03 مارس 2022
مسكين قطاع غزة
مسكين قطاع غزة. كأن بينه وبين الحياة خصومةً لا تنتهي. أو كأن الفرح غادره من دون عودة، تماماً كما بعض الغزيين الذي هاجروا القطاع ولم يرجعوا. كلما ظن أهل غزة بانشقاق الأفق، وقرب بزوغ شمس الحياة، يطل شيطان الموت برأسه ليقطف مزيداً من حيوات فقراء القطاع. يتقلب أهل القطاع منذ عشر سنوات بين فكي كماشة الاحتلال والحصار. يعاجل الأول بقتل أهل القطاع، مرة بالحرب الشاملة وأخرى بالغارات "الجراحية"، ويشوي الآخر أهل غزة على نيران صفيح موت بطيء، فيكون أشد مضاضة.
فرح أهل غزة في العام 2005 بالنجاة من فك الاحتلال المباشر، عندما قرّر رئيس حكومة الاحتلال آنذاك، آرئيل شارون، تفكيك المستوطنات الصهيونية، ومغادرة القطاع نهائياً. طبعاً ليس كرماً منه، وإنما بفعل ضغط القطاع ومقاومته. تنفس أهل القطاع الصعداء، وهم يرون المغتصبة نتساريم، تجرّ أخواتها "كفار داروم"، "موراج"، "رافات يام"... إلخ، وتجر معها ذيول الهزيمة، وتنسحب جميعاً إلى خارج حدود القطاع. استبشر أهل غزة في الخامس عشر من أغسطس/آب 2005، بفجر يوم جديد، يقربهم، من "حلم سنغافورة" الذي طالما وعدتهم به "أوسلو". ولكن سرعان ما تبدّد الفرح الغزاوي، وتشتت الحلم داخل نفق مظلم، طويل. غرق القطاع أولاً في اقتتال داخلي بين الأشقاء، أدّى الى انقسام وطني، جغرافي وسياسي، ترك القطاع وحيداً في العراء، يواجه فك الحصار.
لم يفوّت الاحتلال فرصة التفرد بالقطاع، فشن ثلاث حروب طاحنة، في الأعوام 2008، 2012، 2014، قتلت من قتلت، ودمرت ما بناه الغزيون في سنوات، واغتالت القذيفة العمياء نطفة الأمل، حتى قبل أن تنضج. وما بين القذيفة والقذيفة، فرض الاحتلال على القطاع وأهله حصاراً خانقاً مميتاً، فصلهم عن باقي وطنهم، فلا طريق إلى الضفة الغربية، ولا حبل سرياً مع فلسطين ما وراء الخط الأخضر.
وما بين طلقة وشهقة، بين "بقعة الزيت اللاهب" و"عامود السحاب"، تشبث الغزيون بالحياة، أبدعوا، وصاروا التجسيد الحقيقي لفدائي الراحل محمود درويش، في "مديح الظل العالي" الذي "صنع من جزمةٍ أفقاً". ناموا على فوهة البركان، وساروا في عين العاصفة، "بنياناً مرصوصاً". قتل الاحتلال كثيرين منهم، فأنجبوا أكثر.
وكأن جنون الاحتلال، وعشوائية آلته الحربية، لا تكفي في قتل الغزيين، حتى خيّم سواد الانقسام والحصار على القطاع، قصم ظهر الغزاويين، وقطع الحصار شرايين الحياة. حتى شرايين الحياة الإصطناعية التي شقّها الغزّيون في بطن الأرض، لتنفس الحياة، طاردها الحصار، قطعها، دمرها، أغرقها بمياه، كان الأوْلى أن تروي ظمأ الغزّيين، أو أن تسقي أشجاره العطشى. عشر سنوات من الحصار أحالت الغزيين إلى حطام بشر، إلى شظايا من لحم ودم، إلى كتل آدمية تبحث بين ركام الموت عن بعض حياة.
قبل أيام، لاح الأمل مجدّداً خلف أسوار الحصار، استبشر أهل غزة الناجون من الاحتلال والحصار بالخلاص من العذاب المزمن. خرجوا إلى الشوارع احتفالاً بتوقيع "اتفاق المصالحة بين فتح وحماس"، واستقبلوا بالرقص مواكب حكومة الوفاق القادمة إلى القطاع بعد عشر سنوات من القطعية. وكأن أهل القطاع اشتاقوا إلى أوكسجين الحياة، بعد أن امتلأت صدورهم بالهواء الملوّث بغاز البارود، وسموم الفوسفور الأبيض.
مسكين هذا القطاع، لم تدم فرحة أهله طويلاً. لا صار القطاع سنغافورة، ولا رُفع الحصار، ولا انتهى العدوان. غابت مواكب الفرح سريعاً، وما أن غاب أصحاب المعالي خلف حاجز إيرز، حتى عادت مواكب تشييع الشهداء إلى شوارع القطاع، والأثواب البيضاء التي أعدّها الغزيون لأعراس ما بعد الانقسام والحصار، صارت أكفاناً لكوكبةٍ أخرى من الشهداء، ارتقوا بغارة إسرائيلية.
