07 نوفمبر 2024
غيفارا.. أيقونة عابرة لصحراء الصور
القاهرة، عام 2002، يجذبني إعلان عن "سلسلة مطاعم تشي غيفارا". أروح إلى أقرب واحد منها، في حيّ المهندسين. داخل المطعم، الأضواء خافتة، توحي بأجواء العاشقين السريين. تتصدّره طاولة واطئة، عليها ذخائر فارغة وأسلحة فردية متنوّعة. وخلفها صفوفٌ من النراجيل (نرجيلة). على الجدران، حشدٌ من صور لغيفارا، منها الناردة، ومنها المعروفة، من دون إشارة إلى تاريخها، أو مناسبتها؛ تتوسط كل مجموعة منها شاشة تلفزيون كبيرة. على الطاولة، صورة غيفارا المعروفة، وعلى أسفلها كلمة له: "فأينما وُجد الظلم فذاك هو وطني". الزبائن من النساء كلهن شابات محجبات. أنا "السافرة" الوحيدة بينهن. والنادل يرتدي لباس الجبهة، مع القبعة الشهيرة التي تعلوها نجمة مذهبة، ومفرداته كلها إسلامية. منها تلك الـ"إن شاء الله"، الرائجة، المنصبّة على أفعال ماضية وحاضرة، من دون فرق. أسأل النادل عن أغنية "كومندنت تشي غيفارا" الشهيرة. يعتذر النادل، ويقول إنها موجودة، ولكن الزبائن "لا يحبونها". يفضّلون الأغاني الصادرة عن محطات الفيديو كليب، الأجنبية والعربية. يلفظ "أجنبية" باعتزاز. هكذا، أنتبه إلى أن الشاشات كلها شغّالة على تلك الأغاني..
هذه ليست نكتة. إنها واقع. بل أرذل الوقائع. فصورة غيفارا أصبحت مادة تسويقية بامتياز. تجدها على التيشرتات، على القبعات، على الماغات (mag)، على البوسترات التزيينية، بل في الكوكتيلات، الكحولية منها و"النظيفة"... المطعم القاهري، هو ربما أعلى درجات الاستهلاك للصورة الغيفارية. ولكن على الدرجة، أو "النوعية" المختلفة، تجد هذه الصورة أينما حلّت ذكرى، أو على حيطان غرف مراهقين متمرّدين، يبحثون عن صورةٍ ترشدهم في نزاعهم مع أهلهم. هنا تكتسب الصورة شيئاً من زخمها، وتُعاد بعض المعاني إليها.
وهي الآن استعادت حضورها، في الوسط الممانع، بمناسبة مرور نصف قرن على اغتيال غيفارا في أدغال بوليفيا على يد عملاء للمخابرات الأميركية. والكلمات المرفقة بهذه الاحتفالات تذكّر بالتفويت نفسه الذي يصيب المطعم القاهري. كلمات من عصر آخر، تحاول الإطباق على الصورة، أو مصادرتها. كلمات من نوع "ما زال غيفارا ملْهماً للملايين حول العالم"، أو "فقدان حركة التحرّر الوطني الشامل مثلها الأعلى"، أو "جعلت آلاف الثوريين يسيرون على خطاه" .. إلخ.
لماذا؟ لماذا هذه الحياة الطويلة لصورةٍ تخطّتها روح العصر؟ لماذا أصلاً صورة؟ وليست
أقوالا، أو كتابا، مثل "الكتاب الأحمر" الذي كانت ترفعه جماهير الصين الماوية؟ الصورة طبعاً صارت الآن أقوى من كل شيء؛ فنحن في أبهى عصورها. ولكن، لماذا غيفارا بالذات؟ ولماذا هذه الصورة بالذات؟ هل لأن غيفارا وسيم؟ فيديل كاسترو على الدرجة نفسها من الوسامة، بل الرجولة. ولكن كاسترو شاخَ، وشاعت صورته عشية تسعيناته، وقد فعل فيه الزمن ما يفعل بالذين لم يرحلوا باكراً. ثم لم يقتله أعداء، ولا تبهدل، بل تنعّم بانتصاره على أولئك الأعداء خير تنعّم. حسناً، لماذا هو، وليس سلفادور أليندي، رئيس تشيلي الاشتراكي، المنتخب ديموقراطياً في بداية السبعينات، والذي قضى بانقلاب عسكري، موّلته أيضا أجهزة المخابرات الأميركية؟ لأن أليندي، لم يكن شاباً، عندما التقطت صورته، عشية وفاته، الغامضة حتى الآن، ولا كان وسيماً على الإطلاق. بخدوده المترهّلة ونظارته الطبية السميكة المربَّعة، يشبه عالما غارقا في أبحاثه، أو بيروقراطيا نزيها، ولا نفحة رومنطيقية واحدة في صورته. ثم، لأنه لم يعتمد ربما "الكفاح المسلح إلى الأبد" ضد أعدائه.
