07 نوفمبر 2024
الحداثة نقدٌ متجددٌ للتقليد
لا يشير مفهوم الحداثة إلى حضارة أو ثقافة أو مجتمع بعينه، وإذا كان من المؤكد أن هناك مبادئ عامة ومشتركة، تُحَدِّد جوانب من دلالته، فإن تجارب المجتمعات البشرية في إبداع وتوطين، ثم تطوير وتلوين هذه المبادئ، تختلف داخل جدليات التاريخ المتواصلة في مختلف المجتمعات البشرية، حيث يساهم التاريخ المحلي للمجتمعات البشرية في منح المبادئ الكبرى للحداثة سِمَاتٍ مُحَدَّدة، تحصل فيها بالضرورة عملياتُ تفاعُلٍ صانعةٍ لحداثة متعدّدة، حداثات تستلهم وتتجاوز في الآن نفسه أصولها ومبادئها، منابعها وتحوُّلاتها. ما حصل في التاريخ من صوَّر الحداثة والتحديث هنا وهناك، يُعَدُّ في تصوُّرنا عنواناً لإبداعٍ متواصل في سُلَّم الانفصال عن التقليد، إنه فعل تاريخي مركَّب، وميزته الكبرى تتمثَّل في قدرته الدائمة على تجاوز ذاته.
تبلورت المبادئ الفلسفية العامة للفكر الحداثي بشكل مُضطرِد، في التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر. إن عمليات تطوُّرها وامتحان مبادئها، ومختلف أشكال التحوُّل الذي عرفته وما زالت تعرفه، مَكَّن مجتمعاتٍ عديدة من خارج القارة الأوروبية من ولوج عوالمها، بمداخل وإيقاعات متنوِّعة مرتبطة بسيرورة هذه المجتمعات، ومرتبطة أيضاً، بآليات استيعاب المُشْتَرَك والعامّ في الحياة البشرية. وهي الآلية اللاَّحِمَة لإنسانية تتسم بالتنوُّع والتعدُّد، وتحكم مساراتها في التطوُّر قَوَاعِدٌ عامة.
يواصل المشروع الحداثي اليوم حضوره وتطوره، وهو يحرص على استيعاب ثورات المعرفة والسياسة والتواصل، كما نشأت وتطورت في التاريخ الحديث والمعاصر. وبناءً عليه، فإن الحداثة لا تُمْلَى ولا تُنْسَخ، بل تنشأ في تفاعل مع بعض الجوانب السائدة في المجتمع وتحوُّلاته. ويمكننا أن نقول، بعبارة جامعة، إنها تنشأ في إطار المشترك الإنساني.
لا توجد في التاريخ حداثة غربية وأخرى يابانية وثالثة إسلامية، فأسس الفعل الحداثي
ومرتكزاته في أصولها العامة واحدة كما وضحنا، أما الخصوصيات التاريخية فإنها لا تصنع حداثات، بل تمنح سمات محدَّدة لحداثة المجتمعات، سمات ترتبط بتاريخها وثقافتها، وأشكال تَلَقِّيهَا وتفاعلها مع مكاسب تاريخ الإنسانية المفتوح والمتعدِّد. ويترتب عن ذلك نتيجة أساسية نُقِرُّ فيها بالطابع المتعدِّد للحداثة في التاريخ.
يُقَرِّبُنا الطابع المتعدِّد للحداثة من التاريخ الكوني في تعدُّده وثرائه، إنه يُبْعِدُنا عن التصوُّرات المرتبطة بالحداثة بالمفرد بكل مضمراتها، وخصوصا تلك التي تَقْرِنُها بمجتمع واحد وتاريخ بعينه، ونمط مطلق من الفكر والتفكير، في الوقت الذي تؤكد فيه شواهِد التاريخ القريب والبعيد، أن الحداثة في كثير من أوجهها تشمل أزمنة متعدِّدة، كما تشمل تواريخ لا حصر لها. نزداد اقتناعاً بهذا، عندما نؤمن بأن الحداثة سيرورةٌ غير مكتملة، إنها فعلٌ ما يفتأ يتشكَّل ويتجاوز ذاته، يُصَحِّحها ويطوِّرُها ويمنحها مواصفات متحوِّلة.
وإذا كان بعضهم يرى أن النموذج الحداثي الغربي استنفد زمانه، حيث يعيش الغرب مآزقه الأخلاقية والمالية والبيئية والتقنية..، وحيث نقف في كثير من أنماط حضوره على جوانب من بُؤْس عالمنا وإفلاس قِيَّمه، إلا أننا نرى أن الفكر الذي يعلن عداءه للحداثة وانتصاراتها، لِيَتَحَصَّن بالقيم التقليدية ويُرَكِّب الأصوليات مجدَّداً، متخلياً عن كل ما راكمته البشرية في تاريخها الطويل من مآثر ومكاسب، يتناسى أن الحداثة تملك القدرة على إبداع مساراتها المتعدِّدة والمتطوِّرة ومواجهة أعطابها، بل ومواجهة ذاتها.
نستخدم مفهوم الحداثة المتعدِّدة في إطار مساعي المجتمعات البشرية، لِتَمَثُّل ما هو مشترك في
حياة الإنسان وإغنائه وتطويره. وإذا كان المُشترك الإنساني المتمثِّل في مكاسب مختلف الحضارات المتعاقبة في التاريخ، عامّاً ومتنوعاً، فإن تَنَوُّعه وتَنَوُّع حداثاته، يُعْتَبَر في النهاية مصدر غِنَى للحداثة ومبادئها في تحوُّلاتِها، وفي انتصارها لكل ما هو تاريخي وإنساني.
