25 فبراير 2022
انتخابات يونسكو.. لماذا فشل المرشحون العرب؟
أكتب هنا تعليقاً سريعاً، ساخناً، على نتائج انتخابات منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو)؛ وسأتحاشى، ما أمكن لي التحاشي، الوقوع في مطب الإجابات السهلة، بما هي نوع من "الخديعة" والإغواء في آن. نوع من الخديعة لأنها تملؤك بمشاعر المتيقن من معرفته، فتحجب فيك قدرتك على المساءلة، وعلى الرؤية، بالضرورة.
أول ما يتبادر إلى ذهني هو إثارة تساؤل يفيدُ السعي إلى الإجابة عليه في تقديم معرفة غير مُخاتلة، أي معرفةٍ لا تعطيك الانطباع المخادع في أنك تعرف بينما أنت في الحقيقة غارق في وهم المعرفة، أي في الجهل. والسؤال هو: لماذا أو كيف وصلت أودري أزولاي إلى منصب المدير العام لمنظمة يونسكو، من دون الثمانية الآخرين جميعهم، بلا استثناء؟
ينتابني إحساسٌ بأن التاريخ يتكرّر هنا، وليس بالضرورة على شكل مسخرة. ففي المرات الثلاث التي قيل فيها بكثافة مُلفتة للنظر إن المرشح العربي هو الأوفر حظاً للفوز بالمنصب، وإنه من شبه المؤكد أنه سيكون هو نفسه المدير العام القادم، تتكشف النتائج الفعلية إن الحسابات كانت تعوزها الدقة، وأن الرغبة هي التي تتسيّد عليها من غير لبس. فقد فازت البلغارية إيرينا بوكوفا (المديرة الحالية) في العام 2009، مع أن أحداً لم يكن يتوقعُ فوزها على مرشح العرب، المصري فاروق حسني، والذي قيل يومها إنه الأوفر حظاً والأجدر بالمنصب من بين المرشحين الآخرين قاطبة.
في هذه المرة كذلك، فاز بمنصب المدير العام ليونسكو من لم يكن يحظى، في توقعات العرب على وجه الخصوص، بمكانة مرجّحة. فقد جاءت بوكوفا "من بعيد"، و"انتزعت" المنصب من فاروق حسني، الذي لجأ، كما يجري حالياً لدى بعضهم، إلى نظرية المؤامرة لتفسير الفشل. الأمر نفسه حدث في المرة التي سبقتها (في 1999). فقد خطف الياباني كويشيرو ماتسوورا المنصب من المرشح الذي كان العرب يؤكدون فوزه، فضلاً عن جدارته، السعودي الراحل غازي القصيبي.
التفسير السهل يُرجع السبب إلى الشقاق العربي: تعدّد مرشحي العرب أودى بحظوظهم. ولكن هذا التفسير لا يستقيم فضلاً عن أنه مضلل. فالسيدة إيرينا بوكوفا فازت بالمنصب مع أن مُترشّحين اثنين من مجموعتها الانتخابية نافساها على المنصب، في حين أن فاروق حسني كان مرشح العرب الوحيد، وانسحب لصالحه مرشحو المغرب وعُمان واليمن، ومع ذلك فشل.
والحقيقة أن تعدد المرشحين ليس بالضرورة لعنةً تمس "كبار" المرشحين. ولا يفشل المرشحون لأنهم يفترسون أصوات بعضهم أو يهتلكونها، بل لأن عوامل عدة تلعب لصالح المرشح الأوفر حظاً منهم. ولأن الانتخاب يبدأ في الجولة الأولى اختياراً، ويتحول إلى استبعاد منذ الجولة الثانية و/أو الثالثة: استبعاد المرشح الذي لا تريد أن يصل. فوز الفرنسية يفسره أن الجولات الثلاث، وخصوصاً الرابعة والخامسة والأخيرة، تحولت إلى جولات استبعاد. والسؤال الجدير بالطرح: لماذا استُبعد الآخرون كلهم، بمن فيهم المرشحة المصرية والمرشح القطري؟ نظرية المؤامرة لا تفيد هنا.
أتوخّى تحاشي إثارة سؤال راج في الآونة الأخيرة (يتكرر بكثافة منذ عشرات السنين): لماذا فشل العرب في تبوؤ منصب المدير العام ليونسكو؟ أقول "تحاشي"، لأن السؤال مُخادعٌ ولا يوصل إلى معرفة، فهو يفترض أولاً تماهياً بين المترشحين للمنصب وأمتهم العربية جمعاء. ولأنه يُسهم ثانياً وبالتالي في تعزيز جملة متراكبة من الأوهام، بخصوص هذا المنصب، كما بخصوص سواه من المناصب الدولية المرموقة. ولأن السؤال "سهل" أي مبسّط، وبالضرورة مضلل، فهو يوجه النظر نحو أجوبة مضللة بالضرورة كذلك (أي تحجب الرؤية): عجز العرب، فشل العرب، فرقة العرب.. إلخ. أي باختصار الوقوع في محظور لوم الذات "العربية" التي يقولون إنها لا تعرف التوحيد والعمل المشترك، .. إلخ، وغير ذلك من التعبيرات التي تملأ قاموس العنصريين. وينسى القائلون بمثل هذا القول إن الذي فشل ليست الأمة العربية؛ ولم يتعلق الانتخاب بممثل عن الأمة العربية. جرى الانتخاب بين مرشحين يمثلون كلهم دولاً. والدولة كما نعرفُ لا جنسية لها، ولا دين أو مذهب. الدولة هي ذلك الغول، أو الوثن الأكثر نفاقاً وكذباً من دون العالمين. تقول شيئاً وتفعل شيئاً آخر. ثم إن تعارض المصالح بين الدول شأن طبيعي، علينا التعامل معه من حيث هو كذلك. أما استنكاره وافتراض أنه خاصية عربية فيقود، بالضرورة، إلى نوعٍ مقلوبٍ من العنصرية، تؤصّل الشعورَ بالدونية الذي يُعشش في النفوس ويملأ الفضاء.
