28 أكتوبر 2024
نحو إعادة تأسيس المجلس الوطني الفلسطيني
ثمّة بريق أمل غمر بعضهم إثر موافقة حركتي المقاومة الإسلامية (حماس) والجهاد الإسلامي على المشاركة في اجتماع حواري، لبحث سبل عقد المجلس الوطني الفلسطيني، وإخراجه من ثلاجة الموتى الموجود فيها منذ نحو 29 عامًا، بعد آخر دورة معتبرة له في الجزائر عام 1988. بل إن التعبير المستخدم في الحديث عن المجلس الوطني، ومن كل الفرقاء، يتضمّن تعبيراً، أظنه صائباً، هو "إحياء" المجلس، في دلالة واضحة على بؤس الحالة التي وصل إليها. لكن هذا المقال، وإن كان يشاطر المتفائلين أملهم بإعادة الاعتبار إلى مؤسسةٍ عريقة من مؤسسات الشعب الفلسطيني، إلا أنّه لا يشاركهم تفاؤلهم بإمكان ذلك في المدى المنظور، ولا يعتقد أن حوار بيروت سيخرج بأيّ نتائج تفوق قيمتها جمع هذه الأطراف كلها على مائدةٍ واحدةٍ، وحملها على الاستماع إلى وجهة النظر الأخرى، ومن ثم يمضي كلٌ إلى غايته المحددة سلفًا، من دون أن يسفر لقاء بيروت عن أيّ تقدّم حقيقي باتجاه مجلس وطني يمثل الفلسطينيين كلهم في الوطن ومناطق اللجوء والانتشار، كما يمثل الطيف السياسي كاملاً، النخب والشباب وقوى المجتمع النابض بالحياة.
ولمّا كان البحث في هذا الموضوع المهم لمستقبل الوضع الفلسطيني يتجاوز جرعات التفاؤل أو التشاؤم، فإن ثمّة أموراً ينبغي الالتفات إليها، والتوقف عندها قبل تقرير الخطوة التالية. وفي حال الإصرار على عقد جلسةٍ عاجلةٍ للمجلس، بهدف منح الشرعية للأطر القائمة فحسب، وبالصيغة الحالية نفسها، وبعيدًا عن صوغ برنامج وطني فلسطيني شامل، وتقييم المرحلة السابقة، في تكرارٍ ممل لما جرى في المؤتمر السابع لحركة فتح، فإن آخر مدماكٍ في منظمة التحرير، ككيان معنوي للشعب الفلسطيني، وممثل شرعي ووحيد له، يوشك أن يهدم وينهار. وقد حدث مثل ذلك في سبتمبر/ أيلول 2015، عندما جرت محاولة فاشلة لعقد دورة للمجلس الوطني الفلسطيني، بهدف إعادة انتخاب لجنة تنفيذية لمنظمة التحرير، وتجديدٍ لشرعيتها عبر التحايل على الأنظمة القائمة. يومها لم يمر ذلك نتيجة للضغط الشعبي والفصائلي الذي رفض العبث في ما تبقّى من الكيان المعنوي للشعب الفلسطيني، وفضّل إبقاءه في غرفة الإنعاش على أن يُدفن نهائيًا. والمعلوم أن النظام الداخلي لمنظمة التحرير ينص على عقد المجلس الوطني اجتماعًا سنويًا. ومنذ تأسيس المنظمة عام 1964 وحتى اتفاق أوسلو، عُقد 20 مرة خلال 27 عامًا، فكانت آخر جلساته في الجزائر عام 1988، ما يدلّ على درجةٍ معقولة من الحيوية والديمقراطية في داخل البناء الفلسطيني.
