04 نوفمبر 2024
اليونسكو بين السياسة والقيم
ما أن أعلنت الخارجية الأميركية قرار انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو)، حتى سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى الترحيب بالقرار، واصفا إياه بـ "الشجاع" و"الأخلاقي". ليصدر تعليماته لوزير خارجيته بالتحضير لانسحاب إسرائيل من المنظمة الأممية، بالتوازي مع الولايات المتحدة. أما الشجاعة والأخلاق، في مضمون الموقف الأميركي، فيرده نتنياهو إلى أن "اليونسكو" أصبحت "مسرحا للسخافة، وبدل أن تحافظ على التاريخ تقوم بتشويهه".
خلال 71 عاما، هو عمر المنظمة الدولية، صدرت قرارات عدة كانت في صالح الفلسطينيين وثقافتهم، لا سيما المتعلقة بالقدس والمدينة القديمة فيها، فواجهت "اليونسكو" ضغوطا واعتراضات أميركية وإسرائيلية مستمرة، تزايدت بشكل ملحوظ بعد أن استطاعت فلسطين في العام 2011 أن تصبح عضوا كاملا في المنظمة. وفي أول رد فعل لها، علّقت الولايات المتحدة الأميركية دفع مخصصاتها المالية لمنظمة اليونسكو (80 مليون دولار أو 20% من الموازنة). وبالنسبة لإسرائيل، بدت قرارات المنظمة في غير مرة، "سخيفة"، و"هرطقة" (التعبير لنتنياهو)، و"معادية للسامية". كما خفضت مساهمتها المالية المخصصة للمنظمة الأممية مرات، لتصل اليوم إلى 2.7 مليون دولار، بعد أن بلغت 11 مليونا.
ورأى مسؤولون إسرائيليون أن الفلسطينيين، عبر المنظمة "يحاولون إعادة كتابة التاريخ اليهودي وتاريخ المنطقة"، بل كانت "أعمال السمكرة " في منزل سفير إسرائيل لدى "اليونسكو"، كارميل هاكوهين، أهم بالنسبة له من أي قرار يصدر عن المنظمة. وفي العام 2013، وبعد تجميد حق الولايات المتحدة وإسرائيل في التصويت داخل "اليونسكو"، لعدم إيفائهما بالتزاماتهما المالية تجاه المنظمة، انتقد سفير إسرائيلي آخر، هو نمرود باركان، ما سماه تسييس "اليونسكو"، بضم دولة غير موجودة، ما يحوّل المنظمة من "منظمة للعلم إلى منظمة للخيال العلمي"
بعد نيلها العضوية الكاملة، نشطت الدبلوماسية الفلسطينية من خلال "اليونسكو"، وتوالت القرارات في صالح القضية الفلسطينية، ثقافة وتاريخا وجغرافيا. صحيح أن قرارات هذه المنظمة المعنية بالثقافة والتربية والعلوم ليست ملزمة، وقد لا تغير في الوضع الراهن الوقائع على الأرض، لكنه في الوقت الذي تمضي فيه إسرائيل في تغيير معالم الجغرافيا لتزوير حقائق التاريخ، يسعى الفلسطينيون إلى توثيق حقهم في الأرض، والثقافة، عبر جهاز قانوني على المستوى الدولي. وكان من جديد تلك القرارات إدراج الخليل على لائحة التراث العالمي، ووصف القرار المدينة بالإسلامية.
لا يمكن تجاهل أن قرار الانسحاب الأميركي من "اليونسكو" يأتي تنفيذا لقانون سنّه الكونغرس، مطلع التسعينيات، يحظر تمويل وكالة متخصصة في الأمم المتحدة تقبل فلسطين دولة كاملة العضوية. تعرّض القانون لانتقادات، لا سيما في 2013، حيث رأت المستشارة الأميركية، سوزان رايس، أن من "المخجل" حسب قولها "أن تفقد الولايات المتحدة حق التصويت في اليونسكو"، واصفة القانون بأنه "لا يعاقب الفلسطينيين بل يعاقب الولايات المتحدة". ولم تكن قرارات الكونغرس، عموما، تتعارض دائما مع سياسة أميركية عامة، حكمها النمط الاستبعادي للأمم المتحدة ومنظماتها وأجهزتها، أو منحت المنظمة، في أحسن الأحوال، مشاركة محسوبة لا تتعارض مع مصالح أميركا وحلفائها. ولم تتردّد الولايات المتحدة عن الانسحاب من "اليونسكو" في العام 1984، حين لمست تعارضا بين أهداف المنظمة والسياسة الأميركية الخارجية، تبعتها في خطوة مماثلة حليفتها بريطانيا.
