09 نوفمبر 2024
السودان.. الحياة بعيداً عن النزاعات والعقوبات
يكاد اسم السودان يرتبط بالعقوبات على هذا البلد. وكما هو حال إيران وسورية، وكما كان حال ليبيا والعراق في عهديهما السابقين. وعلى الرغم من أن القرارات الأميركية التي سرت منذ الخميس الماضي (12 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري) هي جزئية، إلا أن طابعها الاقتصادي يساعد في إخراج هذا البلد العربي الأفريقي من أزمته، وهو المثقل بعبء ديونٍ تنوف عن خمسين مليار دولار أميركي. وتسود الأوساط السودانية موجة من التفاؤل، بعد رفع العقوبات الاقتصادية التي كانت تعزل السودان عن التعاملات المالية، وعن حركة التجارة مع الخارج. ومَردّ التفاؤل هو الشعور بأن الخروج من العزلة قد بدأ، وأن الانفراج الاقتصادي لا بد أن ينعكس انفراجا سياسيا بصورة تدريجية. وكان مثيرا للاهتمام والدهشة معاً أن العقوبات الاقتصادية قد رُفعت، بسبب تحسن ملف السودان في مكافحة الإرهاب، وقضايا حقوق الإنسان، لكن التصنيف الأميركي لهذا البلد بقي دولة ترعى الإرهاب، إضافة إلى بقاء العقوبات المتعلقة بإقليم دارفور.
ويعود فرض العقوبات إلى نحو ثلاثة عقود، هي تقريبا فترة حكم جبهة الإنقاذ منذ العام 1989، والجمهوريون المتشدّدون في واشنطن (عهد رونالد ريغان)، ومنذ قدّم النظام نفسه نظاما إسلاميا متحالفا مع المؤتمر الشعبي الإسلامي بقيادة الراحل حسن الترابي، ثم العلاقات التي نسجتها الخرطوم مع حركات إسلامية، وبالذات الجهاد الإسلامي وحماس وحزب الله، وإيواء أسامة بن لادن فترة. وقد تعرّض السودان إلى اعتداءات إسرائيلية، كما عانى طويلا من تمرد الجنوب ودارفور، وأخيرا ما سُمّي نزاع المنطقتين (جنوب كردفان والنيل الأزرق)، إلى أن عانى من فقدان سبعين بالمئة من موارده النفطية مع انفصال الجنوب، وقيام دولة مستقلة هناك. وقد بدأ هذا البلد بمراجعة سياسته، منذ أواخر العام 2001، بعد اعتداءات "11 سبتمبر" في الولايات المتحدة، واتخذ خطا متعرجاً، كان من بين مظاهره فك ارتباط الحكم بالحليف الترابي والتضييق عليه، وتقليص العلاقات مع الحركات الإسلامية، ومغادرة بن لادن الخرطوم، والاندراج في حملة مكافحة الإرهاب الدولية، والتي لم تتوقف حتى أيام الناس هذه، وصولا إلى قطع العلاقات مع إيران مطلع العام 2016، بعد النشاط المذهبي الذي قامت به
السفارة الإيرانية، وإغلاق مراكز "ثقافية "إيرانية في الخرطوم قبل ذلك بعامين، ثم انضمام السودان إلى "التحالف العربي" في حرب عاصفة الحزم ضد الانقلابيين في اليمن، وذلك لموازنة استمرار الفتور القائم مع القاهرة في ضوء مشكلة منطقة حلايب، المتنازع عليها بين البلدين. بينما احتفظت الخرطوم بموقفٍ ينأى بالنفس عن صراعات المنطقة، وبالذات في ليبيا والعراق، أملاً بتحسين موقعه في النظام العربي الرسمي.. وفي وقت يشهد فيه هذا "النظام العربي" تفككاً لا سابق له.
وكان من اللافت أن أصواتاً رسمية صدرت، أخيرا، من السودان، تحبذ التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وقد حرصت الحكومة على النأي عنها، من دون أن تتخذ إجراءات بحق أصحابها، فيما لم تلاق هذه الأصوات تجاوبا معها، أو تأييداً يُذكر لها.
وفي واقع الأمر، تضافرت عزلة السودان الدولية للسودان مع ما يشبه عزلةً مديدة عن العالم العربي، على الرغم من بقاء السودان حاضرا على المستوى الرسمي العربي (جامعة الدول العربية، والقمم الدورية). وباستثناء استثماراتٍ عربيةٍ قليلة في مجال الزراعة، واستقبال طلبة عرب للدراسة في جامعتها، فقد ظلت الخرطوم بعيدةً عن الأنشطة العربية، السياحية والرياضية والثقافية، وعن مجال الاتصالات المتنامي. وبدت حركة الحياة فيها شبه غائبة عن الإعلام العربي منذ سبعينات القرن الماضي، باستثناء أخبارٍ ذات طابع سلبي، تتعلق بالمواجهات العسكرية ونزوح الأهالي وفيضانات النيل وسجالات الحكم والمعارضة، فيما شهد هذا البلد، في الأثناء، وما زال، نزفاً لموارده البشرية بالهجرة المضطردة للسودانيين إلى دول الخليج، وإلى قارات العالم الست.
