09 نوفمبر 2024
العراق.. تحجيم المليشيات أم تكريس وجودها؟
لا يخلو قرار مجلس الوزراء العراقي منع الأحزاب ذات الأجنحة العسكرية من المشاركة في الانتخابات البرلمانية من مفاجأة، وذلك مع الإدراك أن عشرات الأحزاب، ذات اللون الطائفي الواحد، تجمع بين السياسة والعسكرة، بمعرفة السلطات ورضاها، بل بتمويل منها. وقد انبرى رئيس الحكومة، حيدر العبادي، أكثر من مرة، للدفاع عن "الحشد الشعبي" الذي يضم عشرات المليشيات ذات العقيدة العسكرية المرتبطة بالأحزاب، وبعيدا عن عقيدة المؤسسة العسكرية (الجيش). والقرار الذي يقف خلفه العبادي قابل للتفسير في أكثر من اتجاه، إذ يمكن تفسيره محاولةً من الدولة لإبعاد رموز المليشيات عن المؤسسة التشريعية، بهدف تحجيم الأحزاب المسلحة وإقصائها عن مراكز صنع القرار، تساوقا مع مطالب أميركية وعربية صريحة بضرورة الحد من النفوذ الإيراني، عبر هذه المليشيات، ومن خلال مؤسسات الدولة الأخرى. وعلى المستوى المحلي، يمكن فهم القرار محاولة لتحجيم نفوذ رئيس الحكومة السابق، نوري المالكي، الذي يقوم بالتنسيق المباشر مع قيادات هذه الأحزاب، من أجل تمكينه من العودة الى رئاسة الحكومة عبر الانتخابات المقرّرة في 15 مايو/ أيار المقبل.
ومن جهة ثانية، القرار قابل لتفسيره محاولةً لتهدئة الاحتجاجات على سلوك المليشيات، وامتصاص الغضب عليها في أوساط مختلفة. وفي الوقت نفسه، تكريس وجودها ومنحها مزيداً من الشرعية كـ"مؤسسات أمنية تكافح الإرهاب"، ولا تنشط في الحقل السياسي، ويصعب تصور صدور القرار بغير أن تكون قيادات الأحزاب المسلحة على علم مسبق به، وتوافق بشأنه.
وسبق للعبادي أن أطلق تصريحات بشأن "الحشد الشعبي"، من قبيل أن الدولة لا ترتضي
وجود جماعاتٍ تقاتل خارج الحدود، والمقصود في سورية، لكن الوقائع أثبتت أنه لا علاقة لهذه التصريحات بمجريات الأمور، وأن المليشيات ما زالت تقاتل هناك، وتسعى إلى تأمين ممر بري على الحدود مع سورية، لتسهيل انسياب الحرس الثوري إلى الأرض السورية.
لم تُعرف على التو ردود فعل زعامات المليشيات، مثل الهادي العامري (فيلق بدر) وقيس الخزعلي (عصائب أهل الحق) وأوس الخفاجي (أبو الفضل العباس) على هذا القرار. علماً أن بيانات عدة وتصريحات مختلفة صدرت، في بحر العام الجاري، بشأن استعدادات "الحشد الشعبي" لخوض الانتخابات. والحشد هو المؤسسة التي تضم هذه المليشيات التي ما زال أفرادها يتبعون قياداتهم الحزبية والعسكرية، على الرغم من أن العبادي ربط الحشد بشخصه، باعتباره رئيسا للحكومة، وقام بتقنين وجود هذه المليشيات، وإسباغ الشرعية عليها، وتكفل بتمويلها، من دون أن يتغير شيء على سلوكها وخطابها كمنظمات للأمن الفئوي، تأتمر بأوامر قادتها وثيقي الارتباط بإيران، وتهدّد من تشاء بالخطف والاعتقال، وما هو أسوأ، وتبثّ خطاباً نقيضاً للوحدة الوطنية، بل وللدولة الوطنية.
السؤال الذي يرتسم بهذه المناسبة: إذا كانت المؤسسة التشريعية والعملية الانتخابية لا تقبل وجود هؤلاء، أو مشاركتهم أو تدخلهم، فإن ذلك يستتبع وقف تدخلهم في شؤون الحياة العامة، وفي المؤسسات الحكومية والخاصة، تحت سطوة السلاح، وبتسهيلات من مراكز النفوذ السياسي، لا أن يقتصر القرار على وقف مشاركتهم في مفصل واحد من مفاصل الحياة العامة.