حاول أمادو مختار أمبو، الأفريقي الذي تولى منصب المدير العام في "اليونسكو" بين 1974و1987، تعزيز المساواة بين دول العالم، وترسيخ الاحترام العالمي للعدالة، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان، ومبادئ الحريات الأساسية، وقاد سياسة مناهضة للهيمنة الثقافية الأميركية، ولمحاولاتها إحكام سيطرتها على "اليونسكو"، وكان أمبو من أشد المتحمسين لتقرير لجنة ماكبرايد التي دعت إلى إقرار نظام دولي عادل ومتوازن في الإعلام والاتصال، يقوم على الاستقلال الثقافي، وحق الاختلاف والتعبير، والذي أقرته "اليونسكو" في العام 1980. عارضت إدارة رونالد ريغان في حينه التقرير، لتعلن انسحابها لاحقا من المنظمة. وفي رسالته إلى المدير العام لـ"اليونسكو" لعرض مبرّرات الانسحاب، عبّر وزير الخارجية الأميركي، جورج شولتز، عن قلق بلاده إزاء جوانب أيدولوجية حادت باليونسكو عن المبادئ الأصلية لميثاقها التأسيسي. لكن رد أمبو أكد أن قرارات المنظمة تتم دائما وفقا للمعايير التي حددها ميثاقها، إلا أن نهاية حقبة الاستعمار، وممارسة الشعوب التي حازت استقلالها حديثا لدورها في الحياة الدولية، أدى إلى تطور الشواغل المباشرة للمنظمة.
ومما له دلالة أن الولايات المتحدة لم تعد إلى اليونسكو إلا مع إدارة جورج بوش الابن في العام 2003، في غمرة حرب المحافظين الجدد على "الإرهاب"، والسعي إلى السيطرة على المنظمات الدولية، وأجهزة الأمم المتحدة، والزج بها في نمط من المشاركة المحسوبة.
وخلال 19 عاما من الغياب الأميركي عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم، وجدت فرنسا فرصة لتدعيم الفرانكوفونية، وتكريس لغتها الوطنية في أروقة المنظمة، إذ طالما لعب المتغير الثقافي دوره في العلاقات الأميركية الفرنسية. ولا يبدو أن فرنسا اليوم، وهي تحتضن مقر المنظمة في باريس، وتتولى رئاستها، مستاءة من الانسحاب الأميركي. أما الصين (كما فعلت اليابان إبان الانسحاب الأميركي الأول)، فبدت مستعدة لتعويض الـ 80 مليون دولار الأميركية.
قد لا توجد ثقافة محايدة، لكن الانحياز الثقافي للحق، وحتى المنافسة الثقافية، لا يعني بالضرورة تسييسا، طالما التزمت هذه المنافسة بالمعايير الأخلاقية، بعيدا عن السيطرة والهيمنة ومصادرة حق الشعوب في تقرير مصيرها، بل يكمن كل التسييس في الموقفين، الأميركي والإسرائيلي، وإدارة ظهرهما للإرادة الدولية، إذ أن انسحابهما في نهاية المطاف ليس انسحابا
من المنظمة ودوائرها، بل تنصلا من مبادئ تلك المنظمة الدولية وأهدافها، هنا ينتهي تسييس المواقف من "اليونسكو" موقفا لا أخلاقيا.
ومع انتهاء الجولة الخامسة من المنافسة على منصب المدير العام لـ "يونسكو"، فازت وزيرة الثقافة الفرنسية في حكومة فرانسوا هولاند السابقة أودريه أوزلاي (من أصول يهودية مغربية، وابنة مستشار ملك المغرب) بالمنصب، ومع أن الأمور حسمت، إلا أنه لا يمكن القفز عن موقف مصري، شنّ حملة تشهير واتهام بحق مرشح قطر، حمد بن عبد العزيز الكواري، مقدما، بعد خسارة مرشحه، الدعم للمرشحة الفرنسية في سبيل خسارة مرشح عربي آخر (بفارق صوتين).
سارع إعلامي مصري إلى اعتبار فوز السيدة أوزلاي بمثابة انتصار لقيم "اليونسكو" الأصيلة على "المال الفاسد"، متجاهلا أن ترشح أوزلاي، في حد ذاته، أثار موجة انتقادات سياسية وثقافية، لكونه يتعارض مع قاعدة أخلاقية، باتت إحدى القيم الأصيلة للمنظمة الدولية، وتمنع دولة تحتضن مقر منظمة دولية أن تقدّم مرشحا لإدارتها. الموقفان الفرنسي والمصري، تسييس للمواقف داخل "اليونسكو"، ينتهيان إلى ما انتهى إليه قبلهما الموقفان الأميركي والإسرائيلي، موقفا لا أخلاقيا، وأبعد ما يكون عن "القيم الأصيلة التي حافظت عليها "اليونسكو"، خلافا لما توحيه ادعاءات الإعلامي المصري.
