19 يناير 2024
ترامب "وأميركا العظيمة"
شكّل خطاب تنصيب دونالد ترامب الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة صدمة لكثيرين، فقد أظهر صاحبه أنه لم يتغير أبداً من بداية حملته الانتخابية قبل 17 شهراً، وقد توقع كثيرون أنه سيكون أكثر اعتدالاً مع استلامه الرئاسة، فلعب موقع المعارضة مختلفٌ عن موقع اتخاذ القرارات الكبرى، لكن خطاب التنصيب كذّب كل هذه التوقعات، فكأنه الخطاب نفسه الذي كرّره ترامب في أثناء حملته الانتخابية، ويكاد يكون استخدم المفردات نفسها متكئاً على المعنى نفسه، وعلى اللغة التي استخدمها ريتشارد نيكسون قبله في تخويف الأميركيين، وأنهم بحاجة إلى رئيس قوي مثله، من أجل إصلاح كل الأخطاء والفساد الذي ينخر واشنطن اليوم.
لقد استخدم كلمات لم يستخدمها أي رئيس أميركي قبله، إذ وصف ما يجري في أميركا اليوم بالمذبحة "Carnage". وتعهد بمحو "الإسلاميين المتطرفين من وجه الأرض"، وقال إن سياسة أميركا مع الحلفاء هي "أميركا أولا"، وإن المبدأ هو "شراء البضاعة الأميركية، وتوظيف الأميركيين أولا وقبل كل شيء"، كما تعهد بالحمائية رداً على اختلال التوازن في التجارة مع دولٍ كثيرة، وخصوصاً الصين وألمانيا.
وفي الوقت نفسه، ترافقت مع تنصيبه الخافت مظاهرات واحتجاجات متصاعدة، ليس في الولايات المتحدة فحسب، وإنما في كل العالم، على عكس ما قوبل به الرئيس المغادر باراك أوباما الذي استقبلته مسيرات مرحبة ومؤيدة كثيرة في العالم، ربما انتقاما من سياسات سابقه جورج بوش. كيف سينعكس ذلك على شعار ترامب أنه يريد جعل أميركا عظيمة مرة أخرى؟
كان القرن العشرون أميركياً بامتياز، فالقوة الأميركية بدت صاعدةً بقوة مع نهاية الحرب
العالمية الثانية، وحملت على كتفها مشروع مارشال للإعمار في أوروبا الغربية التي ما زالت تدين للولايات المتحدة كثيراً بسببه، وخاضت الولايات المتحدة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، فخرجت منتصرة تماماً، لاسيما مع إعلان انهيار الاتحاد السوفييتي تماماً وتفكّكه، وتمزق دول المنظومة الاشتراكية التي التحقت الواحدة تلو الأخرى في المنظومة الأميركية، وسادت المبادئ الأيديولوجية الأميركية في العالم، فالديمقراطية وحقوق الإنسان، على الرغم من كونهما إرثاً إنسانياً مشتركاً، فإن السياسة الأميركية هي الأكثر تحدثاً باسمهما، وتبدو الأكثر حرصاً على تطبيقهما. على الأقل هذا ما يصرح به المسؤولون الأميركيون رسمياً، حتى وصول ترامب، وإن كانت سياستهم تفعل عكس ذلك تماماً في بقع كثيرة من العالم.