يجترح أهل غزة هنيهة فرح، يسرقون البسمة من فك الاحتلال، يقطفون لحظات الأمل من براثن الحصار، يبدعون فنوناً في صناعة الحياة. وما بين احتلال غاشم وحصار ظالم، يظل الحمام يطير في سماء غزة، وفوق بحرها، "يُعلِنُ دَوْلَةً في الريحِ بَيْنَ رَصَاصَتَيْنْ".
فرح أهل غزة في العام 2005 بالنجاة من فك الاحتلال المباشر، عندما قرّر رئيس حكومة الاحتلال آنذاك، آرئيل شارون، تفكيك المستوطنات الصهيونية، ومغادرة القطاع نهائياً. طبعاً ليس كرماً منه، وإنما بفعل ضغط القطاع ومقاومته. تنفس أهل القطاع الصعداء، وهم يرون المغتصبة نتساريم، تجرّ أخواتها "كفار داروم"، "موراج"، "رافات يام"... إلخ، وتجر معها ذيول الهزيمة، وتنسحب جميعاً إلى خارج حدود القطاع. استبشر أهل غزة في الخامس عشر من أغسطس/آب 2005، بفجر يوم جديد، يقربهم، من "حلم سنغافورة" الذي طالما وعدتهم به "أوسلو". ولكن سرعان ما تبدّد الفرح الغزاوي، وتشتت الحلم داخل نفق مظلم، طويل. غرق القطاع أولاً في اقتتال داخلي بين الأشقاء، أدّى الى انقسام وطني، جغرافي وسياسي، ترك القطاع وحيداً في العراء، يواجه فك الحصار.
لم يفوّت الاحتلال فرصة التفرد بالقطاع، فشن ثلاث حروب طاحنة، في الأعوام 2008، 2012، 2014، قتلت من قتلت، ودمرت ما بناه الغزيون في سنوات، واغتالت القذيفة العمياء نطفة الأمل، حتى قبل أن تنضج. وما بين القذيفة والقذيفة، فرض الاحتلال على القطاع وأهله حصاراً خانقاً مميتاً، فصلهم عن باقي وطنهم، فلا طريق إلى الضفة الغربية، ولا حبل سرياً مع فلسطين ما وراء الخط الأخضر.
وما بين طلقة وشهقة، بين "بقعة الزيت اللاهب" و"عامود السحاب"، تشبث الغزيون بالحياة، أبدعوا، وصاروا التجسيد الحقيقي لفدائي الراحل محمود درويش، في "مديح الظل العالي" الذي "صنع من جزمةٍ أفقاً". ناموا على فوهة البركان، وساروا في عين العاصفة، "بنياناً مرصوصاً". قتل الاحتلال كثيرين منهم، فأنجبوا أكثر.
وكأن جنون الاحتلال، وعشوائية آلته الحربية، لا تكفي في قتل الغزيين، حتى خيّم سواد الانقسام والحصار على القطاع، قصم ظهر الغزاويين، وقطع الحصار شرايين الحياة. حتى شرايين الحياة الإصطناعية التي شقّها الغزّيون في بطن الأرض، لتنفس الحياة، طاردها الحصار، قطعها، دمرها، أغرقها بمياه، كان الأوْلى أن تروي ظمأ الغزّيين، أو أن تسقي أشجاره العطشى. عشر سنوات من الحصار أحالت الغزيين إلى حطام بشر، إلى شظايا من لحم ودم، إلى كتل آدمية تبحث بين ركام الموت عن بعض حياة.
قبل أيام، لاح الأمل مجدّداً خلف أسوار الحصار، استبشر أهل غزة الناجون من الاحتلال والحصار بالخلاص من العذاب المزمن. خرجوا إلى الشوارع احتفالاً بتوقيع "اتفاق المصالحة بين فتح وحماس"، واستقبلوا بالرقص مواكب حكومة الوفاق القادمة إلى القطاع بعد عشر سنوات من القطعية. وكأن أهل القطاع اشتاقوا إلى أوكسجين الحياة، بعد أن امتلأت صدورهم بالهواء الملوّث بغاز البارود، وسموم الفوسفور الأبيض.
مسكين هذا القطاع، لم تدم فرحة أهله طويلاً. لا صار القطاع سنغافورة، ولا رُفع الحصار، ولا انتهى العدوان. غابت مواكب الفرح سريعاً، وما أن غاب أصحاب المعالي خلف حاجز إيرز، حتى عادت مواكب تشييع الشهداء إلى شوارع القطاع، والأثواب البيضاء التي أعدّها الغزيون لأعراس ما بعد الانقسام والحصار، صارت أكفاناً لكوكبةٍ أخرى من الشهداء، ارتقوا بغارة إسرائيلية.
يجترح أهل غزة هنيهة فرح، يسرقون البسمة من فك الاحتلال، يقطفون لحظات الأمل من براثن الحصار، يبدعون فنوناً في صناعة الحياة. وما بين احتلال غاشم وحصار ظالم، يظل الحمام يطير في سماء غزة، وفوق بحرها، "يُعلِنُ دَوْلَةً في الريحِ بَيْنَ رَصَاصَتَيْنْ".