خلال 71 عاما، هو عمر المنظمة الدولية، صدرت قرارات عدة كانت في صالح الفلسطينيين وثقافتهم، لا سيما المتعلقة بالقدس والمدينة القديمة فيها، فواجهت "اليونسكو" ضغوطا واعتراضات أميركية وإسرائيلية مستمرة، تزايدت بشكل ملحوظ بعد أن استطاعت فلسطين في العام 2011 أن تصبح عضوا كاملا في المنظمة. وفي أول رد فعل لها، علّقت الولايات المتحدة الأميركية دفع مخصصاتها المالية لمنظمة اليونسكو (80 مليون دولار أو 20% من الموازنة). وبالنسبة لإسرائيل، بدت قرارات المنظمة في غير مرة، "سخيفة"، و"هرطقة" (التعبير لنتنياهو)، و"معادية للسامية". كما خفضت مساهمتها المالية المخصصة للمنظمة الأممية مرات، لتصل اليوم إلى 2.7 مليون دولار، بعد أن بلغت 11 مليونا.
ورأى مسؤولون إسرائيليون أن الفلسطينيين، عبر المنظمة "يحاولون إعادة كتابة التاريخ اليهودي وتاريخ المنطقة"، بل كانت "أعمال السمكرة " في منزل سفير إسرائيل لدى "اليونسكو"، كارميل هاكوهين، أهم بالنسبة له من أي قرار يصدر عن المنظمة. وفي العام 2013، وبعد تجميد حق الولايات المتحدة وإسرائيل في التصويت داخل "اليونسكو"، لعدم إيفائهما بالتزاماتهما المالية تجاه المنظمة، انتقد سفير إسرائيلي آخر، هو نمرود باركان، ما سماه تسييس "اليونسكو"، بضم دولة غير موجودة، ما يحوّل المنظمة من "منظمة للعلم إلى منظمة للخيال العلمي"
بعد نيلها العضوية الكاملة، نشطت الدبلوماسية الفلسطينية من خلال "اليونسكو"، وتوالت القرارات في صالح القضية الفلسطينية، ثقافة وتاريخا وجغرافيا. صحيح أن قرارات هذه المنظمة المعنية بالثقافة والتربية والعلوم ليست ملزمة، وقد لا تغير في الوضع الراهن الوقائع على الأرض، لكنه في الوقت الذي تمضي فيه إسرائيل في تغيير معالم الجغرافيا لتزوير حقائق التاريخ، يسعى الفلسطينيون إلى توثيق حقهم في الأرض، والثقافة، عبر جهاز قانوني على المستوى الدولي. وكان من جديد تلك القرارات إدراج الخليل على لائحة التراث العالمي، ووصف القرار المدينة بالإسلامية.
لا يمكن تجاهل أن قرار الانسحاب الأميركي من "اليونسكو" يأتي تنفيذا لقانون سنّه الكونغرس، مطلع التسعينيات، يحظر تمويل وكالة متخصصة في الأمم المتحدة تقبل فلسطين دولة كاملة العضوية. تعرّض القانون لانتقادات، لا سيما في 2013، حيث رأت المستشارة الأميركية، سوزان رايس، أن من "المخجل" حسب قولها "أن تفقد الولايات المتحدة حق التصويت في اليونسكو"، واصفة القانون بأنه "لا يعاقب الفلسطينيين بل يعاقب الولايات المتحدة". ولم تكن قرارات الكونغرس، عموما، تتعارض دائما مع سياسة أميركية عامة، حكمها النمط الاستبعادي للأمم المتحدة ومنظماتها وأجهزتها، أو منحت المنظمة، في أحسن الأحوال، مشاركة محسوبة لا تتعارض مع مصالح أميركا وحلفائها. ولم تتردّد الولايات المتحدة عن الانسحاب من "اليونسكو" في العام 1984، حين لمست تعارضا بين أهداف المنظمة والسياسة الأميركية الخارجية، تبعتها في خطوة مماثلة حليفتها بريطانيا.
