28 أكتوبر 2024
قلعة الشقيف ووزارة الثقافة اللبنانية
معيبٌ ما فعلته وزارة الثقافة اللبنانية، في لوحتها التذكارية التعريفية التي وضعتها على مدخل قلعة الشقيف. من لا يعرف هذه القلعة، أو لم يسمع عنها؟ هي تربض كأسدٍ متوثبٍ فوق هضبة النبطية في الجنوب اللبناني، ويجري نهر الليطاني عند قدميها، منها تطلّ على جبل الشيخ وهضبة الجولان والجليل الأعلى في فلسطين المحتلة. وفي الأيام الصافية، تُشاهَد أنوار منارة حيفا، ولا تبعد عنها الحدود اللبنانية الفلسطينية سوى بضعة كيلو مترات.
أول من بناها الفرنسيون خلال الحملات الصليبية، وأطلقوا عليها اسم قلعة بوفور، وساد الاعتقاد فترة أنّ بوفور هو اسم البارون الفرنسي الذي بناها، لكنّ الحقيقة التاريخية تدحض ذلك، فلا وجود لبارونٍ يحمل هذا الاسم، فقد سُميّت بوفور بمعنى "الجميلة" باللغة الفرنسية، لتستحق اسم "القلعة الجميلة".
أعاد صلاح الدين بناءها، ومنها انطلق إلى معركته الفاصلة في حطين، وقد عثر المقاتلون اللبنانيون والفلسطينيون عند قيامهم بأعمال الحفر والتحصين فيها على رفات عشرات من الجنود المسلمين الذين جُمع رفاتهم، وأُعيد دفنهم ضمن مراسم عسكرية.
في سنة 1976 استولى الرائد سعد حداد على ثكنة مرجعيون، وعلى بلدات القليعة، ودير ميماس، وجميعها تقع في مواجهة القلعة على الجهة الأخرى من نهر الليطاني، وأُعلن عن تشكيل الشريط الحدودي المرتبط بإسرائيل، وقصف المدن والبلدات المحاذية للشريط، مثل بنت جبيل والنبطية. وبذلك، أصبحت قلعة الشقيف محوراً للمواجهة، ورابطت فيها القوات اللبنانية الفلسطينية المشتركة. وتعرّضت القلعة، بحكم موقعها، لعشرات الغارات الجوية الإسرائيلية، إضافةً إلى قصف مدفعي شبه يومي عليها، وحاول الإسرائيليون التقدّم باتجاهها مراتٍ. وفي إحدى المرات (1980)، وصلت قوات لواء غولاني إلى مسافة أمتار منها، لكنّها عادت حاملة قائدها القتيل.
أصبحت القلعة، في الرابع من يونيو/ حزيران 1982، رمزاً للصمود اللبناني الفلسطيني في وجه الآلة العسكرية الصهيونية، صمدت أمام القصف الجوي والصاروخي، وأسقط مقاتلوها طائرةً حربية، وأسروا طيارها، كما أسقطوا طائرةً مروحيةً تحمل ضباطاً من هيئة الأركان، هَوَت محترقةً على أحد تلال مدينة النبطية. وبعد معارك استمرت من الرابع من يونيو/ حزيران حتى صباح السابع منه، تمكنت قوات غولاني، بقيادة رئيس الأركان السابق غابي أشكنازي، من احتلال القلعة، بعد استشهاد المدافعين عنها، وهم لبنانيون وفلسطينيون وعرب، في معركةٍ اعتبرت الأهم خلال اجتياح لبنان، وما زال صداها يتفاعل في أروقة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية؛ نظراً للخسائر الجسيمة التي تكبّدها الجيش الإسرائيلي، والتي قتل فيها ثلاثة من قادة موجات الهجوم عليها.
في اليوم التالي، زار رئيس الوزراء الإسرائيلي، مناحيم بيغن، قلعة الشقيف، للاحتفال بالنصر
أمام وسائل الإعلام، لكنّه وأمام القلعة المدمرة تماماً فوجئ بروايات الجنود عن المعركة الضارية التي خاضوها، وصُدم عندما قيل له "لم يستسلم أحد". غادر بيغن المكان، ولم يعد إطلاقاً إلى لبنان بعدها.
