27 أكتوبر 2024
تركيا والاتحاد الأوروبي بين العصا والجزرة
في العلاقات مع تركيا، يحصر القادة الأوروبيون اهتمامهم، اليوم، بقضايا الإرهاب واللاجئين والمواجهة مع "داعش" من جهة، وتطور الأمور السياسية باتجاه نظام تسلطي في أنقره من جهة أخرى. هل لم تكن أوروبا لتكون في موقعٍ أكثر راحةً إن كانت قد نجحت في اكتساب حليفها القديم لمشروعها ولفضائها، عوضاً من أن تواجهه بالإهانات والرفض، منذ ما يقرب من عشرين عاما؟
على الرغم من أنه صار معروفاً مدى شهية أردوغان لتعزيز سطوته، من خلال تعديل دستوري للبقاء في الحكم سنة 2023، للاحتفال بمئوية الجمهورية التركية، فقد جاء الانقلاب العسكري الفاشل ليُعزّز دوره مُنقذاً للديمقراطية. لقد فهم درساً لسلفه كمال أتاتورك الذي استطاع أن يستغل الثورة الكردية الإسلامية للشيخ سعيد سنة 1925 في تعزيز سلطته، وجرّ كل من يقف بوجهه إلى المحكمة، ابتداءً من كوادر "الاتحاد والترقي" الذين كانوا عماد وصوله إلى الحكم منذ 1916. إذ اتهم أردوغان جماعة فتح الله غولن، وهو على خلاف معها منذ 2012، بالوقوف خلف انقلابٍ يبدو أن كماليين جدداً هم وراءه، و"جيشيين" بمعنى العاملين في إطار "مصالح الجسم الوظيفي العسكري". وجماعة غولن هم إذاً "الاغبياء المفيدون" للحد من العملية الديمقراطية.
يحلو للأوروبيين، الآن، القول "ألم نقل لكم"، لتبيان أن مماطلتهم بخصوص انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي كانت في محلها. وذلك لإخفاء مسؤوليتهم بالنسبة لما يجري سلبياً في تركيا. متناسين بذلك أن الترفّع عن الحوار معها خلال سنين دفع بها إلى التقوقع. فضّلت أوروبا أن تحول المفاوضات إلى تهريج دبلوماسي، فجرى التساؤل، مثلاً، حول انتماء تركيا إلى الفضاء الجغرافي الأوروبي، ومن ثم إلى الثقافة اليهودية/ المسيحية لأوروبا. وتطرّق الحديث عن الحدود الطبيعية، ومن ثم إلى نفقات التوسعات التي أجريت لضم وسط أوروبا وشرقها. كان اقتناع كبار موظفي الاتحاد، منذ تسعينات القرن الماضي، بأنه "لا يجب فتح نقاش الانضمام، لأن تركيا هي من أكثر البلدان استعداداً". وقد تردّدت أوروبا أمام دخول 75 مليون تركي إلى الاتحاد، وما يستتبعه ذلك من تكاليف، لكنها تغاضت عن المكاسب الاقتصادية والاستراتيجية التي ضاعت، كما على سلبيات عدم الانضمام. والتخوف من غزو العمال الأتراك في حال الاندماج هو غير مسند رقمياً، حيث كان الخوف نفسه موجوداً عقب انضمام بولونيا وإسبانيا والبرتغال.
ولم تتوقف بروكسل عن إخراج مسألة "الشَرطية"، مفضلة النقد على التشجيع، إلى درجة انتشار طرفة تحكي عن امتحانٍ لثلاث دول للانضمام إلى الاتحاد، جاءت فيه الأسئلة كالتالي: إلى بلغاريا، ما هو تاريخ الضربة النووية الأولى. إلى رومانيا، عن مكان هذه الضربة، وإلى تركيا، عن أسماء ضحايا هذه الضربة.
إن لم تكن بروكسل تعتقد بانتماء تركيا إلى أوروبا، فلماذا انتظار 2007 للانتباه إلى ذلك، بعد أن أُدمِجَت في غالبية المؤسسات الأوروبية، منذ نهاية الحرب الثانية، كما اتفاقية شراكة سنة 1963 والاتحاد الجمركي سنة 1996، وتم قبولها في مجلس أوروبا سنة 1996، وكما تم تقرير التفاوض معها على الانضمام بدءاً من 2004.