أيضاً لماذا غيفارا وليس تروتسكي، الهارب، مثله، من طغيان موازين القوى، ومن رفيق دربه البلشفي، جوزيف ستالين.. تروتسكي الهارب إلى المكسيك. الوسيم بوجهه البيضاوي، المهنْدَس بذقن مثلّثة مشذّبة، وعيونه البارقة خلف النظارات الطبية الرقيقة الأنيقة التي أغرت الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو، فكانت عشيقته برهة. صورة تروتسكي لا تصلح أيقونة. ربما لأنه اغتيل بأمر من الرفيق الأعلى، ستالين، وليس من الأميركيين ومخابراتهم. وماذا عن الشاعر الروسي ماياكوفسكي، الوسيم هو أيضاً، الحاضر في صوره بقوة، من دون إضاءاتٍ ولا قبعةٍ ولا شعر متطاير.. وقد أفضت خيبته من النظام البولشفي، الذي أيّده بكل شعريته، إلى الانتحار؟
لائحة البدائل المفترضة لهذه الأيقونة الغيفارية تطول. ولكن يمكن فهم شيء من حظوظها في نظرة صاحبها إلى البعيد، في الظلال المحيطة بوجهه، والضوء النازل عليه، مثل هالة سماوية. شحوب وجهه، شبابه (عمره 32 عاما عندما التقطها المصور ألبيرتو كوردا)، حزن عينيه وغضبهما الهادئ، الواثق، تتطلعان إلى البعيد، تصبوان إلى الخلود. ثم شعره، جبينه، عشوائية ذقنه، والأهم من ذلك كله وسامته. ولمن يبحث عن تعميق، ولو قليلا، لمعنى الصورة، سوف يجد ما يستجيب لمزاج سياسي معين، لو كان من دعاة العمل الثوري الدائم، ومقاتلة الإمبريالية بالسلاح الفردي، ثم بعد ذلك الاستشهاد، وحيداً، من أجل القضية.
وهذا مختصر غير مفيد، يحجب مرحلةً من حياة غيفارا، ليست كلها "مجيدة": من أن غيفارا لم يكن قائداً ثورياً فذا أيام اشتراكه في حرب العصابات بقيادة كاسترو ضد باتيستا. ولا هو كان حاكماً ناجحاً بعدما حققت هذه الحرب هدفها بإزاحة باتيستا عام 1959. كان غيفارا النظير اللاتيني لصادق خلخالي، جلاّد الثورة الإسلامية الإيرانية: ينفذ أحكام إعدام بحق "معادين للثورة"، ويشيد بواجبه "الثوري" هذا؛ ثم بعد ذلك يفشل في إدارة المصرف الوطني الكوبي، وفي وزارة الصناعة التي ينتقل إليها، أو يُنقل، متولّياً حقيبتها. تجربة غير لامعة، غير جديرة بأيقونة، لم يُلقَ أي ضوء عليها، أو أُلقي ولم نعلم، لشدة حضور الأيقونة.. على أثر كل هذه الإخفاقات، يقرّر غيفارا الرحيل من كوبا، لكي يسهل عليه "الاستمرار بالثورة"؛ أولاً في الكونغو (أفريقيا)، حيث يلاحقه الفشل، ثم أخيراً في أدغال بوليفيا، حيث يُغتال بأمر الرئيس الأميركي وقتذاك، ريتشارد نيكسون.
فوق ذلك، كما في المطعم المصري، يقيم رئيس كوبا الحالي، راؤول كاسترو، شقيق فيديل
ووارثه، احتفالات في ذكرى اغتياله الخمسين، في سانتا كلارا، حيث يرقد جثمانه. يرفع صورة عملاقة له، هي نفسها الصورة الأيقونة، يلقي الخطاب عن "الثائر الكبير"... فلا ينتبه محبو غيفارا، أو صورته، أو العالمون بشيء من سيرته، إلى أن التوريث السياسي لم يكن أبداً من أسس تصوّره للحكم، فالأيقونة المرفوعة فوق رأس راؤول كاسترو، لو نطقت، لهرب صاحبها من الميدان.. والتلامذة والطلاب، خلف رئيسهم الثوري الوارث للجزيرة كلها، ينشدون الأغاني الثورية؛ وقد دأبوا منذ صغرهم، على أن يصدحوا بالقسم كل صباح قبل البدء بالدروس، من أنهم سيكونون "مثل التشي.. رواداً..".
