22 أكتوبر 2024
العولمة عنصر تأجيج
هل فاض العالم عن نفسه، حتى صار يبحث عن سعادته في التقوقع على الهويات الصغيرة (الانفصال) والقيم الارتدادية (السلطوية) والبحث عن الكاريزميات القاتلة (الشعبوية) من أجل الاستمرار؟ مبرّر السؤال الانشغال الذي ساد في الأوساط الإعلامية على ضوء ما تعيشه أوروبا، وجزء من الغرب المتقدم، وما صار يمثل نماذج في التطور.
قبل التحليل الملموس للعالم الملموس، دعونا نقرأ القصاصة التي نشرتها وكالة فرانس برس يوم الثلاثاء 7 نوفمبر/ تشرين
الثاني الجاري، أن "الروح المعنوية ارتفعت بشكل طفيف لدى البريطانيين الذين يشعرون بأنهم أكثر سعادةً منذ التصويت على مغادرة الاتحاد الأوروبي في العام 6102، وفقا لما كشفته دراسةٌ نشرت الثلاثاء، وذلك رغم الهجمات الإرهابية والغموض الذي يلف مصير البريكست". وبلغت معدلات السعادة والارتياح والشعور بالقيام بأمر مهم أعلى مستوياتها منذ العام 2011، حسبما أوضحت دراسة أجراها مكتب إحصاء وطني مختص بالرفاهية. ذكرت أن البريطانيين قالوا إن مدى سعادتهم يبلغ 52,7 درجات على سلم من عشر درجات في يونيو/ حزيران 7102، في مقابل 64,7 درجات في يونيو/ حزيران 6102 في أثناء الاستفتاء على البريكست. وارتفع الشعور بالارتياح بشكل طفيف، من7.65 درجات إلى 7,69 درجات، وفقا لمكتب الإحصاء الذي أفاد بأن النتائج في انكلترا قادت التغيير إلى الأفضل. وظلت معدلات القلق مستقرة تقريبا، إذ زادت بـ 0.02 نقطة، لتصبح 91,2 درجة على سلم من عشر درجات أيضا. وذكر مكتب الإحصاء أن "بعض الزيادات في معدلات الرفاهية يمكن فهمها في ضوء التحسن في بعض المؤشرات الاقتصادية في بريطانيا، إذ أبرز المكتب أن معدلات البطالة "باتت في ادنى معدلاتها منذ العام 1975"... انتهى المحتوى الطريف للقصاصة، ليفتح الانشغال الأعمق.
تعتبر عقول عديدة متابعة في الشق الأوروبي أن الخطر الحقيقي الذي يتهدد الديموقراطيات المكرّسة ليس هو المخاطر الخارجية، بقدر ما هو تفكّكها وتفسّخها الداخلي، تحت ضغط الانفعالات الشعبوية. والشعبوية، كتعبير عن كاريزما جديدة للأشخاص والأفكار معا، تسبح على موجة الاختلالات المشتركة، من أجل الدعوة إلى حكم سلطوي مبنى على تأجيج مشاعر الهوية (نيكولا بافيريز، "لوفيغارو" 3 أكتوبر).
وعلى عكس ما أوحت به انتصارات البديل الديموقراطي في فرنسا، أو بعض الدول، فإن هذه الشعبوية تتمدد، وتزيد من قوتها في نظم أوروبية عديدة، مثالا على ذلك التزايد المضطرد لقوة اليمين الشعبوي في غرب أوروبا، كألمانيا والنمسا، حيث سجلت الانتخابات أخيرا فوزا غير مسبوق لممثليه السياسيين، واحتمال وصوله إلى السلطة، عبر حكومة ائتلاف سياسي.
في علاقة بالشعبوية، هناك المخاطر المحدقة بالديموقراطية. وقد نالت انشغالا خاصا من صاحب كتاب "أطلس الديانات بلدا بلدا، أو مفاتيح الجيوسياسية"، آلان فرانشون، والذي كتب بوضوح أن "الديموقراطية تتراجع" موضحا أن السلطوية تتلاءم مع الرأسمال المعولم، ومع الثورة الرقمية.
