12 اغسطس 2018
سياسة إثيوبيا الإقليمية في استهداف جيرانها
أصبحت الموارد المائية العذبة سلعةً ذات قيمة كبيرة، مثل النفط، وتحولت إلى مجالات لصراعات إقليمية وجيو - سياسية، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط، ومنطقة حوض النيل، حيث يجري نهر النيل في أكثر من دولة، فتصبح أنصبة المياه وحرية الملاحة مثار جدلٍ بين دول المنابع ودول المصب. ففي حوض النيل، تعتبر إثيوبيا بلد المنبع للنيل الأزرق، ومصر دولة المصب في وسط بيئة صحراوية جافة منذ آلاف السنين، والسودان دولة ترانزيت بين إثيوبيا ومصر. والأمر عينه ينطبق على نهر الفرات بصورة ما مماثلة للنيل، حيث المنابع في جبال تركيا، والعراق دولة مصب، وسورية دولة ترانزيت.
وتعاني الدول العربية من شح كبير في المياه، بسبب طبيعتها الجافة، وشبه الجافة، وهي من أكثر الدول حاجة إلى المياه. ومن المعروف تاريخياً أن المياه للدول، وكل الدول، ما يعكس ثلاثة أمور، الأول أنه رمز لغنى الدولة، والثاني مصدر ازدهارها الاقتصادي، والثالث ورقة رهان سياسي في يدها. وهكذا أصبحت مصادر المياه نقطة تجاذب بين دول المنطقة، وأحدثت وضعا أطلقت عليه تسمية "حرب المياه"، وقد برزت في عقد التسعينيات من القرن الماضي الأزمة المائية في كل منطقة الشرق الأوسط عامة، وحوض النيل خصوصا، إذ تسارعت وتيرة هذه الأزمة، بسبب النقص في المصادر المائية، لدى بعض دول المنطقة.
مصر وبناء سد النهضة
تعتبر قضية المياه من القضايا الحيوية التي تصل دول حوض النيل، وخصوصا دولتي
المصب، وهما مصر والسودان، فهاتان الدولتان تتغذيان من نهر النيل الذي هو أطول أنهار العالم، إذ طوله 6825 كلم. ويمتد على مساحة 3.1 ملايين كلم مربع، أي مساحة حوض النيل تحتل 10% من إجمالي مساحة القارة. ويبلغ الإيراد المائي لنهر النيل نحو 1600 مليار متر مكعب سنوياً، وهو إجمالي ما يسقط على الحوض من أمطار. وهذا يعني أن متوسط نصيب كل فرد من مواطني دول الحوض العشر يصل إلى نحو 4878 مترا مكعبا سنويا، الأمر الذي يؤكد حالة الوفرة الكمية للمياه، إلا أن معظم دول النيل، ما عدا مصر، لا تستخدم إلا قدراً ضئيلاً من إجمالي مواردها المائية المتجددة. وتستهلك دول المنبع كمياتٍ ضئيلة، فإثيوبيا تستهلك نحو 1% و كينيا 2%، وتنزانيا 3%، والكونغو 1%، وبوروندي 5%.
وللنيل رافدان رئيسان، النيل الأزرق والنيل الأبيض. وينبع الأخير من بحيرة فيكتوريا، وهي جسم ضخم من الماء العذب، تصل مساحته إلى 69.485 كيلومترا مربعا. وتعد ثانية أكبر بحيرات العالم بعد بحيرة سومير يور. وفي الخرطوم، يلتقي النيل الأبيض بالنيل الأزرق في منطقة المقرن (ملتقى النهرين).
