02 نوفمبر 2024
عن ثقافة الإقصاء في تونس
على مدى عقود من قيام دولة الاستقلال (1956)، كانت تونس محكومة بسلطة الرأي الواحد، وبتوجيهات "الرئيس الملهم"، وبهيمنة الحزب الشمولي (الحزب الدستوري بأسمائه المختلفة) الذي ادّعى امتلاك الحقيقة، واحتكر طويلا وسائل الإعلام، وبسط يده على الفضاء العام، واستجمع البوليس والمتعصّبين من أتباعه، لمحاصرة معارضيه والتضييق عليهم، وعمل على منعهم من الانتظام في أحزابٍ سياسية مشروعة، ومن ممارسة حقّهم في التعبير والنقد في المنابر الإعلامية العمومية والخاصّة، وجدّ في فضّ اجتماعاتهم، وتعطيل حركتهم وتنقّلهم بين محافظات الجمهورية للتواصل مع النّاس، والتفاعل مع مشاغلهم. وأثمرت ثقافة الإقصاء تلك واقعا سياسيّا مأزوما، ومشهدا إعلاميّا منمّطا مكرورا، وكيانا مجتمعيا مسكونا بالخوف والتوتّر. وأدّت سياسات الكبت والكتم إلى الانفجار الذي تبلور من خلال الحراك الاحتجاجي العارم الذي شهدته البلاد سنة 2011. وأفضى إلى انتقال تونس من زمن الأحادية إلى عصر التعدّدية، ومن حقبة الدولة القامعة إلى أفق الدولة الواعدة بتكريس الحرّيات العامّة والخاصّة والتوجّه نحو الدّمقرطة. وكانت نتيجة ذلك ظهور كمّ هائل من الأحزاب السياسية، والمنظمات الأهلية، ووسائل الإعلام بعد الثورة، على نحو ساهم في تعزيز مساهمة المواطن في الشأن العام.
وعلى الرغم من أهمّية ما تحقق في هذا المجال، ما زال الاجتماع التونسي عموما، والنخب
السياسية خصوصا، محكوما بهاجس الإقصاء والإقصاء المضاد، فلم يتمّ بعدُ تحويل الفرصة الديمقراطية إلى نظام سلوك عام، وإلى ثقافة يوميّة، سيّارة بين النّاس، توجّه أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم، وتدفعهم إلى الإيمان بحقّ الاختلاف وضرورة التنوّع، وأهمّية نقد الذّات قبل نقد الآخر. ففي فترةٍ مبكّرةٍ من الانتقال الديمقراطي، انتشر خطاب التخوين وشيطنة الآخر بين الفرقاء السياسيين، فادّعى بعضهم احتكار صفات الحداثة والتقدّمية والتنوير، ونعت مخالفيه بالرجعية والظلامية والإرهاب، في غير استدلال مُقنع. وزعم سواهم الأحقّية بالنّضال والأسبقية في مناهضة الدكتاتورية، وظهرت "روابط حماية الثورة" التي نشطت، خصوصا في سنتي 2012 و2013، ونصّب بعض المنتمين إليها أنفسهم أوصياء على الثورة وناطقين باسمها، ودفعهم ذلك إلى منع انتظام بعض الأنشطة الحزبية بدعوى أنّها مضادّة للثورة، وأدّى ذلك النهج في التعامل مع المخالف سياسيّا إلى عزلة تلك الروابط، وحلّها قضائيا سنة 2015.