والحقيقة التي تسند قوله أن الديمقراطيات تتضاءل في حرم الأمم المتحدة نفسها، منذ نهاية القرن الماضي. وحسب منطمة فريدوم هاوس أن 76 دولة عرفت، في سنة 6102 ، تراجعا ملحوظا في مجال الحقوق السياسية والحريات المدنية، و"هي السنة الحادية عشرة التي يعرف فيه تدهور الديموقراطية تزايدا لفائدة التقدم".
ومن المفيد أن نعرف أن مؤسسة فونضابول (مؤسسة الإبداع السياسي) قامت باستطلاعات في 23 دولة غربية ب23 لغة، من أجل تتبع لحظة الشك الديموقراطي الذي تعيشه دول الليبرالية التاريخية، فالديموقراطية تعيش امتحانا تاريخيا غير مسبوق بسبب "آثار الثنائي عولمة - ثورة تكنولوجية التي تعمق الشروخ بين سكان الدول المعنية، تآكل الطبقات الوسطى التي تعتبر القلب السوسيولوجي للديموقراطية"، على حد قول مدير المؤسسة، دومينيك رينيي.
ومن أهم خلاصات الدراسة التي اعتمدتها المؤسسة أن الإغراء الذي يمارسه نموذج الحكامة السلطوية يزداد على ضفتي الأطلسي. ومن مظاهر الحكامة السلطوية الشعبوية، وأحد أشكال الشعبوية، وحصان طروداتها الحالي في الديموقراطيات يبقى هو الانفصال.. كما في كتالونيا وزلزالها الذي يهدد دولة بكاملها بالانكماش، إن لم نقل الانحسار التاريخي، أو في إيطاليا، حيث حصلت عصبة الشمال على أرقام رهيبة، بخصوص استفتاءات الحكم الذاتي في فينيسيا ولومبارديا.
أحيانا، يكون الإغراء فظيعا في مواجهة الشعبوية بالشعبوية، وهو خطأ فادح، لأن الناس يفضلون دائما الصورة الأصلية على النسخة، مهما بلغت قوتها الدعائية. لهذا تستنهض أوروبا حاجتها إلى النخب النظيفة والعقلانية، والتي تعتمد على المواطنة العاقلة، وعلى تعاون الأمم.
ولعل السؤال الموارب الذي لا تخفيه حقيقة الوصف هو: ألا تساعد العولمة على الحركات
الانفصالية؟ نحن أمام معادلة مفارقة: توجه ذو مسار عابر للأوطان والقارات، يفضي، في النهاية، إلي كيانات معزولة، معتكفة على هويتها الترابية أو اللغوية أو الثقافية.. إلخ! وهو الرأي الذي دافع عنه جان بيير روبان، المحلل والصحافي الشهير في فرنسا، بتسجيل الملاحظات:
تزايد حدة المطالب الانفصالية في أوروبا، كتالونيا وكذلك أيرلندا، لومبارديا وفينيسيا وكورسيكا، بسبب وجود سوق موحدة تسمح بالدخول إلى منطقة التبادل التجاري الواسع بسهولة. العولمة عربون انفتاح في وجه الأقاليم المكتفية بنفسها. الدول الأكثر غنىً، حسب الناتج الداخلي الخام، أغلبها دول "صغيرة"، كسويسرا والنرويج وسنغافورة، حيث لا يتجاوز عدد سكان هذه الدول ثمانية ملايين نسمة.
إلى ذلك، يسعفنا المحلل الفرنسي، جان بيير روبان، بالتاريخ الأوروبي، حيث يقول: "قبل الثورة الفرنسية وحروب نابوليون، كانت أوروبا منقسمة إلى ثلاثمائة ملكية -إمارة، بعد ذلك، أي عام 1871 صار عدد الدول أقل من20 دولة ذات سيادة! وعند إنشائها، كانت الأمم المتحدة تضم51 عضوا، واليوم تضم 391 دولة وشبه دولة وكيانات.