لاحقاً، رُممت القلعة بمنحة كريمة من الحكومة الكويتية، أعادت إليها معالمها التاريخية الأساسية. وفي أثناء عمليات الترميم، عُثر على جثامين بعض شهدائها الذين دفنوا تحت أنقاضها.
على مدخل القلعة، وضعت وزارة الثقافة اللبنانية يافطةً إرشادية تُبين التسلسل التاريخي للوقائع التي مرت على قلعة الشقيف منذ بنائها، وفي هذه اليافطة ورد:
1976: يحتل الفلسطينيون الموقع الذي يتعرض لعشرات الغارات الإسرائيلية. 1982: يحتل الإسرائيليون الموقع بعد قتال عنيف. 2000: ينسحب الإسرائيليون من القلعة، نتيجة هجوم من المقاومة اللبنانية.
أيّ فضيحةٍ هذه التي ترتكبها وزارة الثقافة اللبنانية، حين تُزوّر التاريخ، وتتحدث عن "احتلال" فلسطيني للقلعة التي رابط فيها دفاعاً عنها، وعن لبنان وفلسطين في مواجهة العدو الإسرائيلي وعملائه في الشريط الحدودي، مقاتلون من الحركة الوطنية اللبنانية بمختلف فصائلها، وحركة أمل، جنباً إلى جنب مع مقاتلي المقاومة الفلسطينية، ضمن قيادةٍ مشتركةٍ لبنانية وفلسطينية، وكأنّ أبناء البلد المدافعين عن عروبتها دخلاء ومحتلون، تتم مساواتهم بالاحتلال الإسرائيلي للقلعة الذي تمّ في 1982.
ويبدو الجهل بتاريخ القلعة متأصل لدى وزارة الثقافة اللبنانية، عند الحديث عن الانسحاب الإسرائيلي سنة 2000 من القلعة، قد جاء نتيجة هجوم من المقاومة اللبنانية. والصحيح أنّ الجيش الإسرائيلي انسحب من القلعة بعد أيام من احتلالها في سنة 1982، وقام بتسليمها لعملائه في الشريط الحدودي الذين رابطوا فيها، وهو ما لم تذكره الوزارة في محاولةٍ مكشوفةٍ لتبرئة العملاء من المشاركة في جريمة احتلال لبنان.
لم يأتِ الانسحاب نتيجة هجوم واحد شنته المقاومة على القلعة، فقد شُنّت عشرات الهجمات خلال 18 سنة من الاحتلال، وجاء إخلاء القلعة ضمن القرار الإسرائيلي بالانسحاب من جنوب لبنان، ونجاح المقاومة اللبنانية بتفكيك جيش لبنان الجنوبي المرتبط بالاحتلال، وفرار قياداته باتجاه فلسطين المحتلة.
لا نستهجن ما فعلته وزارة الثقافة اللبنانية فحسب، بل نلوم رفاقنا في المقاومة اللبنانية، وفي فصائل الحركة الوطنية، على صمتهم أمام ذلك، وعدم تحركّهم لإزالة هذا الغبن الذي يلحق بهم وبدورهم، قبل أن يلحق برفاقهم الفلسطينيين، ويحمل، في طياته، تزويراً لتاريخ لبنان، ومساساً بعروبته.
بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني سنة 2000، عُثر، في بنت جبيل، على رفات المقاومين من لبنان وفلسطين والعالم العربي الذين استشهدوا في أثناء تصدّيهم للاجتياح الصهيوني على البلدة خلال اجتياح الليطاني سنة 1978. وعلى الفور، بادرت المقاومة اللبنانية وفصائل الحركة الوطنية إلى إقامة نصب تذكاري لهؤلاء الشهداء، وتكرّر ذلك بعد حرب 2006 حيث أقيم نصب آخر للشهداء من أبناء البلدة الذين استشهدوا في صفوف المقاومة الفلسطينية، في اجتياح 1978 وشهداء المقاومة في سنة 2006.