حقّ إذاً لفوكوياما أن يعلن عن نهاية التاريخ وسيادة الأيديولوجيا الرأسمالية وهيمنتها. وعلى الرغم من أسفه لذلك، إلا أنه يقرّ بأن هذا هو الواقع، وأن علينا أن نتعامل معه وفقاً لذلك، فأميركا أصبحت إذاً قطباً وحيداً وسيد العالم، يطلب الجميع ودها ويخاف ضغطها، يتساءل ويغضب لتدخلها لأنها تلعب دور الشرطي العالمي، كما حدث في الصومال وغيرها. ويتساءل الجميع أيضاً، ويغضب لعدم تدخلها وتجاهلها، كما يحدث باستمرار مع القضية الفلسطينية وفي سورية، فالمطلوب منها أن تؤدي الدور ونقيضه، لكي ترضي الموالين والمعارضين معاً، فالجميع يشتمها، لكن الجميع يطلب دورها، كما عبر توماس فريدمان، في أحد مقالاته، فما الذي نقرأه إذاً من تصاعد الاحتجاج العالمي اليوم ضد وصول ترامب إلى الرئاسة، خصوصا مع تصريحاته ضد اتفاقية المناخ العالمية، فأول ما فعله في الموقع الإلكتروني للبيت الأبيض حذفه كل شيء له علاقه بالحفاظ على البيئة والتغير المناخي، كما أعلن رغبته الانسحاب من معاهدة حماية البيئة الدولية التي تم التوصل إليها في باريس بجهود جبارة من الرئيس أوباما، ما جعل ترامب يظهر بمظهر المنعزل في العالم، وفقاً لسياساته التي يرفضها الجميع، إلا أن الجميع لا يستطيع أن يصرح برفضه هذا.
تكشف سياسة ترامب في رفضه التوقيع على معاهدة البيئة، والانسحاب من اتفاقيات التجارة
الحرة، وتطبيق مبدأ الحمائية، أن حكومته التي يسيطر عليها أصحاب البلايين والملايين والجنرالات تكاد تكون ائتلافاً مكشوفاً لمصالح الشركات الكبرى الأميركية، علينا أن ننتظر ونرى، هل يستطيع ترامب إخضاع المؤسسات الأميركية التي عمرها مئات السنين من المؤسساتية، أم ستُخضعه هذه المؤسسات، في النهاية، إلى مبدئها. بالتأكيد لن يستطيع ترامب تحقيق تغييرات كبرى في الثقافة الأميركية خلال الأربع سنوات المقبلة، فالثقافة تحتاج إلى أجيال بهدف التغيير.
من الصعب أن نجزم بأن الهيمنة الأميركية بدأت بالانحسار. وفي الوقت نفسه، من الصعب الإقرار بأن الثقافة الأميركية هي قائد العالم بلا منازع، لا سيما ونحن نلحظ تصاعد الاحتجاجات وتواترها من كل الأطياف، وفي كل الأماكن، وحتى داخل أميركا نفسها، إلا أنه في المستطاع القول إن الصعود الأميركي لن يأفل بسهولة، لمجرد احتجاجات تدخل في خانة السلب والرفض، لكنه ربما يهتز ويتزحزح، عندما تتمكّن الثقافات والحضارات الأخرى من تقديم بدائل أخرى للحداثة، تتجاوز سلبياتها وتقنع الناس بنموذجها، فالهيمنة الأميركية تتآكل، عندما يصبح نموذجها يحمل التناقض في داخله، ويفقد قدرته على الاستمرار. وفي الوقت نفسه، عندما يظهر نموذج جديد، يطرح سياسات اقتصادية وثقافية وأيديولوجية، تحمل مشروعيتها في أهدافها الإنسانية. وهذا ما يجعل النموذج الصيني، على الرغم من نجاحه الاقتصادي، مرذولاً عالمياً، لأنه لا يضع بداخله حقوق مواطنيه بعين الاعتبار، وإنما يعتبرهم محرّكاً ممتازاً لمزيد من التطور الاقتصادي، فتآكل الهيمنة الأميركية يتعلق بنا أولاً في تهديدها ثقافياً وأيديولوجياً، قبل رفضها سياسياً علناً، وطلب ودّها سراً.
لقد استخدم كلمات لم يستخدمها أي رئيس أميركي قبله، إذ وصف ما يجري في أميركا اليوم بالمذبحة "Carnage". وتعهد بمحو "الإسلاميين المتطرفين من وجه الأرض"، وقال إن سياسة أميركا مع الحلفاء هي "أميركا أولا"، وإن المبدأ هو "شراء البضاعة الأميركية، وتوظيف الأميركيين أولا وقبل كل شيء"، كما تعهد بالحمائية رداً على اختلال التوازن في التجارة مع دولٍ كثيرة، وخصوصاً الصين وألمانيا.