حاول أمادو مختار أمبو، الأفريقي الذي تولى منصب المدير العام في "اليونسكو" بين 1974و1987، تعزيز المساواة بين دول العالم، وترسيخ الاحترام العالمي للعدالة، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان، ومبادئ الحريات الأساسية، وقاد سياسة مناهضة للهيمنة الثقافية الأميركية، ولمحاولاتها إحكام سيطرتها على "اليونسكو"، وكان أمبو من أشد المتحمسين لتقرير لجنة ماكبرايد التي دعت إلى إقرار نظام دولي عادل ومتوازن في الإعلام والاتصال، يقوم على الاستقلال الثقافي، وحق الاختلاف والتعبير، والذي أقرته "اليونسكو" في العام 1980. عارضت إدارة رونالد ريغان في حينه التقرير، لتعلن انسحابها لاحقا من المنظمة. وفي رسالته إلى المدير العام لـ"اليونسكو" لعرض مبرّرات الانسحاب، عبّر وزير الخارجية الأميركي، جورج شولتز، عن قلق بلاده إزاء جوانب أيدولوجية حادت باليونسكو عن المبادئ الأصلية لميثاقها التأسيسي. لكن رد أمبو أكد أن قرارات المنظمة تتم دائما وفقا للمعايير التي حددها ميثاقها، إلا أن نهاية حقبة الاستعمار، وممارسة الشعوب التي حازت استقلالها حديثا لدورها في الحياة الدولية، أدى إلى تطور الشواغل المباشرة للمنظمة.
ومما له دلالة أن الولايات المتحدة لم تعد إلى اليونسكو إلا مع إدارة جورج بوش الابن في العام 2003، في غمرة حرب المحافظين الجدد على "الإرهاب"، والسعي إلى السيطرة على المنظمات الدولية، وأجهزة الأمم المتحدة، والزج بها في نمط من المشاركة المحسوبة.
وخلال 19 عاما من الغياب الأميركي عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم، وجدت فرنسا فرصة لتدعيم الفرانكوفونية، وتكريس لغتها الوطنية في أروقة المنظمة، إذ طالما لعب المتغير الثقافي دوره في العلاقات الأميركية الفرنسية. ولا يبدو أن فرنسا اليوم، وهي تحتضن مقر المنظمة في باريس، وتتولى رئاستها، مستاءة من الانسحاب الأميركي. أما الصين (كما فعلت اليابان إبان الانسحاب الأميركي الأول)، فبدت مستعدة لتعويض الـ 80 مليون دولار الأميركية.
قد لا توجد ثقافة محايدة، لكن الانحياز الثقافي للحق، وحتى المنافسة الثقافية، لا يعني بالضرورة تسييسا، طالما التزمت هذه المنافسة بالمعايير الأخلاقية، بعيدا عن السيطرة والهيمنة ومصادرة حق الشعوب في تقرير مصيرها، بل يكمن كل التسييس في الموقفين، الأميركي والإسرائيلي، وإدارة ظهرهما للإرادة الدولية، إذ أن انسحابهما في نهاية المطاف ليس انسحابا
ومع انتهاء الجولة الخامسة من المنافسة على منصب المدير العام لـ "يونسكو"، فازت وزيرة الثقافة الفرنسية في حكومة فرانسوا هولاند السابقة أودريه أوزلاي (من أصول يهودية مغربية، وابنة مستشار ملك المغرب) بالمنصب، ومع أن الأمور حسمت، إلا أنه لا يمكن القفز عن موقف مصري، شنّ حملة تشهير واتهام بحق مرشح قطر، حمد بن عبد العزيز الكواري، مقدما، بعد خسارة مرشحه، الدعم للمرشحة الفرنسية في سبيل خسارة مرشح عربي آخر (بفارق صوتين).
سارع إعلامي مصري إلى اعتبار فوز السيدة أوزلاي بمثابة انتصار لقيم "اليونسكو" الأصيلة على "المال الفاسد"، متجاهلا أن ترشح أوزلاي، في حد ذاته، أثار موجة انتقادات سياسية وثقافية، لكونه يتعارض مع قاعدة أخلاقية، باتت إحدى القيم الأصيلة للمنظمة الدولية، وتمنع دولة تحتضن مقر منظمة دولية أن تقدّم مرشحا لإدارتها. الموقفان الفرنسي والمصري، تسييس للمواقف داخل "اليونسكو"، ينتهيان إلى ما انتهى إليه قبلهما الموقفان الأميركي والإسرائيلي، موقفا لا أخلاقيا، وأبعد ما يكون عن "القيم الأصيلة التي حافظت عليها "اليونسكو"، خلافا لما توحيه ادعاءات الإعلامي المصري.