تُرى، ألا يستحق شهداء قلعة الشقيف الذين استشهدوا في معارك 1982، وضُرب المثل بشجاعتهم وبطولتهم، والشهداء الذين استشهدوا قبل ذلك، وبعد الاحتلال خلال هجماتهم المستمرة على القلعة؟ ألا يستحق كل هؤلاء يافطةً إرشادية تُمجّد بطولاتهم، ونصباً تذكارياً يُخلّد هذه البطولات، ويكون أول ما يواجه الزائر عند زيارته للقلعة ليبدأ زيارته بالفاتحة، وبالمجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام؛ ترحماً على أرواحهم وتخليداً لذكراهم العطرة التي غرسوها في وجدان جيلنا.
أعاد صلاح الدين بناءها، ومنها انطلق إلى معركته الفاصلة في حطين، وقد عثر المقاتلون اللبنانيون والفلسطينيون عند قيامهم بأعمال الحفر والتحصين فيها على رفات عشرات من الجنود المسلمين الذين جُمع رفاتهم، وأُعيد دفنهم ضمن مراسم عسكرية.
في سنة 1976 استولى الرائد سعد حداد على ثكنة مرجعيون، وعلى بلدات القليعة، ودير ميماس، وجميعها تقع في مواجهة القلعة على الجهة الأخرى من نهر الليطاني، وأُعلن عن تشكيل الشريط الحدودي المرتبط بإسرائيل، وقصف المدن والبلدات المحاذية للشريط، مثل بنت جبيل والنبطية. وبذلك، أصبحت قلعة الشقيف محوراً للمواجهة، ورابطت فيها القوات اللبنانية الفلسطينية المشتركة. وتعرّضت القلعة، بحكم موقعها، لعشرات الغارات الجوية الإسرائيلية، إضافةً إلى قصف مدفعي شبه يومي عليها، وحاول الإسرائيليون التقدّم باتجاهها مراتٍ. وفي إحدى المرات (1980)، وصلت قوات لواء غولاني إلى مسافة أمتار منها، لكنّها عادت حاملة قائدها القتيل.
أصبحت القلعة، في الرابع من يونيو/ حزيران 1982، رمزاً للصمود اللبناني الفلسطيني في وجه الآلة العسكرية الصهيونية، صمدت أمام القصف الجوي والصاروخي، وأسقط مقاتلوها طائرةً حربية، وأسروا طيارها، كما أسقطوا طائرةً مروحيةً تحمل ضباطاً من هيئة الأركان، هَوَت محترقةً على أحد تلال مدينة النبطية. وبعد معارك استمرت من الرابع من يونيو/ حزيران حتى صباح السابع منه، تمكنت قوات غولاني، بقيادة رئيس الأركان السابق غابي أشكنازي، من احتلال القلعة، بعد استشهاد المدافعين عنها، وهم لبنانيون وفلسطينيون وعرب، في معركةٍ اعتبرت الأهم خلال اجتياح لبنان، وما زال صداها يتفاعل في أروقة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية؛ نظراً للخسائر الجسيمة التي تكبّدها الجيش الإسرائيلي، والتي قتل فيها ثلاثة من قادة موجات الهجوم عليها.
في اليوم التالي، زار رئيس الوزراء الإسرائيلي، مناحيم بيغن، قلعة الشقيف، للاحتفال بالنصر
لاحقاً، رُممت القلعة بمنحة كريمة من الحكومة الكويتية، أعادت إليها معالمها التاريخية الأساسية. وفي أثناء عمليات الترميم، عُثر على جثامين بعض شهدائها الذين دفنوا تحت أنقاضها.
على مدخل القلعة، وضعت وزارة الثقافة اللبنانية يافطةً إرشادية تُبين التسلسل التاريخي للوقائع التي مرت على قلعة الشقيف منذ بنائها، وفي هذه اليافطة ورد:
1976: يحتل الفلسطينيون الموقع الذي يتعرض لعشرات الغارات الإسرائيلية. 1982: يحتل الإسرائيليون الموقع بعد قتال عنيف. 2000: ينسحب الإسرائيليون من القلعة، نتيجة هجوم من المقاومة اللبنانية.