ومع ارتفاع معنويات السودانيين، ولهم الحق في ذلك، بعد رفع العقوبات الاقتصادية، فإن الحكم في السودان، وكذلك المعارضة، مدعوان إلى اهتبال هذا الظرف الإيجابي، لتحقيق انفراجات داخلية ملموسة، تسهم في تنشيط التنمية الاقتصادية والسياسية، وتدارك ما فات من فرص، وهو ما يتطلب نزع الطابع الأيديولوجي المتأسلم عن الحكم، وتلاقي المعارضة والحكم على الإقرار بشرعية الحكم بإجراء إصلاحات سياسية، تبدأ بوقف التضييقات على المطبوعات، وإنهاء ظاهرة الرقيب المقيم في الصحف، والإغلاق الروتيني للمطبوعات، وسوق معارضين إلى السجون، مرورا بإجراء ما يلزم من تعديلاتٍ على قوانين الأحزاب والانتخاب، وباحترام الحريات الفردية والعامة، بما فيها الحريات الدينية (لوضع حد لاتهامات أميركية باضطهاد المسيحيين في هذا البلد، وقبل ذلك لضمان الحقوق الأساسية لهؤلاء المواطنين، وهم جزء أصيل من النسيج الاجتماعي).
ذلك كله وغيره على جانب من الأهمية، لوقف ظاهرة التنازع على الشرعية بين المعارضة والحكم، ولتوسيع مجالات الحياة للمواطنين، وجذب الاستثمارات العربية والأجنبية، وقبل ذلك جذب المستثمرين السودانيين المغتربين إلى وطنهم، وصولاً إلى تحسين صورة السودان، وجعلها صورة جاذبة لأبنائه، ولبقية شعوب العالم ودوله. فالسودان بلد شاسع، وغني بموارده الطبيعية والبشرية، ومن الواجب خلال ذلك عدم إبقاء جرح دارفور ومناطق أخرى نازفا، وهو ما يتطلب أن تؤدي المعارضة دورا ملموسا في السعي إلى إنهاء هذه النزاعات، ووضع حلول تنموية ولامركزية شافية لها، ووقف تغذية دولة جنوب السودان، وربما دول مجاورة أخرى، مثل أوغندا، تلك الأزمة.
ولئن كانت العقوبات قد بقيت أمدا طويلا جزءا من تاريخ البلد، فلا شك أن النزاعات الداخلية كانت، وما زالت، جزءا من واقع الحياة فيه. وقد آن الأوان لإبرام ميثاق وطني جامع يضع خريطة طريق واقعية "قابلة للتنفيذ" لمعالجة تلك الأزمات، ولتحديث الدولة وعصرنتها، ورعايتها جميع المواطنين والمناطق بغير تمييز، وليس رعاية الأزمات والصراعات إلى الأبد، ولكأن هذه وتلك جزء من طبيعة الحياة ومنطق الأمور!
ويعود فرض العقوبات إلى نحو ثلاثة عقود، هي تقريبا فترة حكم جبهة الإنقاذ منذ العام 1989، والجمهوريون المتشدّدون في واشنطن (عهد رونالد ريغان)، ومنذ قدّم النظام نفسه نظاما إسلاميا متحالفا مع المؤتمر الشعبي الإسلامي بقيادة الراحل حسن الترابي، ثم العلاقات التي نسجتها الخرطوم مع حركات إسلامية، وبالذات الجهاد الإسلامي وحماس وحزب الله، وإيواء أسامة بن لادن فترة. وقد تعرّض السودان إلى اعتداءات إسرائيلية، كما عانى طويلا من تمرد الجنوب ودارفور، وأخيرا ما سُمّي نزاع المنطقتين (جنوب كردفان والنيل الأزرق)، إلى أن عانى من فقدان سبعين بالمئة من موارده النفطية مع انفصال الجنوب، وقيام دولة مستقلة هناك. وقد بدأ هذا البلد بمراجعة سياسته، منذ أواخر العام 2001، بعد اعتداءات "11 سبتمبر" في الولايات المتحدة، واتخذ خطا متعرجاً، كان من بين مظاهره فك ارتباط الحكم بالحليف الترابي والتضييق عليه، وتقليص العلاقات مع الحركات الإسلامية، ومغادرة بن لادن الخرطوم، والاندراج في حملة مكافحة الإرهاب الدولية، والتي لم تتوقف حتى أيام الناس هذه، وصولا إلى قطع العلاقات مع إيران مطلع العام 2016، بعد النشاط المذهبي الذي قامت به
وكان من اللافت أن أصواتاً رسمية صدرت، أخيرا، من السودان، تحبذ التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وقد حرصت الحكومة على النأي عنها، من دون أن تتخذ إجراءات بحق أصحابها، فيما لم تلاق هذه الأصوات تجاوبا معها، أو تأييداً يُذكر لها.