نعود إلى السؤال: كيف فازت السيدة أزولاي مع أن أحداً (من العرب) ما كان يُرجح فوزها؟ لا تفسير قاطعاً أو نهائياً لدي، فلو كان ذلك ممكناً، أي المعرفة اليقينية بأسباب النجاح والفشل، لكان التحكّم بنتائج الانتخابات سلفاً ممكنا كذلك. لكن الانتخابات هذه، مثل غيرها من الانتخابات، برهنت، من غير لَبس، تعذّر ذلك.
لماذا خسر القطري حمد بن عبد العزيز الكواري وفازت الفرنسية أودري أزولاي بمنصب المدير العام ليونسكو؟ هذا سؤال مضلل آخر. فالسيدة أزولاي لم تفز، في واقع الأمر، على
الكواري؛ بل على المرشحين الثمانية الآخرين جميعهم، بمن فيهم الكواري، فقد حافظت في الجولات كلها على المركز الثاني (باستثناء الجولة الثالثة التي تساوت فيها مع الكواري بـ 18 صوتاً)، قبل أن تتفوق، أي تُبعد المصريةَ السفيرة مشيرة خطاب، ثم القطريَ حمد بن عبد العزيز الكواري.
أنظرُ شخصياً إلى التعلق الشديد الذي يُظهره بعضهم بأمر منصب المدير العام ليونسكو (وليس بيونسكو نفسها، فهذه تتعامل دولنا معها باستخفافٍ مُريب) على أنه يتكّشف أولاً عن أزمة تتصل على الأرجح بالعرب أنفسهم، وبموقعهم المتقهقر في عالم اليوم. فكثيرٌ مما يُقالُ بهذا الخصوص يشفُّ عن تفكير رَغَبي، أُسّه افتراض أن شغل عربيٍّ المنصب يشكّلُ إنجازاً للعرب، وانتصاراً لهم في هذا الزمنِ الوعر، حيث الانتصارات تُفتقد، والخيبات والمُحبِطات تتراكم. ولكن هذا لا يصمد أمام أي تحليل جدي، لا مجال لسبْره والتفصيل فيه هنا.
أول ما يتبادر إلى ذهني هو إثارة تساؤل يفيدُ السعي إلى الإجابة عليه في تقديم معرفة غير مُخاتلة، أي معرفةٍ لا تعطيك الانطباع المخادع في أنك تعرف بينما أنت في الحقيقة غارق في وهم المعرفة، أي في الجهل. والسؤال هو: لماذا أو كيف وصلت أودري أزولاي إلى منصب المدير العام لمنظمة يونسكو، من دون الثمانية الآخرين جميعهم، بلا استثناء؟
ينتابني إحساسٌ بأن التاريخ يتكرّر هنا، وليس بالضرورة على شكل مسخرة. ففي المرات الثلاث التي قيل فيها بكثافة مُلفتة للنظر إن المرشح العربي هو الأوفر حظاً للفوز بالمنصب، وإنه من شبه المؤكد أنه سيكون هو نفسه المدير العام القادم، تتكشف النتائج الفعلية إن الحسابات كانت تعوزها الدقة، وأن الرغبة هي التي تتسيّد عليها من غير لبس. فقد فازت البلغارية إيرينا بوكوفا (المديرة الحالية) في العام 2009، مع أن أحداً لم يكن يتوقعُ فوزها على مرشح العرب، المصري فاروق حسني، والذي قيل يومها إنه الأوفر حظاً والأجدر بالمنصب من بين المرشحين الآخرين قاطبة.
في هذه المرة كذلك، فاز بمنصب المدير العام ليونسكو من لم يكن يحظى، في توقعات العرب على وجه الخصوص، بمكانة مرجّحة. فقد جاءت بوكوفا "من بعيد"، و"انتزعت" المنصب من فاروق حسني، الذي لجأ، كما يجري حالياً لدى بعضهم، إلى نظرية المؤامرة لتفسير الفشل. الأمر نفسه حدث في المرة التي سبقتها (في 1999). فقد خطف الياباني كويشيرو ماتسوورا المنصب من المرشح الذي كان العرب يؤكدون فوزه، فضلاً عن جدارته، السعودي الراحل غازي القصيبي.