كان متوقعاً أن تركيا لن تظل من دون ردة فعل على مماطلات بروكسيل. وهي التي تكونت جمهوريتها، بعد حروب صعبة مع الغرب، ترافقت مع صعود روحٍ وطنيةٍ متطرفةٍ، تلت تهديدات القضم بعد نهاية الحرب الأولى. ويبدو أن هناك قلقاً الآن من عودة سقوطها في فح التسلطية التي أسس لها أتاتورك، وعزّزتها الحرب الباردة. بدأ إردوغان "انحرافه" التسلطي، حينما شعر وفهم أن أبواب أوروبا ستغلق في وجهه، أي عندما انتخب نيكولا ساركوزي رئيسا سنة 2007 قائلاً: "يجب أن لا نعطي تركيا الشعور بأننا نرفضها".
منذ ذاك الوقت، توقف الاتحاد عن المفاوضات، أو ميّعها. دفع هذا التماطل تركيا إلى أن تكون وحدها في الملعب الدولي عملياً، ما يؤدي بها إلى تكوين تحالفاتٍ مع دول إقليمية "خطرة"، مثل إسرائيل وإيران وروسيا. كما التوجه نحو الشرق، من خلال التعبير عن الرغبة في الانضمام إلى منظمة التعاون الاقتصادي في شنغهاي. وبما أنها لم تحصل على الضوء الأخضر من واشنطن لمنطقة حظر جوي في سورية، فهي دعمت قوى إسلاميةً بالارتباط مع دول نفطية، لمواجهة أكراد مدعومين غربيا.
وما قبول أوروبا، أخيراً، إعفاء الأتراك من تأشيرة الدخول مقابل الحد من الهجرة إلا مؤشر على أن ما رفضته أوروبا لتعزيز المسار الديمقراطي سابقاً، عادت إلى القبول به مع سلطة متشدّدة. وهذا ليس جديداً، فخلال الحرب الباردة، تم غض نظر الغرب "الديمقراطي" عن الانتهاكات في تركيا، في سبيل مواجهة الاتحاد السوفييتي.
كانت تركيا تعي صعوبة المفاوضات، لكنها كانت بحاجة إلى مفاوضاتٍ حقيقيةٍ وإيجابية، تتجاوب مع احتياجات نخبتها الإصلاحية والتحرّرية، وتخفيف سطوة الجهة التي تميل إلى تعزيز السلطوية. إن إغلاق الباب أمام اندماج تركيا في أوروبا، أو فتحه بشكل ضئيل، قد ساهم في تقهقر عملية الانتقال الديمقراطي. وما تلا محاولة الانقلاب الفاشلة يُعزّز من هذا التوجه، من خلال ملاحظة ردود الأفعال الغربية/ الغريبة عليه، فالعصا غليظة والجزرة متعفّنة، والنفاق سيد الموقف من الطرفين.
على الرغم من أنه صار معروفاً مدى شهية أردوغان لتعزيز سطوته، من خلال تعديل دستوري للبقاء في الحكم سنة 2023، للاحتفال بمئوية الجمهورية التركية، فقد جاء الانقلاب العسكري الفاشل ليُعزّز دوره مُنقذاً للديمقراطية. لقد فهم درساً لسلفه كمال أتاتورك الذي استطاع أن يستغل الثورة الكردية الإسلامية للشيخ سعيد سنة 1925 في تعزيز سلطته، وجرّ كل من يقف بوجهه إلى المحكمة، ابتداءً من كوادر "الاتحاد والترقي" الذين كانوا عماد وصوله إلى الحكم منذ 1916. إذ اتهم أردوغان جماعة فتح الله غولن، وهو على خلاف معها منذ 2012، بالوقوف خلف انقلابٍ يبدو أن كماليين جدداً هم وراءه، و"جيشيين" بمعنى العاملين في إطار "مصالح الجسم الوظيفي العسكري". وجماعة غولن هم إذاً "الاغبياء المفيدون" للحد من العملية الديمقراطية.
يحلو للأوروبيين، الآن، القول "ألم نقل لكم"، لتبيان أن مماطلتهم بخصوص انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي كانت في محلها. وذلك لإخفاء مسؤوليتهم بالنسبة لما يجري سلبياً في تركيا. متناسين بذلك أن الترفّع عن الحوار معها خلال سنين دفع بها إلى التقوقع. فضّلت أوروبا أن تحول المفاوضات إلى تهريج دبلوماسي، فجرى التساؤل، مثلاً، حول انتماء تركيا إلى الفضاء الجغرافي الأوروبي، ومن ثم إلى الثقافة اليهودية/ المسيحية لأوروبا. وتطرّق الحديث عن الحدود الطبيعية، ومن ثم إلى نفقات التوسعات التي أجريت لضم وسط أوروبا وشرقها. كان اقتناع كبار موظفي الاتحاد، منذ تسعينات القرن الماضي، بأنه "لا يجب فتح نقاش الانضمام، لأن تركيا هي من أكثر البلدان استعداداً". وقد تردّدت أوروبا أمام دخول 75 مليون تركي إلى الاتحاد، وما يستتبعه ذلك من تكاليف، لكنها تغاضت عن المكاسب الاقتصادية والاستراتيجية التي ضاعت، كما على سلبيات عدم الانضمام. والتخوف من غزو العمال الأتراك في حال الاندماج هو غير مسند رقمياً، حيث كان الخوف نفسه موجوداً عقب انضمام بولونيا وإسبانيا والبرتغال.
