي، أبو عبد الله المهاجر، فالكل في الغرب أهدافٌ مشروعة، والشرطة والجيش والشيعة جميعهم كفّار، ولا يوجد ما يمنع من استخدام المفخّخات والانتحاريين على أوسع مدى، مثل هذه الأيدولوجيا إذا أضيفت إلى "تكتيك" الذئاب المنفردة، فنحن أمام تحويل أي إنسانٍ آلةً للقتل، بأبسط المعدّات، وبلا حدّ في تبرير قتل المدنيين.
تنقل التحولات الأخيرة في نظرية العمل (نموذج الإلهام) معركة التنظيم من الجانب العسكري في مواجهته خصومه في العراق وسورية والدول الغربية، إلى حربٍ عالميةٍ حقيقيةٍ مختلفة في طبيعتها عن كل حربٍ أخرى، حرب لا تدور فقط عند الرقة والموصل، بل في باريس وبروكسل وبرلين ونيس وأورلاندو ودكار، والدمام وعمّان وبوركينا فاسو وغيرها.
المتغير الآخر الذي يعزّز التحولات الجديدة، ويغذيها، هو متغيّر الهوية، فاعتماد التنظيم على الصراع الهوياتي (بخلاف "القاعدة" التي سيست الصراع، ونقلته إلى معركةٍ مع الولايات المتحدة الأميركية والحكومات الغربية) يسهل عملية تجنيد السنة ضد الشيعة، والمسلمين ضد المسيحيين، والإسلاميين ضد العلمانيين، ويدفع شريحة من الجيل الجديد في الغرب وأوربا تشعر بأزمة الهوية، وعدم القدرة على الاندماج بالمجتمعات الغربية، إلى سماع الخطاب الجديد حول الدين النقي، ويوتوبيا الخلافة، والصراع الوجودي مع الآخر، وتجد لنفسها تسويغاً في الانتقام من الثقافة الأخرى التي تشعر هذه الشريحة بالعجز والارتباك أمامها، لتضعهم أيديولوجيا "داعش" أمام خيار آخر، هو المواجهة والصراع.
في نظرية العمل الجديدة لدى داعش التي ظهرت بفجاجةٍ في العمليات الأخيرة، نحن أمام تداخلٍ كبير بين العوامل السيكولوجية والسوسيولوجيا والأيديولوجيا، فلا يمكن الاتكاء على فرضية الربط بين دور المساجد والإنترنت في تغذية التطرف والحثّ على العنف، فالعيّنات الأخيرة خرّيجة البارات والملاهي الليلية، ومن متعاطي المخدّرات والمشروبات وأصحاب الميول الجنسية المرتبكة!
لو تجاوزنا الغموض الذي أحاط بعملية ميونخ، وأعدنا قراءة الأحداث السابقة عليها؛ منذ عملية أورلاندو التي قام بها متين عمر، وعملية نيس التي قام بها محمد بوهلال، وقبل أيام في ألمانيا نفسها عندما حمل محمد رياض، الفتى الأفغاني، فأساً وقام بالهجوم على الناس وقتلهم، ليظهر القتيل لاحقاً في شريط فيديو يبايع تنظيم داعش، ويتوعد بقتل أكبر عدد ممكن من الناس.
يجمع بين الملفات الشخصية لمنفّذي العمليات السابقة سمة الاضطراب النفسي والتوتر في الشخصية، وأحياناً التناقضات القيمية فيها، فهنالك علامات استفهام شديدة حول ماضي متين عمر، وعلاقته بمجتمع المثليين، وعدم استقراره العائلي والشخصي، وهي الحالة القريبة من منفّذ اعتداء نيس الدموي، محمد بوهلال، إذ تكشف تقارير وتسريبات إعلامية عن عدم استقرار واضطراب، ووجود شبهات في ميوله الجنسية، ولا تبدو شخصية الفتى الأفغاني في جنوب ألمانيا أكثر استقراراً من الحالتين السابقتين.
قبل الولوج إلى الفكرة الجوهرية في هذا المقال، من الضروري الإشارة إلى أنّه ليس ضرورياً أن يكون هنالك تاريخ نقي لمن يقومون بالعمليات العسكرية، أو سجل خالٍ من الانحراف الأخلاقي والجرائم، بل على النقيض من ذلك تماماً، هنالك حالات عديدة وأمثلة كثيرة لخلفيةٍ مشابهةٍ لمن قاموا بعملياتٍ إرهابيةٍ كانوا ممن يتعاطون المخدّرات، ولهم سجل جنسي أو جنائي، سواء ممن قاموا بتفجيرات باريس، نهاية العام الماضي، أو الذي قام بالهجوم على مركز الطوارئ قرب الحرم النبوي في المدينة المنورة.
يشير إلى هذه الملحوظة علي صوفان، مؤلف كتاب "الرايات السود"، وهو من المحققين السابقين المتمرسين لدى المباحث الفدرالية الأميركية، إذ يذكر ولع عدد ممن قاموا بعمليات 11 سبتمبر بالنساء والرقص والحياة الغربية.