هكذا، يُعامَل غيفارا معاملة القدّيسين. يحلف المؤمنون به بأنهم سيسيرون على خطاه، يرتِّلون له الأغاني، بحماسة منظمة، حول حبهم الإقدام، والشجاعة.. إلخ. وبذلك يتطهرون من آثام حياتهم العادية، التي ما زالت تحكمها قوانين ثورة عَتُقت، وفي ظلها يفعلون عكس ما أقسموا عليه. فالوقائع أقوى من ألف قسم، من ألف ميثاق.
بالأساس، الأيقونة هي صورة القدّيسين، في الكنيستين الأرثوذكسيتين، الروسية واليونانية. الأيقونة "الزمنية" لغيفارا، تشبه الدينية، الأقدم منها. صورة لقدّيس، يخالفون يوميا تعليماته، ويعودون فيتعبّدونها تكفيراً عن تلك المخالفة، كأنهم يطلبون منها الغفران؛ وذلك استمراراً في تغذية أوهامٍ ليس لها مجيب على الأرض. هذا عن كوبا، أو بعض أميركا اللاتينية على الأقل. أما في المجاهل، حيث نحن، ففوق الأوهام والتفويت، التسويق لكل أنواع المنتجات، مادة جاذبة للمراهقين، السياسيين منهم والعمْريين.. أيقونة "تقدمية" تتعايش مع نقائضها، ولا مانع لديها من الانتقال إلى حيّ قاهري، مشبع بالبسْملة والاستشياخ والنراجيل وأغاني الفيديو كليب. حيث تسبح صورتان: صورة مسجلة للفنانة الرائعة بجمالها وجاذبيتها، وصورة الثائر الحزين، الوسيم، الوحيد، التي لا تقلّ روعة. صحراء من الصور الخلابة، سوف تتعب كثيراً لو شرعتَ في البحث عن معانيها.
هذه ليست نكتة. إنها واقع. بل أرذل الوقائع. فصورة غيفارا أصبحت مادة تسويقية بامتياز. تجدها على التيشرتات، على القبعات، على الماغات (mag)، على البوسترات التزيينية، بل في الكوكتيلات، الكحولية منها و"النظيفة"... المطعم القاهري، هو ربما أعلى درجات الاستهلاك للصورة الغيفارية. ولكن على الدرجة، أو "النوعية" المختلفة، تجد هذه الصورة أينما حلّت ذكرى، أو على حيطان غرف مراهقين متمرّدين، يبحثون عن صورةٍ ترشدهم في نزاعهم مع أهلهم. هنا تكتسب الصورة شيئاً من زخمها، وتُعاد بعض المعاني إليها.
وهي الآن استعادت حضورها، في الوسط الممانع، بمناسبة مرور نصف قرن على اغتيال غيفارا في أدغال بوليفيا على يد عملاء للمخابرات الأميركية. والكلمات المرفقة بهذه الاحتفالات تذكّر بالتفويت نفسه الذي يصيب المطعم القاهري. كلمات من عصر آخر، تحاول الإطباق على الصورة، أو مصادرتها. كلمات من نوع "ما زال غيفارا ملْهماً للملايين حول العالم"، أو "فقدان حركة التحرّر الوطني الشامل مثلها الأعلى"، أو "جعلت آلاف الثوريين يسيرون على خطاه" .. إلخ.