ولم تتوقف بروكسل عن إخراج مسألة "الشَرطية"، مفضلة النقد على التشجيع، إلى درجة انتشار طرفة تحكي عن امتحانٍ لثلاث دول للانضمام إلى الاتحاد، جاءت فيه الأسئلة كالتالي: إلى بلغاريا، ما هو تاريخ الضربة النووية الأولى. إلى رومانيا، عن مكان هذه الضربة، وإلى تركيا، عن أسماء ضحايا هذه الضربة.
إن لم تكن بروكسل تعتقد بانتماء تركيا إلى أوروبا، فلماذا انتظار 2007 للانتباه إلى ذلك، بعد أن أُدمِجَت في غالبية المؤسسات الأوروبية، منذ نهاية الحرب الثانية، كما اتفاقية شراكة سنة 1963 والاتحاد الجمركي سنة 1996، وتم قبولها في مجلس أوروبا سنة 1996، وكما تم تقرير التفاوض معها على الانضمام بدءاً من 2004.
كان متوقعاً أن تركيا لن تظل من دون ردة فعل على مماطلات بروكسيل. وهي التي تكونت جمهوريتها، بعد حروب صعبة مع الغرب، ترافقت مع صعود روحٍ وطنيةٍ متطرفةٍ، تلت تهديدات القضم بعد نهاية الحرب الأولى. ويبدو أن هناك قلقاً الآن من عودة سقوطها في فح التسلطية التي أسس لها أتاتورك، وعزّزتها الحرب الباردة. بدأ إردوغان "انحرافه" التسلطي، حينما شعر وفهم أن أبواب أوروبا ستغلق في وجهه، أي عندما انتخب نيكولا ساركوزي رئيسا سنة 2007 قائلاً: "يجب أن لا نعطي تركيا الشعور بأننا نرفضها".
منذ ذاك الوقت، توقف الاتحاد عن المفاوضات، أو ميّعها. دفع هذا التماطل تركيا إلى أن تكون وحدها في الملعب الدولي عملياً، ما يؤدي بها إلى تكوين تحالفاتٍ مع دول إقليمية "خطرة"، مثل إسرائيل وإيران وروسيا. كما التوجه نحو الشرق، من خلال التعبير عن الرغبة في الانضمام إلى منظمة التعاون الاقتصادي في شنغهاي. وبما أنها لم تحصل على الضوء الأخضر من واشنطن لمنطقة حظر جوي في سورية، فهي دعمت قوى إسلاميةً بالارتباط مع دول نفطية، لمواجهة أكراد مدعومين غربيا.
وما قبول أوروبا، أخيراً، إعفاء الأتراك من تأشيرة الدخول مقابل الحد من الهجرة إلا مؤشر على أن ما رفضته أوروبا لتعزيز المسار الديمقراطي سابقاً، عادت إلى القبول به مع سلطة متشدّدة. وهذا ليس جديداً، فخلال الحرب الباردة، تم غض نظر الغرب "الديمقراطي" عن الانتهاكات في تركيا، في سبيل مواجهة الاتحاد السوفييتي.
كانت تركيا تعي صعوبة المفاوضات، لكنها كانت بحاجة إلى مفاوضاتٍ حقيقيةٍ وإيجابية، تتجاوب مع احتياجات نخبتها الإصلاحية والتحرّرية، وتخفيف سطوة الجهة التي تميل إلى تعزيز السلطوية. إن إغلاق الباب أمام اندماج تركيا في أوروبا، أو فتحه بشكل ضئيل، قد ساهم في تقهقر عملية الانتقال الديمقراطي. وما تلا محاولة الانقلاب الفاشلة يُعزّز من هذا التوجه، من خلال ملاحظة ردود الأفعال الغربية/ الغريبة عليه، فالعصا غليظة والجزرة متعفّنة، والنفاق سيد الموقف من الطرفين.