أيّ فضيحةٍ هذه التي ترتكبها وزارة الثقافة اللبنانية، حين تُزوّر التاريخ، وتتحدث عن "احتلال" فلسطيني للقلعة التي رابط فيها دفاعاً عنها، وعن لبنان وفلسطين في مواجهة العدو الإسرائيلي وعملائه في الشريط الحدودي، مقاتلون من الحركة الوطنية اللبنانية بمختلف فصائلها، وحركة أمل، جنباً إلى جنب مع مقاتلي المقاومة الفلسطينية، ضمن قيادةٍ مشتركةٍ لبنانية وفلسطينية، وكأنّ أبناء البلد المدافعين عن عروبتها دخلاء ومحتلون، تتم مساواتهم بالاحتلال الإسرائيلي للقلعة الذي تمّ في 1982.
ويبدو الجهل بتاريخ القلعة متأصل لدى وزارة الثقافة اللبنانية، عند الحديث عن الانسحاب الإسرائيلي سنة 2000 من القلعة، قد جاء نتيجة هجوم من المقاومة اللبنانية. والصحيح أنّ الجيش الإسرائيلي انسحب من القلعة بعد أيام من احتلالها في سنة 1982، وقام بتسليمها لعملائه في الشريط الحدودي الذين رابطوا فيها، وهو ما لم تذكره الوزارة في محاولةٍ مكشوفةٍ لتبرئة العملاء من المشاركة في جريمة احتلال لبنان.
لم يأتِ الانسحاب نتيجة هجوم واحد شنته المقاومة على القلعة، فقد شُنّت عشرات الهجمات خلال 18 سنة من الاحتلال، وجاء إخلاء القلعة ضمن القرار الإسرائيلي بالانسحاب من جنوب لبنان، ونجاح المقاومة اللبنانية بتفكيك جيش لبنان الجنوبي المرتبط بالاحتلال، وفرار قياداته باتجاه فلسطين المحتلة.
لا نستهجن ما فعلته وزارة الثقافة اللبنانية فحسب، بل نلوم رفاقنا في المقاومة اللبنانية، وفي فصائل الحركة الوطنية، على صمتهم أمام ذلك، وعدم تحركّهم لإزالة هذا الغبن الذي يلحق بهم وبدورهم، قبل أن يلحق برفاقهم الفلسطينيين، ويحمل، في طياته، تزويراً لتاريخ لبنان، ومساساً بعروبته.
بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني سنة 2000، عُثر، في بنت جبيل، على رفات المقاومين من لبنان وفلسطين والعالم العربي الذين استشهدوا في أثناء تصدّيهم للاجتياح الصهيوني على البلدة خلال اجتياح الليطاني سنة 1978. وعلى الفور، بادرت المقاومة اللبنانية وفصائل الحركة الوطنية إلى إقامة نصب تذكاري لهؤلاء الشهداء، وتكرّر ذلك بعد حرب 2006 حيث أقيم نصب آخر للشهداء من أبناء البلدة الذين استشهدوا في صفوف المقاومة الفلسطينية، في اجتياح 1978 وشهداء المقاومة في سنة 2006.
تُرى، ألا يستحق شهداء قلعة الشقيف الذين استشهدوا في معارك 1982، وضُرب المثل بشجاعتهم وبطولتهم، والشهداء الذين استشهدوا قبل ذلك، وبعد الاحتلال خلال هجماتهم المستمرة على القلعة؟ ألا يستحق كل هؤلاء يافطةً إرشادية تُمجّد بطولاتهم، ونصباً تذكارياً يُخلّد هذه البطولات، ويكون أول ما يواجه الزائر عند زيارته للقلعة ليبدأ زيارته بالفاتحة، وبالمجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام؛ ترحماً على أرواحهم وتخليداً لذكراهم العطرة التي غرسوها في وجدان جيلنا.