في تسويغه قرار منع قيادات المليشيات من المشاركة في الترشيح، قال حيدر العبادي إن العراق يتجه إلى بناء دولة مدنية، لا تتسع أو لا تجيز بطبيعتها مشاركة أجنحة مسلحة في التنافس الانتخابي. حسنٌ.. هل تحتمل الدولة المدنية، في الأصل، وجود أحزاب مسلحة أو ذات أجنحة عسكرية؟ خصوصا إذا ما وضعنا في الاعتبار أن الدولة المدنية تقضي أساسا بإبعاد نفوذ المؤسستين، العسكرية والدينية، عن المجال السياسي والحقل الاجتماعي. والحال أن المليشيات المسلحة تجمع بين "الحُسنيين"، فهي ذات لون ديني مذهبي من جهة، وهي مسلحة من جهة ثانية، وتنازع المؤسسة العسكرية الرسمية على تجنيد الأفراد وحيازة الأسلحة واستخدامها والتهديد باستخدامها.
وجود هذه الأحزاب المسلحة بدعة لا محل لها في الدولة المدنية، ولا تعدو أن تكون من
مظاهر التغليب الطائفي، وإثارة الانقسامات، وتهديد مكون رئيسي في المجتمع. ولا تعدو، في الوقت نفسه، أن تكون استنساخاً لتجربة الحرس الثوري الإيراني الذي يقمع، عبر ذراعه "الباسيج"، التظاهرات والاعتصامات والإضرابات، وينشط بالتدخلات المسلحة خارج الحدود، مع إعفائه من المساءلة في المؤسسة التشريعية، بما يجعله فوق القانون وخارجه. وإيران ليست دولة مدنية، إذ تأخذ من المضمون الديمقراطي الآليات الديمقراطية المقيدة، والإجراءات الشكلية، مع وضع كل السلطات في أيدي المرجعية الدينية والحلقة الضيقة الخاصة بها في مجلس صيانة الدستور ومجلس تشخيص مصلحة النظام. وهما مؤسستان تنازعان رئاسة الجمهورية والسلطتين، التنفيذية والتشريعية، على الصلاحيات وعلى الولاية العامة.
يبقى في هذا المعرض أن التحضير للانتخابات البرلمانية يتطلب توفير بيئة اجتماعية وسياسية مناسبة، بما يمنح الأولويات الوطنية اهتماما متساوياً، فما زال العراق يشكو من ظاهرة النازحين وصعوبة عودتهم إلى ديارهم بعد تهديم مناطقهم، وفي ظل تهديد المليشيات لهم إن عادوا، فكيف لهؤلاء أن يشاركوا في الانتخابات، أو يولوها اهتمامهم، وهم ينوؤون تحت ضغط هذه الظروف الشاذّة والأليمة. ذلك أشبه بإقامة ندوة سياسية بين الأنقاض، أو إقامة عرس جماعي بين الركام وأطلال البيوت. لم يشهد العراق، في أسوأ مراحله السابقة، ظاهرة التهجير وسد أبواب العودة أمام المهجّرين وإقامة مناطق ذات صفاء طائفي، حتى أن الإقصاء بات يشمل المؤسسات الحكومية، ومنها وزارة الخارجية التي تستغني تباعاً، وعلى رؤوس الأشهاد، عن عشراتٍ من كوادرها المتقدّمة ممن ينتمون لمكوّن بعينه، سعياً إلى تطييف هذه المؤسسة العريقة، وجعلها مقتصرةً على فئة بعينها دون سواها. وهذه من أوضح المظاهر على الخلل الجسيم الذي يحكم أداء الدولة وتقاعسها عن الوفاء بواجباتها الأساسية تجاه مواطنيها في سائر مناطقهم. وهي مظاهر تقترن بنشوء المليشيات المسلحة، وانتشارها تحت أسماع الدولة وأبصارها.
ومن جهة ثانية، القرار قابل لتفسيره محاولةً لتهدئة الاحتجاجات على سلوك المليشيات، وامتصاص الغضب عليها في أوساط مختلفة. وفي الوقت نفسه، تكريس وجودها ومنحها مزيداً من الشرعية كـ"مؤسسات أمنية تكافح الإرهاب"، ولا تنشط في الحقل السياسي، ويصعب تصور صدور القرار بغير أن تكون قيادات الأحزاب المسلحة على علم مسبق به، وتوافق بشأنه.