ولكن، منذ عام 1988، وعلى الرغم من توقيع اتفاق أوسلو والانتفاضة الثانية واستشهاد ياسر عرفات واجتياح الضفة الغربية والانقسام الفلسطيني، وثلاث حروب تعرّضت لها غزة،
وحصارها المستمر، ووضع المخيمات في سورية ولبنان، وانهيار ما عرف بحلّ الدولتين، فإن المجلس الوطني لم يعقد سوى جلسة واحدة، مطعون في شرعيتها وفي قراراتها، في عام 1996 في غزة. خصصت لتعديل الميثاق، وارتفع فيها عدد أعضاء المجلس الوطني من 350 في جلسة الجزائر إلى 730 عضوًا في جلسة غزة؛ التي استحالت مهرجانًا أصبح كل من حضره عضوًا في المجلس. ويزعم كاتب هذه السطور أنّه كان عضوًا في المجلس في دورة الجزائر، وقد وجّهت له الدعوة لحضور جلسة غزة، وعندما لم يحضر، جرى شطب اسمه من قائمة العضوية، وهذا حال آخرين كثيرين. أما الجلسة الثانية فقد كانت في عام 2009، وعُدّت استثنائية، لم يحضرها سوى أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة ومكتب رئاسة المجلس الوطني وبعض الأعضاء، والتي خصصت لاستبدال أعضاء اللجنة التنفيذية الذين انتقلوا إلى رحمة الله.
تثير الفقرة السابقة عدة مسائل خلافيّة، منها ما يتعلق ببنية المجلس وتركيبة أعضائه، إذ ترغب القيادة الرسمية في تجاوز ما اتُفق عليه من تشكيل إطار قيادي موحد، يتولى إعادة بناء منطمة التحرير، بما فيها إعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني على أسس ديمقراطية، تتضمن إجراء انتخاباتٍ، حيثما يمكن ذلك في الوطن والشتات، وترغب بدلاً من ذلك باعتبار المجلس المُقبل امتدادًا للمجلس السابق، مع منح حصة ما يُتفق عليها لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، أسوة ببقية الفصائل، وفق مبدأ المحاصصة.
وهنا يُثار سؤال: أيّ مجلس يُستند إليه، مجلس الجزائر (350 عضوًا) أم مجلس غزة (730 عضوًا)؟ ناهيك عن أن كلا المجلسين مرّ عليهما وقت طويل يتراوح ما بين 20-30 عامًا، فإذا افترضنا أن متوسط أعمار أعضاء المجلس في ذلك الوقت كان 50 عامًا، وأن الله عز وجل كتب لمعظمهم الحياة حتى اليوم، فنحن أمام مجلس مرتقب تتجاوز أعمار أعضائه السبعين. وناهيك عن أنّ واقع المنظمات الشعبية المشاركة في المجلس قد اختلف؛ فمنها ما اختفى أو كاد يختفي، أو فقد مؤسساته الديمقراطية أو هُمّش بعد اتفاق أوسلو، أو شكّل منظمات جماهيرية أخرى بفعل الانقسام في الساحة الفلسطينية. ولعلّ مثل اتحاد طلاب فلسطين يشكّل علامة فارقة، حيث إن عمر ممثله في المجلس المركزي يتجاوز الـ60 عامًا، وقد ترك مقاعد الدراسة منذ أكثر من ربع قرن. أمّا حال الفصائل المشاركة في المجلس فلا يختلف عن حال المنظمات الشعبية، بل لعله يشكّل تعبيرًا أكثر فداحة. فمن هذه الفصائل من فقد كل قاعدة جماهيرية، وانقسمت هيئاته القيادية إلى أكثر من فصيلٍ بالكاد يمثل شخوص قيادته، وهنالك فصائل وقوى أخرى برزت في الساحة، وأثبتت وجودها وفعاليتها، ما يجعل من مسألة المحاصصة الفصائلية بصيغتها المتبعة تبدو وكأنها تحايل على التمثيل، وتوزيع للولاءات والمناصب والامتيازات.
ويمثل مكان عقد الدورة المُقبلة نقطة إشكالية أخرى، ففي حين تصرّ قيادة السلطة على عقده في
رام الله، فإنّ أطرافًا عديدة ترفض أن يُعقد تحت حراب الاحتلال؛ بل يمثل مجرد عقده في رام الله إقرارًا أوليًا من المجلس بالواقع المرير الذي تشهده الأرض المحتلة، كما يعني إصدار صك براءة لكل ما تم منذ "أوسلو".