لماذا؟ لماذا هذه الحياة الطويلة لصورةٍ تخطّتها روح العصر؟ لماذا أصلاً صورة؟ وليست
أيضاً لماذا غيفارا وليس تروتسكي، الهارب، مثله، من طغيان موازين القوى، ومن رفيق دربه البلشفي، جوزيف ستالين.. تروتسكي الهارب إلى المكسيك. الوسيم بوجهه البيضاوي، المهنْدَس بذقن مثلّثة مشذّبة، وعيونه البارقة خلف النظارات الطبية الرقيقة الأنيقة التي أغرت الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو، فكانت عشيقته برهة. صورة تروتسكي لا تصلح أيقونة. ربما لأنه اغتيل بأمر من الرفيق الأعلى، ستالين، وليس من الأميركيين ومخابراتهم. وماذا عن الشاعر الروسي ماياكوفسكي، الوسيم هو أيضاً، الحاضر في صوره بقوة، من دون إضاءاتٍ ولا قبعةٍ ولا شعر متطاير.. وقد أفضت خيبته من النظام البولشفي، الذي أيّده بكل شعريته، إلى الانتحار؟
لائحة البدائل المفترضة لهذه الأيقونة الغيفارية تطول. ولكن يمكن فهم شيء من حظوظها في نظرة صاحبها إلى البعيد، في الظلال المحيطة بوجهه، والضوء النازل عليه، مثل هالة سماوية. شحوب وجهه، شبابه (عمره 32 عاما عندما التقطها المصور ألبيرتو كوردا)، حزن عينيه وغضبهما الهادئ، الواثق، تتطلعان إلى البعيد، تصبوان إلى الخلود. ثم شعره، جبينه، عشوائية ذقنه، والأهم من ذلك كله وسامته. ولمن يبحث عن تعميق، ولو قليلا، لمعنى الصورة، سوف يجد ما يستجيب لمزاج سياسي معين، لو كان من دعاة العمل الثوري الدائم، ومقاتلة الإمبريالية بالسلاح الفردي، ثم بعد ذلك الاستشهاد، وحيداً، من أجل القضية.
وهذا مختصر غير مفيد، يحجب مرحلةً من حياة غيفارا، ليست كلها "مجيدة": من أن غيفارا لم يكن قائداً ثورياً فذا أيام اشتراكه في حرب العصابات بقيادة كاسترو ضد باتيستا. ولا هو كان حاكماً ناجحاً بعدما حققت هذه الحرب هدفها بإزاحة باتيستا عام 1959. كان غيفارا النظير اللاتيني لصادق خلخالي، جلاّد الثورة الإسلامية الإيرانية: ينفذ أحكام إعدام بحق "معادين للثورة"، ويشيد بواجبه "الثوري" هذا؛ ثم بعد ذلك يفشل في إدارة المصرف الوطني الكوبي، وفي وزارة الصناعة التي ينتقل إليها، أو يُنقل، متولّياً حقيبتها. تجربة غير لامعة، غير جديرة بأيقونة، لم يُلقَ أي ضوء عليها، أو أُلقي ولم نعلم، لشدة حضور الأيقونة.. على أثر كل هذه الإخفاقات، يقرّر غيفارا الرحيل من كوبا، لكي يسهل عليه "الاستمرار بالثورة"؛ أولاً في الكونغو (أفريقيا)، حيث يلاحقه الفشل، ثم أخيراً في أدغال بوليفيا، حيث يُغتال بأمر الرئيس الأميركي وقتذاك، ريتشارد نيكسون.
فوق ذلك، كما في المطعم المصري، يقيم رئيس كوبا الحالي، راؤول كاسترو، شقيق فيديل
هكذا، يُعامَل غيفارا معاملة القدّيسين. يحلف المؤمنون به بأنهم سيسيرون على خطاه، يرتِّلون له الأغاني، بحماسة منظمة، حول حبهم الإقدام، والشجاعة.. إلخ. وبذلك يتطهرون من آثام حياتهم العادية، التي ما زالت تحكمها قوانين ثورة عَتُقت، وفي ظلها يفعلون عكس ما أقسموا عليه. فالوقائع أقوى من ألف قسم، من ألف ميثاق.
بالأساس، الأيقونة هي صورة القدّيسين، في الكنيستين الأرثوذكسيتين، الروسية واليونانية. الأيقونة "الزمنية" لغيفارا، تشبه الدينية، الأقدم منها. صورة لقدّيس، يخالفون يوميا تعليماته، ويعودون فيتعبّدونها تكفيراً عن تلك المخالفة، كأنهم يطلبون منها الغفران؛ وذلك استمراراً في تغذية أوهامٍ ليس لها مجيب على الأرض. هذا عن كوبا، أو بعض أميركا اللاتينية على الأقل. أما في المجاهل، حيث نحن، ففوق الأوهام والتفويت، التسويق لكل أنواع المنتجات، مادة جاذبة للمراهقين، السياسيين منهم والعمْريين.. أيقونة "تقدمية" تتعايش مع نقائضها، ولا مانع لديها من الانتقال إلى حيّ قاهري، مشبع بالبسْملة والاستشياخ والنراجيل وأغاني الفيديو كليب. حيث تسبح صورتان: صورة مسجلة للفنانة الرائعة بجمالها وجاذبيتها، وصورة الثائر الحزين، الوسيم، الوحيد، التي لا تقلّ روعة. صحراء من الصور الخلابة، سوف تتعب كثيراً لو شرعتَ في البحث عن معانيها.