التفسير السهل يُرجع السبب إلى الشقاق العربي: تعدّد مرشحي العرب أودى بحظوظهم. ولكن هذا التفسير لا يستقيم فضلاً عن أنه مضلل. فالسيدة إيرينا بوكوفا فازت بالمنصب مع أن مُترشّحين اثنين من مجموعتها الانتخابية نافساها على المنصب، في حين أن فاروق حسني كان مرشح العرب الوحيد، وانسحب لصالحه مرشحو المغرب وعُمان واليمن، ومع ذلك فشل.
والحقيقة أن تعدد المرشحين ليس بالضرورة لعنةً تمس "كبار" المرشحين. ولا يفشل المرشحون لأنهم يفترسون أصوات بعضهم أو يهتلكونها، بل لأن عوامل عدة تلعب لصالح المرشح الأوفر حظاً منهم. ولأن الانتخاب يبدأ في الجولة الأولى اختياراً، ويتحول إلى استبعاد منذ الجولة الثانية و/أو الثالثة: استبعاد المرشح الذي لا تريد أن يصل. فوز الفرنسية يفسره أن الجولات الثلاث، وخصوصاً الرابعة والخامسة والأخيرة، تحولت إلى جولات استبعاد. والسؤال الجدير بالطرح: لماذا استُبعد الآخرون كلهم، بمن فيهم المرشحة المصرية والمرشح القطري؟ نظرية المؤامرة لا تفيد هنا.
أتوخّى تحاشي إثارة سؤال راج في الآونة الأخيرة (يتكرر بكثافة منذ عشرات السنين): لماذا فشل العرب في تبوؤ منصب المدير العام ليونسكو؟ أقول "تحاشي"، لأن السؤال مُخادعٌ ولا يوصل إلى معرفة، فهو يفترض أولاً تماهياً بين المترشحين للمنصب وأمتهم العربية جمعاء. ولأنه يُسهم ثانياً وبالتالي في تعزيز جملة متراكبة من الأوهام، بخصوص هذا المنصب، كما بخصوص سواه من المناصب الدولية المرموقة. ولأن السؤال "سهل" أي مبسّط، وبالضرورة مضلل، فهو يوجه النظر نحو أجوبة مضللة بالضرورة كذلك (أي تحجب الرؤية): عجز العرب، فشل العرب، فرقة العرب.. إلخ. أي باختصار الوقوع في محظور لوم الذات "العربية" التي يقولون إنها لا تعرف التوحيد والعمل المشترك، .. إلخ، وغير ذلك من التعبيرات التي تملأ قاموس العنصريين. وينسى القائلون بمثل هذا القول إن الذي فشل ليست الأمة العربية؛ ولم يتعلق الانتخاب بممثل عن الأمة العربية. جرى الانتخاب بين مرشحين يمثلون كلهم دولاً. والدولة كما نعرفُ لا جنسية لها، ولا دين أو مذهب. الدولة هي ذلك الغول، أو الوثن الأكثر نفاقاً وكذباً من دون العالمين. تقول شيئاً وتفعل شيئاً آخر. ثم إن تعارض المصالح بين الدول شأن طبيعي، علينا التعامل معه من حيث هو كذلك. أما استنكاره وافتراض أنه خاصية عربية فيقود، بالضرورة، إلى نوعٍ مقلوبٍ من العنصرية، تؤصّل الشعورَ بالدونية الذي يُعشش في النفوس ويملأ الفضاء.
نعود إلى السؤال: كيف فازت السيدة أزولاي مع أن أحداً (من العرب) ما كان يُرجح فوزها؟ لا تفسير قاطعاً أو نهائياً لدي، فلو كان ذلك ممكناً، أي المعرفة اليقينية بأسباب النجاح والفشل، لكان التحكّم بنتائج الانتخابات سلفاً ممكنا كذلك. لكن الانتخابات هذه، مثل غيرها من الانتخابات، برهنت، من غير لَبس، تعذّر ذلك.
لماذا خسر القطري حمد بن عبد العزيز الكواري وفازت الفرنسية أودري أزولاي بمنصب المدير العام ليونسكو؟ هذا سؤال مضلل آخر. فالسيدة أزولاي لم تفز، في واقع الأمر، على
أنظرُ شخصياً إلى التعلق الشديد الذي يُظهره بعضهم بأمر منصب المدير العام ليونسكو (وليس بيونسكو نفسها، فهذه تتعامل دولنا معها باستخفافٍ مُريب) على أنه يتكّشف أولاً عن أزمة تتصل على الأرجح بالعرب أنفسهم، وبموقعهم المتقهقر في عالم اليوم. فكثيرٌ مما يُقالُ بهذا الخصوص يشفُّ عن تفكير رَغَبي، أُسّه افتراض أن شغل عربيٍّ المنصب يشكّلُ إنجازاً للعرب، وانتصاراً لهم في هذا الزمنِ الوعر، حيث الانتصارات تُفتقد، والخيبات والمُحبِطات تتراكم. ولكن هذا لا يصمد أمام أي تحليل جدي، لا مجال لسبْره والتفصيل فيه هنا.