تتعلق النقطة الأهم ببرنامج الإجماع الوطني الفلسطيني، وبالمشروع الوطني الفلسطيني. وهنا ينبغي التذكير بأنّ المجلس الوطني مؤسسة تشريعية ورقابية؛ لذا، كان من أكبر الأخطاء والخطايا إقحامه في البرامج المرحلية للسلطة التنفيذية، أو محاولة العبث بميثاقه الوطني، فالبرامج المرحلية تتغير، وتتفاوت الرؤية حولها باختلاف الفصائل وبتغيّر الزمان وموازين القوى، أمّا المشروع الوطني الفلسطيني فيجب أن يبقى ثابتًا كما عبر عنه الميثاق الوطني، ويجب أن يبقى بمثابة منارة لتطلّعات الشعب الفلسطيني في التحرير والعودة والمقاومة واستعادة حقوقه المشروعة. ولعلّ أولى المهام المتعلقة بأيّ مجلس وطني فلسطيني جديد هي حسم الجدل بشأن موضوع الميثاق وإعادة التأكيد عليه ناظماً للمشروع الوطني الفلسطيني.
بعد كل هذا التغييب المتعمّد للمجلس الوطني الفلسطيني، ما نحن بحاجة إليه ليس مجرد عقد جلسةٍ نجدّد فيها المحاصصة، ونقتسم فيها المواقع؛ نحن بحاجة إلى طيّ ملف الماضي، وإعادة تأسيس حقيقية لمنظمة التحرير، يُطلقها مجلس وطني يعبّر بدقة عن تطلّعات الشعب الفلسطيني بوسائل ديمقراطية حقيقية، ويعيد بناء المشروع الوطني الفلسطيني، بعد أن أنهكته سياسة التسوية والتنازلات المستمرة.
ولمّا كان البحث في هذا الموضوع المهم لمستقبل الوضع الفلسطيني يتجاوز جرعات التفاؤل أو التشاؤم، فإن ثمّة أموراً ينبغي الالتفات إليها، والتوقف عندها قبل تقرير الخطوة التالية. وفي حال الإصرار على عقد جلسةٍ عاجلةٍ للمجلس، بهدف منح الشرعية للأطر القائمة فحسب، وبالصيغة الحالية نفسها، وبعيدًا عن صوغ برنامج وطني فلسطيني شامل، وتقييم المرحلة السابقة، في تكرارٍ ممل لما جرى في المؤتمر السابع لحركة فتح، فإن آخر مدماكٍ في منظمة التحرير، ككيان معنوي للشعب الفلسطيني، وممثل شرعي ووحيد له، يوشك أن يهدم وينهار. وقد حدث مثل ذلك في سبتمبر/ أيلول 2015، عندما جرت محاولة فاشلة لعقد دورة للمجلس الوطني الفلسطيني، بهدف إعادة انتخاب لجنة تنفيذية لمنظمة التحرير، وتجديدٍ لشرعيتها عبر التحايل على الأنظمة القائمة. يومها لم يمر ذلك نتيجة للضغط الشعبي والفصائلي الذي رفض العبث في ما تبقّى من الكيان المعنوي للشعب الفلسطيني، وفضّل إبقاءه في غرفة الإنعاش على أن يُدفن نهائيًا. والمعلوم أن النظام الداخلي لمنظمة التحرير ينص على عقد المجلس الوطني اجتماعًا سنويًا. ومنذ تأسيس المنظمة عام 1964 وحتى اتفاق أوسلو، عُقد 20 مرة خلال 27 عامًا، فكانت آخر جلساته في الجزائر عام 1988، ما يدلّ على درجةٍ معقولة من الحيوية والديمقراطية في داخل البناء الفلسطيني.
ولكن، منذ عام 1988، وعلى الرغم من توقيع اتفاق أوسلو والانتفاضة الثانية واستشهاد ياسر عرفات واجتياح الضفة الغربية والانقسام الفلسطيني، وثلاث حروب تعرّضت لها غزة،
تثير الفقرة السابقة عدة مسائل خلافيّة، منها ما يتعلق ببنية المجلس وتركيبة أعضائه، إذ ترغب القيادة الرسمية في تجاوز ما اتُفق عليه من تشكيل إطار قيادي موحد، يتولى إعادة بناء منطمة التحرير، بما فيها إعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني على أسس ديمقراطية، تتضمن إجراء انتخاباتٍ، حيثما يمكن ذلك في الوطن والشتات، وترغب بدلاً من ذلك باعتبار المجلس المُقبل امتدادًا للمجلس السابق، مع منح حصة ما يُتفق عليها لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، أسوة ببقية الفصائل، وفق مبدأ المحاصصة.