وفي واقع الأمر، تضافرت عزلة السودان الدولية للسودان مع ما يشبه عزلةً مديدة عن العالم العربي، على الرغم من بقاء السودان حاضرا على المستوى الرسمي العربي (جامعة الدول العربية، والقمم الدورية). وباستثناء استثماراتٍ عربيةٍ قليلة في مجال الزراعة، واستقبال طلبة عرب للدراسة في جامعتها، فقد ظلت الخرطوم بعيدةً عن الأنشطة العربية، السياحية والرياضية والثقافية، وعن مجال الاتصالات المتنامي. وبدت حركة الحياة فيها شبه غائبة عن الإعلام العربي منذ سبعينات القرن الماضي، باستثناء أخبارٍ ذات طابع سلبي، تتعلق بالمواجهات العسكرية ونزوح الأهالي وفيضانات النيل وسجالات الحكم والمعارضة، فيما شهد هذا البلد، في الأثناء، وما زال، نزفاً لموارده البشرية بالهجرة المضطردة للسودانيين إلى دول الخليج، وإلى قارات العالم الست.
ومع ارتفاع معنويات السودانيين، ولهم الحق في ذلك، بعد رفع العقوبات الاقتصادية، فإن الحكم في السودان، وكذلك المعارضة، مدعوان إلى اهتبال هذا الظرف الإيجابي، لتحقيق انفراجات داخلية ملموسة، تسهم في تنشيط التنمية الاقتصادية والسياسية، وتدارك ما فات من فرص، وهو ما يتطلب نزع الطابع الأيديولوجي المتأسلم عن الحكم، وتلاقي المعارضة والحكم على الإقرار بشرعية الحكم بإجراء إصلاحات سياسية، تبدأ بوقف التضييقات على المطبوعات، وإنهاء ظاهرة الرقيب المقيم في الصحف، والإغلاق الروتيني للمطبوعات، وسوق معارضين إلى السجون، مرورا بإجراء ما يلزم من تعديلاتٍ على قوانين الأحزاب والانتخاب، وباحترام الحريات الفردية والعامة، بما فيها الحريات الدينية (لوضع حد لاتهامات أميركية باضطهاد المسيحيين في هذا البلد، وقبل ذلك لضمان الحقوق الأساسية لهؤلاء المواطنين، وهم جزء أصيل من النسيج الاجتماعي).
ذلك كله وغيره على جانب من الأهمية، لوقف ظاهرة التنازع على الشرعية بين المعارضة والحكم، ولتوسيع مجالات الحياة للمواطنين، وجذب الاستثمارات العربية والأجنبية، وقبل ذلك جذب المستثمرين السودانيين المغتربين إلى وطنهم، وصولاً إلى تحسين صورة السودان، وجعلها صورة جاذبة لأبنائه، ولبقية شعوب العالم ودوله. فالسودان بلد شاسع، وغني بموارده الطبيعية والبشرية، ومن الواجب خلال ذلك عدم إبقاء جرح دارفور ومناطق أخرى نازفا، وهو ما يتطلب أن تؤدي المعارضة دورا ملموسا في السعي إلى إنهاء هذه النزاعات، ووضع حلول تنموية ولامركزية شافية لها، ووقف تغذية دولة جنوب السودان، وربما دول مجاورة أخرى، مثل أوغندا، تلك الأزمة.
ولئن كانت العقوبات قد بقيت أمدا طويلا جزءا من تاريخ البلد، فلا شك أن النزاعات الداخلية كانت، وما زالت، جزءا من واقع الحياة فيه. وقد آن الأوان لإبرام ميثاق وطني جامع يضع خريطة طريق واقعية "قابلة للتنفيذ" لمعالجة تلك الأزمات، ولتحديث الدولة وعصرنتها، ورعايتها جميع المواطنين والمناطق بغير تمييز، وليس رعاية الأزمات والصراعات إلى الأبد، ولكأن هذه وتلك جزء من طبيعة الحياة ومنطق الأمور!