06 نوفمبر 2024
وقائع جارحة في ذاكرة عراقية
يأخذنا الصحافي العراقي المغترب، ليث الحمداني، بين تضاعيف كتابه الجديد (أوراق من ذاكرة عراقية) إلى وقائع جارحة، ظلت مخبأة زمناً طويلاً، من دون أن يجرؤ أحد على طرحها، خوفاً من أن يطاوله سيف الحاكم، لكن الصحافي، على ما يبدو، يظل أميناً على مهنته في إثارة ما هو جدير بالإثارة، حتى لو طال الزمن، بما يجعله مختلفاً عن السياسي الذي لا يكشف سراً، إلا إذا كان هذا السر يخدم مصلحته، أو على الأقل، بعد أن يكون قد ودع موقعه الرسمي، وتحول إلى "مواطن عادي"، بعيد عن سطوة رجال "الدولة العميقة"، وقد اختزنت ذاكرة الحمداني في أربعة عقود، قضاها في مهنة الصحافة، أسراراً وخبايا، لو صرح بها في حينها، لكان عليه أن يواجه ما لا تحمد عقباه، خصوصاً وقد قدّر له أن يعمل على مقربةٍ من وزراء ومسؤولين كبار. ويبدو الحمداني، في كتابه، ما يزال حذراً في أن يقول كل ما يعرفه، وإن تجاوز الزمن تلك الوقائع، فهو يكتفي بالتنويه والاشارة، في حالات عديدة، إلى أسماء أناسٍ من أوساط مختلفة، صحافيين وسياسيين وعسكريين، ونحن نعرف مثلهم أيضاً، تعرّضوا للقتل العمد غدراً، ولا يعرف سوى القليل عن أسرار مقتلهم، من قتلهم ولماذا قتلوا، وإذا كان الحمداني يتجنب الإفاضة في الحديث عنهم، لسبب أو لآخر، لكنه بدا كمن يطلب من الآخرين فتح ملفات هؤلاء الذين لم يقتلوا في حربٍ معلنةٍ، أو في صراعات معروفة، بل إن بعضهم اقتيد من الشارع وقُتل، وآخرين اختطفوا وغيبوا ولم يعثر لهم على أثر، وبعضاً ثالثا قتلوا عمداً مع سبق الإصرار والترصد، لكن أقيمت لهم مراسيم حداد، ومشى في مواكب جنازاتهم مسؤولون حكوميون.
الاستثناء الوحيد الذي يبيح الحمداني لنفسه الإفاضة في تفاصيله يتعلق بواقعة "مقتل" طارق حمد العبدالله سكرتير الرئيس أحمد حسن البكر، والوزير فيما بعد، والتي وصفت في حينه رسمياً بأنها واقعة "انتحار"، نتيجة حالة اكتئاب أصابت الوزير. وكعادته، لا يقطع بحكم نهائي في الواقعة، يكفيه أنه فتح الملف تاركاً لغيره مهمة الحكم.
نفهم من سيرة الوزير العبدالله أنه كان موضع غضب من جماعات "الدولة العميقة"، سواء منهم بعض أقارب صدام حسين الذين يتعاملون مع المقاولين ويبتزونهم، ويمارسون ضغوطاً عليه للحصول على مكاسب خلاف القانون، أو من رجال الأمن الذين لم تكن ترضيهم جرأة الوزير في نقد تصرفاتهم، ذلك ما جعلهم يكيدون له، ونعرف أن الوزير مراقب، وقد وضعوا في مكتبه أجهزة تنصت، ترصد كل حركة منه ونأمة، وحقائبه تفتش كلما عاد من سفرةٍ خارجية. هو يعرف تماماً أنه محاط بخطر تصفيته، خصوصاً وأنه يعرف من الأسرار الكثير، وإن كان لا يجاهر بما بعرف، وهو يخص الحمداني ببعض وجهات نظره، بحكم كونه لصيقاً به، حيث بين أسرتيهما صلة جوار ومعرفة قديمة، وقد نمت الثقة بينهما، من خلال عمل الحمداني سكرتيراً صحافياً له. وقد يكون ما يعرفه العبدالله سبباً آخر لتصفيته، إذ المعروف عن صدام حسين أنه شديد القسوة تجاه خصومه، أو من يفترض أنهم سيكونون خصوماً له، أو أنهم، بحكم خبراتهم وكفاءاتهم، ربما يشكلون خطراً عليه مستقبلاً، فيعمد إلى أن يتغدى بهم، قبل أن يتعشوا به، بحسب المثل العراقي الشائع. يسأله الحمداني: لماذا لا تهرب؟ يجيب الوزير: "الخطر.. أراه ماثلاً أمامي، ولكنني لا أهرب.. فأنا أعرف ما سيحدث لأسرتي وإخواني وأهلي.. سيموت الجميع بجريرة هربي، وأنا لست أنانياً إلى هذا الحد".