وهنا يُثار سؤال: أيّ مجلس يُستند إليه، مجلس الجزائر (350 عضوًا) أم مجلس غزة (730 عضوًا)؟ ناهيك عن أن كلا المجلسين مرّ عليهما وقت طويل يتراوح ما بين 20-30 عامًا، فإذا افترضنا أن متوسط أعمار أعضاء المجلس في ذلك الوقت كان 50 عامًا، وأن الله عز وجل كتب لمعظمهم الحياة حتى اليوم، فنحن أمام مجلس مرتقب تتجاوز أعمار أعضائه السبعين. وناهيك عن أنّ واقع المنظمات الشعبية المشاركة في المجلس قد اختلف؛ فمنها ما اختفى أو كاد يختفي، أو فقد مؤسساته الديمقراطية أو هُمّش بعد اتفاق أوسلو، أو شكّل منظمات جماهيرية أخرى بفعل الانقسام في الساحة الفلسطينية. ولعلّ مثل اتحاد طلاب فلسطين يشكّل علامة فارقة، حيث إن عمر ممثله في المجلس المركزي يتجاوز الـ60 عامًا، وقد ترك مقاعد الدراسة منذ أكثر من ربع قرن. أمّا حال الفصائل المشاركة في المجلس فلا يختلف عن حال المنظمات الشعبية، بل لعله يشكّل تعبيرًا أكثر فداحة. فمن هذه الفصائل من فقد كل قاعدة جماهيرية، وانقسمت هيئاته القيادية إلى أكثر من فصيلٍ بالكاد يمثل شخوص قيادته، وهنالك فصائل وقوى أخرى برزت في الساحة، وأثبتت وجودها وفعاليتها، ما يجعل من مسألة المحاصصة الفصائلية بصيغتها المتبعة تبدو وكأنها تحايل على التمثيل، وتوزيع للولاءات والمناصب والامتيازات.
ويمثل مكان عقد الدورة المُقبلة نقطة إشكالية أخرى، ففي حين تصرّ قيادة السلطة على عقده في
تتعلق النقطة الأهم ببرنامج الإجماع الوطني الفلسطيني، وبالمشروع الوطني الفلسطيني. وهنا ينبغي التذكير بأنّ المجلس الوطني مؤسسة تشريعية ورقابية؛ لذا، كان من أكبر الأخطاء والخطايا إقحامه في البرامج المرحلية للسلطة التنفيذية، أو محاولة العبث بميثاقه الوطني، فالبرامج المرحلية تتغير، وتتفاوت الرؤية حولها باختلاف الفصائل وبتغيّر الزمان وموازين القوى، أمّا المشروع الوطني الفلسطيني فيجب أن يبقى ثابتًا كما عبر عنه الميثاق الوطني، ويجب أن يبقى بمثابة منارة لتطلّعات الشعب الفلسطيني في التحرير والعودة والمقاومة واستعادة حقوقه المشروعة. ولعلّ أولى المهام المتعلقة بأيّ مجلس وطني فلسطيني جديد هي حسم الجدل بشأن موضوع الميثاق وإعادة التأكيد عليه ناظماً للمشروع الوطني الفلسطيني.
بعد كل هذا التغييب المتعمّد للمجلس الوطني الفلسطيني، ما نحن بحاجة إليه ليس مجرد عقد جلسةٍ نجدّد فيها المحاصصة، ونقتسم فيها المواقع؛ نحن بحاجة إلى طيّ ملف الماضي، وإعادة تأسيس حقيقية لمنظمة التحرير، يُطلقها مجلس وطني يعبّر بدقة عن تطلّعات الشعب الفلسطيني بوسائل ديمقراطية حقيقية، ويعيد بناء المشروع الوطني الفلسطيني، بعد أن أنهكته سياسة التسوية والتنازلات المستمرة.