ومن هنا، يطرح السؤال التالي كل معناه: هل سيشجع القرن الحادي والعشرون عودة الإمارات والكيانات التي تعود إلى النظام القديم؟
ومن الميزات التي تفيد بها القزمية العولمة، كونها تفرض المرونة، باعتبارها ورقة رابحة في سوق عالمية مبنية على التنافسية، كما أنه تسهل عملية تدبير التضامني في الداخل. ومن الأفكار القوية التي تفرض نفسها قول الكاتب إن "الثورة الصناعية الأولى في القرن التاسع عشر سمحت ببروز الدول الوطنية، في حين أن معطى العولمة الجديد والثورة الصناعية الرابعة، ممثلة في الثورة الرقمية، كان من نتيجتها تقوية التنافس الفردي، وإضعاف الوشائج الوطنية للتضامن".
قبل التحليل الملموس للعالم الملموس، دعونا نقرأ القصاصة التي نشرتها وكالة فرانس برس يوم الثلاثاء 7 نوفمبر/ تشرين
الثاني الجاري، أن "الروح المعنوية ارتفعت بشكل طفيف لدى البريطانيين الذين يشعرون بأنهم أكثر سعادةً منذ التصويت على مغادرة الاتحاد الأوروبي في العام 6102، وفقا لما كشفته دراسةٌ نشرت الثلاثاء، وذلك رغم الهجمات الإرهابية والغموض الذي يلف مصير البريكست". وبلغت معدلات السعادة والارتياح والشعور بالقيام بأمر مهم أعلى مستوياتها منذ العام 2011، حسبما أوضحت دراسة أجراها مكتب إحصاء وطني مختص بالرفاهية. ذكرت أن البريطانيين قالوا إن مدى سعادتهم يبلغ 52,7 درجات على سلم من عشر درجات في يونيو/ حزيران 7102، في مقابل 64,7 درجات في يونيو/ حزيران 6102 في أثناء الاستفتاء على البريكست. وارتفع الشعور بالارتياح بشكل طفيف، من7.65 درجات إلى 7,69 درجات، وفقا لمكتب الإحصاء الذي أفاد بأن النتائج في انكلترا قادت التغيير إلى الأفضل. وظلت معدلات القلق مستقرة تقريبا، إذ زادت بـ 0.02 نقطة، لتصبح 91,2 درجة على سلم من عشر درجات أيضا. وذكر مكتب الإحصاء أن "بعض الزيادات في معدلات الرفاهية يمكن فهمها في ضوء التحسن في بعض المؤشرات الاقتصادية في بريطانيا، إذ أبرز المكتب أن معدلات البطالة "باتت في ادنى معدلاتها منذ العام 1975"... انتهى المحتوى الطريف للقصاصة، ليفتح الانشغال الأعمق.
تعتبر عقول عديدة متابعة في الشق الأوروبي أن الخطر الحقيقي الذي يتهدد الديموقراطيات المكرّسة ليس هو المخاطر الخارجية، بقدر ما هو تفكّكها وتفسّخها الداخلي، تحت ضغط الانفعالات الشعبوية. والشعبوية، كتعبير عن كاريزما جديدة للأشخاص والأفكار معا، تسبح على موجة الاختلالات المشتركة، من أجل الدعوة إلى حكم سلطوي مبنى على تأجيج مشاعر الهوية (نيكولا بافيريز، "لوفيغارو" 3 أكتوبر).
وعلى عكس ما أوحت به انتصارات البديل الديموقراطي في فرنسا، أو بعض الدول، فإن هذه الشعبوية تتمدد، وتزيد من قوتها في نظم أوروبية عديدة، مثالا على ذلك التزايد المضطرد لقوة اليمين الشعبوي في غرب أوروبا، كألمانيا والنمسا، حيث سجلت الانتخابات أخيرا فوزا غير مسبوق لممثليه السياسيين، واحتمال وصوله إلى السلطة، عبر حكومة ائتلاف سياسي.
في علاقة بالشعبوية، هناك المخاطر المحدقة بالديموقراطية. وقد نالت انشغالا خاصا من صاحب كتاب "أطلس الديانات بلدا بلدا، أو مفاتيح الجيوسياسية"، آلان فرانشون، والذي كتب بوضوح أن "الديموقراطية تتراجع" موضحا أن السلطوية تتلاءم مع الرأسمال المعولم، ومع الثورة الرقمية.