تلك واحدةٌ من حكاياتٍ، بخل كتبة التاريخ العراقي في توثيقها، أو حتى في الإشارة إليها، إلا فيما ندر، ربما كان الخوف هو الذي جعل هؤلاء الكتبة ينأون بأنفسهم عنها، خصوصاً وأن أغلب من قتلوا غدراً تم في عهود "الدولة العميقة" التي صنعتها العسكريتاريا والأحزاب الشمولية، والتي تستطيع فعل أي شيءٍ تحت لافتة "الأمن الوطني"، أو حماية النظام أو الولاء للقائد، ولا تتورّع عن استخدام كل أنواع الأسلحة ضد من يحاول كشف أسرارها، أو يشير إليها بأصبع الاتهام.
كتاب ليث الحمداني جعلني أفكر أن أحداً لن ينسى حكايات المغدورين الذين لا يعرف أحد من قتلهم، ولماذا قتلهم، لكن الخوف قد يدفع إلى الصمت. لكن، إلى حين.
الاستثناء الوحيد الذي يبيح الحمداني لنفسه الإفاضة في تفاصيله يتعلق بواقعة "مقتل" طارق حمد العبدالله سكرتير الرئيس أحمد حسن البكر، والوزير فيما بعد، والتي وصفت في حينه رسمياً بأنها واقعة "انتحار"، نتيجة حالة اكتئاب أصابت الوزير. وكعادته، لا يقطع بحكم نهائي في الواقعة، يكفيه أنه فتح الملف تاركاً لغيره مهمة الحكم.
نفهم من سيرة الوزير العبدالله أنه كان موضع غضب من جماعات "الدولة العميقة"، سواء منهم بعض أقارب صدام حسين الذين يتعاملون مع المقاولين ويبتزونهم، ويمارسون ضغوطاً عليه للحصول على مكاسب خلاف القانون، أو من رجال الأمن الذين لم تكن ترضيهم جرأة الوزير في نقد تصرفاتهم، ذلك ما جعلهم يكيدون له، ونعرف أن الوزير مراقب، وقد وضعوا في مكتبه أجهزة تنصت، ترصد كل حركة منه ونأمة، وحقائبه تفتش كلما عاد من سفرةٍ خارجية. هو يعرف تماماً أنه محاط بخطر تصفيته، خصوصاً وأنه يعرف من الأسرار الكثير، وإن كان لا يجاهر بما بعرف، وهو يخص الحمداني ببعض وجهات نظره، بحكم كونه لصيقاً به، حيث بين أسرتيهما صلة جوار ومعرفة قديمة، وقد نمت الثقة بينهما، من خلال عمل الحمداني سكرتيراً صحافياً له. وقد يكون ما يعرفه العبدالله سبباً آخر لتصفيته، إذ المعروف عن صدام حسين أنه شديد القسوة تجاه خصومه، أو من يفترض أنهم سيكونون خصوماً له، أو أنهم، بحكم خبراتهم وكفاءاتهم، ربما يشكلون خطراً عليه مستقبلاً، فيعمد إلى أن يتغدى بهم، قبل أن يتعشوا به، بحسب المثل العراقي الشائع. يسأله الحمداني: لماذا لا تهرب؟ يجيب الوزير: "الخطر.. أراه ماثلاً أمامي، ولكنني لا أهرب.. فأنا أعرف ما سيحدث لأسرتي وإخواني وأهلي.. سيموت الجميع بجريرة هربي، وأنا لست أنانياً إلى هذا الحد".
تلك واحدةٌ من حكاياتٍ، بخل كتبة التاريخ العراقي في توثيقها، أو حتى في الإشارة إليها، إلا فيما ندر، ربما كان الخوف هو الذي جعل هؤلاء الكتبة ينأون بأنفسهم عنها، خصوصاً وأن أغلب من قتلوا غدراً تم في عهود "الدولة العميقة" التي صنعتها العسكريتاريا والأحزاب الشمولية، والتي تستطيع فعل أي شيءٍ تحت لافتة "الأمن الوطني"، أو حماية النظام أو الولاء للقائد، ولا تتورّع عن استخدام كل أنواع الأسلحة ضد من يحاول كشف أسرارها، أو يشير إليها بأصبع الاتهام.
كتاب ليث الحمداني جعلني أفكر أن أحداً لن ينسى حكايات المغدورين الذين لا يعرف أحد من قتلهم، ولماذا قتلهم، لكن الخوف قد يدفع إلى الصمت. لكن، إلى حين.