وفي الوقت نفسه، ترافقت مع تنصيبه الخافت مظاهرات واحتجاجات متصاعدة، ليس في الولايات المتحدة فحسب، وإنما في كل العالم، على عكس ما قوبل به الرئيس المغادر باراك أوباما الذي استقبلته مسيرات مرحبة ومؤيدة كثيرة في العالم، ربما انتقاما من سياسات سابقه جورج بوش. كيف سينعكس ذلك على شعار ترامب أنه يريد جعل أميركا عظيمة مرة أخرى؟
كان القرن العشرون أميركياً بامتياز، فالقوة الأميركية بدت صاعدةً بقوة مع نهاية الحرب
حقّ إذاً لفوكوياما أن يعلن عن نهاية التاريخ وسيادة الأيديولوجيا الرأسمالية وهيمنتها. وعلى الرغم من أسفه لذلك، إلا أنه يقرّ بأن هذا هو الواقع، وأن علينا أن نتعامل معه وفقاً لذلك، فأميركا أصبحت إذاً قطباً وحيداً وسيد العالم، يطلب الجميع ودها ويخاف ضغطها، يتساءل ويغضب لتدخلها لأنها تلعب دور الشرطي العالمي، كما حدث في الصومال وغيرها. ويتساءل الجميع أيضاً، ويغضب لعدم تدخلها وتجاهلها، كما يحدث باستمرار مع القضية الفلسطينية وفي سورية، فالمطلوب منها أن تؤدي الدور ونقيضه، لكي ترضي الموالين والمعارضين معاً، فالجميع يشتمها، لكن الجميع يطلب دورها، كما عبر توماس فريدمان، في أحد مقالاته، فما الذي نقرأه إذاً من تصاعد الاحتجاج العالمي اليوم ضد وصول ترامب إلى الرئاسة، خصوصا مع تصريحاته ضد اتفاقية المناخ العالمية، فأول ما فعله في الموقع الإلكتروني للبيت الأبيض حذفه كل شيء له علاقه بالحفاظ على البيئة والتغير المناخي، كما أعلن رغبته الانسحاب من معاهدة حماية البيئة الدولية التي تم التوصل إليها في باريس بجهود جبارة من الرئيس أوباما، ما جعل ترامب يظهر بمظهر المنعزل في العالم، وفقاً لسياساته التي يرفضها الجميع، إلا أن الجميع لا يستطيع أن يصرح برفضه هذا.
تكشف سياسة ترامب في رفضه التوقيع على معاهدة البيئة، والانسحاب من اتفاقيات التجارة
من الصعب أن نجزم بأن الهيمنة الأميركية بدأت بالانحسار. وفي الوقت نفسه، من الصعب الإقرار بأن الثقافة الأميركية هي قائد العالم بلا منازع، لا سيما ونحن نلحظ تصاعد الاحتجاجات وتواترها من كل الأطياف، وفي كل الأماكن، وحتى داخل أميركا نفسها، إلا أنه في المستطاع القول إن الصعود الأميركي لن يأفل بسهولة، لمجرد احتجاجات تدخل في خانة السلب والرفض، لكنه ربما يهتز ويتزحزح، عندما تتمكّن الثقافات والحضارات الأخرى من تقديم بدائل أخرى للحداثة، تتجاوز سلبياتها وتقنع الناس بنموذجها، فالهيمنة الأميركية تتآكل، عندما يصبح نموذجها يحمل التناقض في داخله، ويفقد قدرته على الاستمرار. وفي الوقت نفسه، عندما يظهر نموذج جديد، يطرح سياسات اقتصادية وثقافية وأيديولوجية، تحمل مشروعيتها في أهدافها الإنسانية. وهذا ما يجعل النموذج الصيني، على الرغم من نجاحه الاقتصادي، مرذولاً عالمياً، لأنه لا يضع بداخله حقوق مواطنيه بعين الاعتبار، وإنما يعتبرهم محرّكاً ممتازاً لمزيد من التطور الاقتصادي، فتآكل الهيمنة الأميركية يتعلق بنا أولاً في تهديدها ثقافياً وأيديولوجياً، قبل رفضها سياسياً علناً، وطلب ودّها سراً.