يمكن النظر إلى الحداثة باعتبارها الحالة المتقدِّمة لرصيد الخبرات العديدة التي بنتها البشرية خلال تاريخها الطويل، نحن نشير هنا إلى المكاسب العلمية والتقنية، كما نشير إلى الديمقراطية وتطوُّر الإنتاج. إن مآثر الحداثة تتعدَّى ذلك، إنها تقف وراء النزعة الإنسانية والوعي التاريخي وهما معاً من المكاسب الجديدة في تاريخ الفكر، متوخِّيةً من وراء كل ما ذكرنا، الإعلاء من شأن الإنسان والإرادة والحرية.
نتبيَّن في ضوء ما سبق، أن انخراط المجتمعات العربية في مشروع الحداثة والتحديث يتطلب أن نُولِي عناية خاصة للجبهة الثقافية، حتى يتسنى لنا توضيح المشروع الحداثي لأنفسنا ولذاتنا التاريخية أولاً، ونُعَايِنُ أنماط تمثلنا واستيعابنا لمكاسبها ثانياً، الأمر الذي يعزِّز مساعينا التاريخية الرامية، إلى مواصلة العمل الهادف إلى الانتقال بمشروع الحداثة من مستواه التقني الأداتي إلى مستواه التاريخي، أي ننتقل من السطح إلى العمق، من المظاهر إلى التصوُّرات والرؤى القادرة على تركيب المرجعية النظرية، اللاحمة لانخراطنا الفعلي في إبداع حداثتنا التاريخية.
يواصل المشروع الحداثي اليوم حضوره وتطوره، وهو يحرص على استيعاب ثورات المعرفة والسياسة والتواصل، كما نشأت وتطورت في التاريخ الحديث والمعاصر. وبناءً عليه، فإن الحداثة لا تُمْلَى ولا تُنْسَخ، بل تنشأ في تفاعل مع بعض الجوانب السائدة في المجتمع وتحوُّلاته. ويمكننا أن نقول، بعبارة جامعة، إنها تنشأ في إطار المشترك الإنساني.
لا توجد في التاريخ حداثة غربية وأخرى يابانية وثالثة إسلامية، فأسس الفعل الحداثي
يُقَرِّبُنا الطابع المتعدِّد للحداثة من التاريخ الكوني في تعدُّده وثرائه، إنه يُبْعِدُنا عن التصوُّرات المرتبطة بالحداثة بالمفرد بكل مضمراتها، وخصوصا تلك التي تَقْرِنُها بمجتمع واحد وتاريخ بعينه، ونمط مطلق من الفكر والتفكير، في الوقت الذي تؤكد فيه شواهِد التاريخ القريب والبعيد، أن الحداثة في كثير من أوجهها تشمل أزمنة متعدِّدة، كما تشمل تواريخ لا حصر لها. نزداد اقتناعاً بهذا، عندما نؤمن بأن الحداثة سيرورةٌ غير مكتملة، إنها فعلٌ ما يفتأ يتشكَّل ويتجاوز ذاته، يُصَحِّحها ويطوِّرُها ويمنحها مواصفات متحوِّلة.
وإذا كان بعضهم يرى أن النموذج الحداثي الغربي استنفد زمانه، حيث يعيش الغرب مآزقه الأخلاقية والمالية والبيئية والتقنية..، وحيث نقف في كثير من أنماط حضوره على جوانب من بُؤْس عالمنا وإفلاس قِيَّمه، إلا أننا نرى أن الفكر الذي يعلن عداءه للحداثة وانتصاراتها، لِيَتَحَصَّن بالقيم التقليدية ويُرَكِّب الأصوليات مجدَّداً، متخلياً عن كل ما راكمته البشرية في تاريخها الطويل من مآثر ومكاسب، يتناسى أن الحداثة تملك القدرة على إبداع مساراتها المتعدِّدة والمتطوِّرة ومواجهة أعطابها، بل ومواجهة ذاتها.
نستخدم مفهوم الحداثة المتعدِّدة في إطار مساعي المجتمعات البشرية، لِتَمَثُّل ما هو مشترك في
يمكن النظر إلى الحداثة باعتبارها الحالة المتقدِّمة لرصيد الخبرات العديدة التي بنتها البشرية خلال تاريخها الطويل، نحن نشير هنا إلى المكاسب العلمية والتقنية، كما نشير إلى الديمقراطية وتطوُّر الإنتاج. إن مآثر الحداثة تتعدَّى ذلك، إنها تقف وراء النزعة الإنسانية والوعي التاريخي وهما معاً من المكاسب الجديدة في تاريخ الفكر، متوخِّيةً من وراء كل ما ذكرنا، الإعلاء من شأن الإنسان والإرادة والحرية.
نتبيَّن في ضوء ما سبق، أن انخراط المجتمعات العربية في مشروع الحداثة والتحديث يتطلب أن نُولِي عناية خاصة للجبهة الثقافية، حتى يتسنى لنا توضيح المشروع الحداثي لأنفسنا ولذاتنا التاريخية أولاً، ونُعَايِنُ أنماط تمثلنا واستيعابنا لمكاسبها ثانياً، الأمر الذي يعزِّز مساعينا التاريخية الرامية، إلى مواصلة العمل الهادف إلى الانتقال بمشروع الحداثة من مستواه التقني الأداتي إلى مستواه التاريخي، أي ننتقل من السطح إلى العمق، من المظاهر إلى التصوُّرات والرؤى القادرة على تركيب المرجعية النظرية، اللاحمة لانخراطنا الفعلي في إبداع حداثتنا التاريخية.