إذاً، ما الجديد أو أوجه الاختلاف بين العمليات الأخيرة والعمليات السابقة؟ أو بعبارةٍ أخرى: هل هنالك فرق بين نظرية داعش في العمل ونظرية القاعدة سابقاً؟ الجواب: نعم، هنالك عناصر جوهرية في الاختلاف بين النظريتين. لكن، دعونا نقف مرّة أخرى مع العمليات الأخيرة، حتى نشير إلى عاملٍ مهم، وهو الوقت، وهو أمر ينطبق بوضوحٍ على حالة بوهلال، ولعلّ جملة وزير الداخلية الفرنسي تكشف أهمية هذا العمل، عندما قال "يبدو أنّه (بوهلال) تطرّف سريعاً"، فهو صُنع على عجل، كما ذكر تقرير لصحيفة فرنسية، فانتقل من رجل مرتبطٍ غاضبٍ محبط، يعالج نفسياً، إلى أحد "أسود الدولة الإسلامية"، أي ذئب منفرد مرتبط أيديولوجياً فقط بهذا التنظيم، فعملية التجنيد لم تعد، وفق نظرية داعش، معقدة ولا متسلسلة، ولا تحتاج إلى وقت، ولا حتى إلى موافقةٍ من القيادة وإقرارٍ على العمل، ولا تأكّد فيما إذا كان من الذي يريد تنفيذ العملية مرّ بمرحلة "التوبة النصوح"، ولا ترسيم الأهداف وتخطيطها، كل ما في المسألة أن يعطي المنفّذ أي إشارةٍ إلى أنّ هذا العمل هو لصالح تنظيم الدولة الإسلامية، فيتم مباركته وإعطاؤه الشرعية الدينية والسياسية.
ما قام به "داعش" هو إحداث طفرة خطيرة مرعبة في نظرية العمل، مقارنةً بالقاعدة، فنقلت
أصبحت نظرية العمل لدى "داعش" تقوم على عنصر رئيس واحد فقط، هو الإلهام، فهذا التنظيم الذي يعلن عداءه للعالم، للغرب بوصفه كافراً، والنظام العربي بوصفه مرتدّاً، وللشيعة بوصفهم صفويين، والحركات الإسلامية الأخرى بوصفهم صحواتٍ، ولا يوجد لديه تمييز بين محاربٍ ومدني، كما برّر مرجعهم الفقهي، أبو عبد الله المهاجر، فالكل في الغرب أهدافٌ مشروعة، والشرطة والجيش والشيعة جميعهم كفّار، ولا يوجد ما يمنع من استخدام المفخّخات والانتحاريين على أوسع مدى، مثل هذه الأيدولوجيا إذا أضيفت إلى "تكتيك" الذئاب المنفردة، فنحن أمام تحويل أي إنسانٍ آلةً للقتل، بأبسط المعدّات، وبلا حدّ في تبرير قتل المدنيين.
تنقل التحولات الأخيرة في نظرية العمل (نموذج الإلهام) معركة التنظيم من الجانب العسكري في مواجهته خصومه في العراق وسورية والدول الغربية، إلى حربٍ عالميةٍ حقيقيةٍ مختلفة في طبيعتها عن كل حربٍ أخرى، حرب لا تدور فقط عند الرقة والموصل، بل في باريس وبروكسل وبرلين ونيس وأورلاندو ودكار، والدمام وعمّان وبوركينا فاسو وغيرها.
المتغير الآخر الذي يعزّز التحولات الجديدة، ويغذيها، هو متغيّر الهوية، فاعتماد التنظيم على الصراع الهوياتي (بخلاف "القاعدة" التي سيست الصراع، ونقلته إلى معركةٍ مع الولايات المتحدة الأميركية والحكومات الغربية) يسهل عملية تجنيد السنة ضد الشيعة، والمسلمين ضد المسيحيين، والإسلاميين ضد العلمانيين، ويدفع شريحة من الجيل الجديد في الغرب وأوربا تشعر بأزمة الهوية، وعدم القدرة على الاندماج بالمجتمعات الغربية، إلى سماع الخطاب الجديد حول الدين النقي، ويوتوبيا الخلافة، والصراع الوجودي مع الآخر، وتجد لنفسها تسويغاً في الانتقام من الثقافة الأخرى التي تشعر هذه الشريحة بالعجز والارتباك أمامها، لتضعهم أيديولوجيا "داعش" أمام خيار آخر، هو المواجهة والصراع.
في نظرية العمل الجديدة لدى داعش التي ظهرت بفجاجةٍ في العمليات الأخيرة، نحن أمام تداخلٍ كبير بين العوامل السيكولوجية والسوسيولوجيا والأيديولوجيا، فلا يمكن الاتكاء على فرضية الربط بين دور المساجد والإنترنت في تغذية التطرف والحثّ على العنف، فالعيّنات الأخيرة خرّيجة البارات والملاهي الليلية، ومن متعاطي المخدّرات والمشروبات وأصحاب الميول الجنسية المرتبكة!