والحقيقة التي تسند قوله أن الديمقراطيات تتضاءل في حرم الأمم المتحدة نفسها، منذ نهاية القرن الماضي. وحسب منطمة فريدوم هاوس أن 76 دولة عرفت، في سنة 6102 ، تراجعا ملحوظا في مجال الحقوق السياسية والحريات المدنية، و"هي السنة الحادية عشرة التي يعرف فيه تدهور الديموقراطية تزايدا لفائدة التقدم".
ومن المفيد أن نعرف أن مؤسسة فونضابول (مؤسسة الإبداع السياسي) قامت باستطلاعات في 23 دولة غربية ب23 لغة، من أجل تتبع لحظة الشك الديموقراطي الذي تعيشه دول الليبرالية التاريخية، فالديموقراطية تعيش امتحانا تاريخيا غير مسبوق بسبب "آثار الثنائي عولمة - ثورة تكنولوجية التي تعمق الشروخ بين سكان الدول المعنية، تآكل الطبقات الوسطى التي تعتبر القلب السوسيولوجي للديموقراطية"، على حد قول مدير المؤسسة، دومينيك رينيي.
ومن أهم خلاصات الدراسة التي اعتمدتها المؤسسة أن الإغراء الذي يمارسه نموذج الحكامة السلطوية يزداد على ضفتي الأطلسي. ومن مظاهر الحكامة السلطوية الشعبوية، وأحد أشكال الشعبوية، وحصان طروداتها الحالي في الديموقراطيات يبقى هو الانفصال.. كما في كتالونيا وزلزالها الذي يهدد دولة بكاملها بالانكماش، إن لم نقل الانحسار التاريخي، أو في إيطاليا، حيث حصلت عصبة الشمال على أرقام رهيبة، بخصوص استفتاءات الحكم الذاتي في فينيسيا ولومبارديا.
أحيانا، يكون الإغراء فظيعا في مواجهة الشعبوية بالشعبوية، وهو خطأ فادح، لأن الناس يفضلون دائما الصورة الأصلية على النسخة، مهما بلغت قوتها الدعائية. لهذا تستنهض أوروبا حاجتها إلى النخب النظيفة والعقلانية، والتي تعتمد على المواطنة العاقلة، وعلى تعاون الأمم.
ولعل السؤال الموارب الذي لا تخفيه حقيقة الوصف هو: ألا تساعد العولمة على الحركات
تزايد حدة المطالب الانفصالية في أوروبا، كتالونيا وكذلك أيرلندا، لومبارديا وفينيسيا وكورسيكا، بسبب وجود سوق موحدة تسمح بالدخول إلى منطقة التبادل التجاري الواسع بسهولة. العولمة عربون انفتاح في وجه الأقاليم المكتفية بنفسها. الدول الأكثر غنىً، حسب الناتج الداخلي الخام، أغلبها دول "صغيرة"، كسويسرا والنرويج وسنغافورة، حيث لا يتجاوز عدد سكان هذه الدول ثمانية ملايين نسمة.
إلى ذلك، يسعفنا المحلل الفرنسي، جان بيير روبان، بالتاريخ الأوروبي، حيث يقول: "قبل الثورة الفرنسية وحروب نابوليون، كانت أوروبا منقسمة إلى ثلاثمائة ملكية -إمارة، بعد ذلك، أي عام 1871 صار عدد الدول أقل من20 دولة ذات سيادة! وعند إنشائها، كانت الأمم المتحدة تضم51 عضوا، واليوم تضم 391 دولة وشبه دولة وكيانات.
ومن هنا، يطرح السؤال التالي كل معناه: هل سيشجع القرن الحادي والعشرون عودة الإمارات والكيانات التي تعود إلى النظام القديم؟
ومن الميزات التي تفيد بها القزمية العولمة، كونها تفرض المرونة، باعتبارها ورقة رابحة في سوق عالمية مبنية على التنافسية، كما أنه تسهل عملية تدبير التضامني في الداخل. ومن الأفكار القوية التي تفرض نفسها قول الكاتب إن "الثورة الصناعية الأولى في القرن التاسع عشر سمحت ببروز الدول الوطنية، في حين أن معطى العولمة الجديد والثورة الصناعية الرابعة، ممثلة في الثورة الرقمية، كان من نتيجتها تقوية التنافس الفردي، وإضعاف الوشائج الوطنية للتضامن".