وبعد سبع سنوات من مسار الدمقرطة، ما زال العقل الإقصائي حاضرا في المشهد السياسي التونسي. وتكفي الإشارة إلى حادثة منع رئيس تونس السابق، ورئيس حزب حراك تونس الإرادة، المنصف المرزوقي، أخيرا، من الوصول إلى مقرّ إذاعة محلّية، للإدلاء برأيه في قضايا تتعلّق بالشأن العام، إذ أقدم مواطنون محسوبون على "التيار الدستوري" في محافظة
المنستير على منعه من الدخول إلى الإذاعة الخاصّة "رباط.أف.أم"، ووقفو أمام سيّارته، وطلبوا منه مغادرة المكان. وعلّلوا ذلك بمسّ الرجل من رمزية الزعيم الحبيب بورقيبة ونقده سياساته، واعتبروا وجوده على مقربةٍ من روضة آل بورقيبة، أين دُفن الرّئيس الراحل، إهانة لشخص الأخير والمدينة التي ينتمي إليها. وخطورة هذا السلوك الإقصائي في أنّه يمارس الوصاية على الإرث البورقيبي، ويرفعه إلى مقام المقدّس الذي لا يحتمل النّقد. والحال أنّ الزعيم الراحل أصاب وأخطأ في أكثر من موضع، وتجربته في حكم البلاد مفتوحة على مقاربات قرائية مختلفة. ومنْع المرزوقي، الذي يؤخذ منه ويُردّ عليه، من الوصول إلى الإذاعة المذكورة انتهاك لحقّه في التفكير والتعبير، واعتداء على حقّ المؤسّسة الإعلامية في استضافة مَن تريد من المواطنين. وهي حقوق يكفلها الدستور التونسي الذي نصّ على أنّ "حرّية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة، ولا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحرّيات". ومن ثمّة، رمت المجموعة التي قطعت طريق المرزوقي عرض الحائط بمحامل الدستور، وصادرت حرّية الرّأي، وصدرت عن عصبيّة أيديولوجية/ جهوية مغلقة، تريد أن تقوم بديلا عن الدولة، وتضيق بالاستماع إلى المخالف، بل ترفض التعايش معه، وهو ما يتعارض مع أبجديات الديمقراطية.
واللافت أنّ ذلك السلوك الإقصائي الذي لقيَه المرزوقي وجد تنديدا واسعا من مكوّنات المجتمع المدني، فدانته معظم الأحزاب والمنظمات الأهلية، وعدّته اعتداء على المنظومة الديمقراطية وحرّية الصحافة وحق المواطن في التعبير، ودعت الحكومة ووزارة الداخلية إلى تحمّل مسؤولياتهما في حماية الحقوق المدنية الدستورية. ومن ثمّة واجه صعود ثقافة الإقصاء قيام رأي عامّ حيّ مناهض، وتلك علامة إيجابية لا محالة.
يمكن القول ختاما إنّ ثقافة الإقصاء ليست خطرا على حرّية الفرد فحسب، بل هي تُنذر بعودة العقل الاستبدادي، وتهدّد السلم الأهلي، وتشتّت النسيج المجتمعي، وتجعل الناس رهائن عصبيات ضيّقة. لذلك، الحاجة أكيدة إلى إعادة بناء الوعي السياسي لدى النُّخب والجموع على السواء، تكريسا لثقافة الاختلاف، وضمانا لإنجاح التجربة الديمقراطية الوليدة.
(كاتب تونسي)
وعلى الرغم من أهمّية ما تحقق في هذا المجال، ما زال الاجتماع التونسي عموما، والنخب
وبعد سبع سنوات من مسار الدمقرطة، ما زال العقل الإقصائي حاضرا في المشهد السياسي التونسي. وتكفي الإشارة إلى حادثة منع رئيس تونس السابق، ورئيس حزب حراك تونس الإرادة، المنصف المرزوقي، أخيرا، من الوصول إلى مقرّ إذاعة محلّية، للإدلاء برأيه في قضايا تتعلّق بالشأن العام، إذ أقدم مواطنون محسوبون على "التيار الدستوري" في محافظة
واللافت أنّ ذلك السلوك الإقصائي الذي لقيَه المرزوقي وجد تنديدا واسعا من مكوّنات المجتمع المدني، فدانته معظم الأحزاب والمنظمات الأهلية، وعدّته اعتداء على المنظومة الديمقراطية وحرّية الصحافة وحق المواطن في التعبير، ودعت الحكومة ووزارة الداخلية إلى تحمّل مسؤولياتهما في حماية الحقوق المدنية الدستورية. ومن ثمّة واجه صعود ثقافة الإقصاء قيام رأي عامّ حيّ مناهض، وتلك علامة إيجابية لا محالة.
يمكن القول ختاما إنّ ثقافة الإقصاء ليست خطرا على حرّية الفرد فحسب، بل هي تُنذر بعودة العقل الاستبدادي، وتهدّد السلم الأهلي، وتشتّت النسيج المجتمعي، وتجعل الناس رهائن عصبيات ضيّقة. لذلك، الحاجة أكيدة إلى إعادة بناء الوعي السياسي لدى النُّخب والجموع على السواء، تكريسا لثقافة الاختلاف، وضمانا لإنجاح التجربة الديمقراطية الوليدة.
(كاتب تونسي)