وسبق للعبادي أن أطلق تصريحات بشأن "الحشد الشعبي"، من قبيل أن الدولة لا ترتضي
لم تُعرف على التو ردود فعل زعامات المليشيات، مثل الهادي العامري (فيلق بدر) وقيس الخزعلي (عصائب أهل الحق) وأوس الخفاجي (أبو الفضل العباس) على هذا القرار. علماً أن بيانات عدة وتصريحات مختلفة صدرت، في بحر العام الجاري، بشأن استعدادات "الحشد الشعبي" لخوض الانتخابات. والحشد هو المؤسسة التي تضم هذه المليشيات التي ما زال أفرادها يتبعون قياداتهم الحزبية والعسكرية، على الرغم من أن العبادي ربط الحشد بشخصه، باعتباره رئيسا للحكومة، وقام بتقنين وجود هذه المليشيات، وإسباغ الشرعية عليها، وتكفل بتمويلها، من دون أن يتغير شيء على سلوكها وخطابها كمنظمات للأمن الفئوي، تأتمر بأوامر قادتها وثيقي الارتباط بإيران، وتهدّد من تشاء بالخطف والاعتقال، وما هو أسوأ، وتبثّ خطاباً نقيضاً للوحدة الوطنية، بل وللدولة الوطنية.
السؤال الذي يرتسم بهذه المناسبة: إذا كانت المؤسسة التشريعية والعملية الانتخابية لا تقبل وجود هؤلاء، أو مشاركتهم أو تدخلهم، فإن ذلك يستتبع وقف تدخلهم في شؤون الحياة العامة، وفي المؤسسات الحكومية والخاصة، تحت سطوة السلاح، وبتسهيلات من مراكز النفوذ السياسي، لا أن يقتصر القرار على وقف مشاركتهم في مفصل واحد من مفاصل الحياة العامة.
في تسويغه قرار منع قيادات المليشيات من المشاركة في الترشيح، قال حيدر العبادي إن العراق يتجه إلى بناء دولة مدنية، لا تتسع أو لا تجيز بطبيعتها مشاركة أجنحة مسلحة في التنافس الانتخابي. حسنٌ.. هل تحتمل الدولة المدنية، في الأصل، وجود أحزاب مسلحة أو ذات أجنحة عسكرية؟ خصوصا إذا ما وضعنا في الاعتبار أن الدولة المدنية تقضي أساسا بإبعاد نفوذ المؤسستين، العسكرية والدينية، عن المجال السياسي والحقل الاجتماعي. والحال أن المليشيات المسلحة تجمع بين "الحُسنيين"، فهي ذات لون ديني مذهبي من جهة، وهي مسلحة من جهة ثانية، وتنازع المؤسسة العسكرية الرسمية على تجنيد الأفراد وحيازة الأسلحة واستخدامها والتهديد باستخدامها.
وجود هذه الأحزاب المسلحة بدعة لا محل لها في الدولة المدنية، ولا تعدو أن تكون من
يبقى في هذا المعرض أن التحضير للانتخابات البرلمانية يتطلب توفير بيئة اجتماعية وسياسية مناسبة، بما يمنح الأولويات الوطنية اهتماما متساوياً، فما زال العراق يشكو من ظاهرة النازحين وصعوبة عودتهم إلى ديارهم بعد تهديم مناطقهم، وفي ظل تهديد المليشيات لهم إن عادوا، فكيف لهؤلاء أن يشاركوا في الانتخابات، أو يولوها اهتمامهم، وهم ينوؤون تحت ضغط هذه الظروف الشاذّة والأليمة. ذلك أشبه بإقامة ندوة سياسية بين الأنقاض، أو إقامة عرس جماعي بين الركام وأطلال البيوت. لم يشهد العراق، في أسوأ مراحله السابقة، ظاهرة التهجير وسد أبواب العودة أمام المهجّرين وإقامة مناطق ذات صفاء طائفي، حتى أن الإقصاء بات يشمل المؤسسات الحكومية، ومنها وزارة الخارجية التي تستغني تباعاً، وعلى رؤوس الأشهاد، عن عشراتٍ من كوادرها المتقدّمة ممن ينتمون لمكوّن بعينه، سعياً إلى تطييف هذه المؤسسة العريقة، وجعلها مقتصرةً على فئة بعينها دون سواها. وهذه من أوضح المظاهر على الخلل الجسيم الذي يحكم أداء الدولة وتقاعسها عن الوفاء بواجباتها الأساسية تجاه مواطنيها في سائر مناطقهم. وهي مظاهر تقترن بنشوء المليشيات المسلحة، وانتشارها تحت أسماع الدولة وأبصارها.