وينبع النيل الأزرق من بحيرة تانا في المرتفعات الإثيوبية، ويسير من منبعه إلى الخرطوم قاطعا مسافة 1500 كلم، ويساهم النيل الأزرق وأنهار الهضبة الإثيوبية الأخرى بنسبة 84% من إيراد النيل على مدار العام، وترتفع هذه النسبة إلى 95% في موسم الفيضان. وبالتقاء النيلين، الأبيض والأزرق، يتكون النيل الرئيس الذي يسير من الخرطوم حتى مصبه، في رشيد، على البحر المتوسط، في سهول منبعه. ويصل إيراد النيل إلى 85 مليار متر مكعب عند أسوان، وهي حصيلة النيل الرئيس، إضافة إلى إيراد نهر عطبرة البالغ 13% من إجمالي إيراد النهر، ويجري اقتسام هذا الإيراد بين مصر والسودان، طبقا لاتفاقية عام 1959 بين البلدين التي تحدد 55.6 مليار متر مكعب لمصر و18.5 مليار متر مكعب للسودان.
وفي السنوات الأخيرة، برزت الأزمة المائية في مصر التي أصبحت قلقةً على حصتها من مياه النيل، وذلك للعوامل الرئيسة التالية:
1ـ النسبة العالية في النمو السكاني الديموغرافي، وهي من أعلى النسب في العالم وتصل إلى 3.5%، الأمر الذي جعل قسما من السكان ينتقل، بصورة مكثفة، من الريف إلى المدن، وبالتالي، أدى هذا إلى تزايدٍ في الطلب على المياه للاستعمالين المنزلي والصناعي. وهناك فارق ضخم بين عدد السكان في مصر وعدد السكان في دول الحوض الأخرى. وبالتالي، ستختلف الحاجة إلى التنمية الاقتصادية في الدول الأخرى، من حيث الكم والكلفة، على أن التقديرات تفيد بأنه في العام 2025 سينخفض نصيب الفرد سنويا في مصر إلى 500 متر مكعب من الماء، وهو أقل حد في المياه العذبة، وبالتالي من شأن أي تصرف من دول الحوض أن يؤدي إلى إنقاص حصة مصر المقرّرة من المياه، ما يهدد مباشرة المصلحة الوطنية المصرية.
2- وضع مشاريع طموحة جدا (سدود ضخمة على الأنهر) موضع التنفيذ لدى إثيوبيا، بهدف تحقيق زيادة مهمة في المساحات الزراعية المروية، وإنتاج كمية كبيرة من الطاقة الكهربائية. ولا شك أن المشروعات التي تخطط لها دول حوض النيل منذ سنوات، خصوصا إثيوبيا، تؤثر في الأمن القومي المصري.
3- مصر ملزمة، بشكل أو بآخر، بتنسيق (واستعمال) ثرواتها الطبيعية وقواها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والعسكرية، ضمن مخططات التنمية الطموحة الهادفة إلى تحقيق المصلحة القومية والثروة المائية. وهي من أهم الشرايين في جسم الدولة المصرية، وبالتالي هي جزء جوهري من مصلحتها في التنمية القومية. ولما كان لدى مصر خطط تنموية طموحة، فإن احتياجاتها من المياه ما انفكّت تتعاظم، إذا انتقلت من 55.5 مليار متر مكعب إلى حوالي 63 مليار متر مكعب. ومع دخول مصر القرن الواحد والعشرين، فإن احتياجاتها من المياه تصل الآن إلى حوالي 73 مليار متر مكعب.
والحال هذه، مصر في حاجة شديدة إلى المياه، لكن استراتيجيتها المائية الداخلية (استراتيجية التنمية) أصبحت محكومة ومحددة، إلى حد كبير، باستراتيجيات الدول الأخرى، بسبب اختراق النيل دولا عدة تربطها علاقات صراع وعداوة، الأمر الذي يصعّب تحقيق استراتيجية مائية مستقلة داخل مصر وحدها، بسبب وجود استراتيجيات دول حوض النيل الأخرى التي تعمل على إقامة مشروعات منذ سنوات، تضرّ بالأمن القومي المصري، ومن هذه المشروعات:
ـ بالنسبة إلى دول البحيرات العظمى، تشرع تنزانيا ورواندا وبوروندي في إقامة مشروعات عدة للري وتوليد الطاقة على نهر كاجيرا على بحيرة فيكتوريا.
ـ بالنسبة إلى بحيرة تانا وحوض النيل الأزرق، شرعت إثيوبيا في تنفيذ 33 مشروعاً للري ولتوليد الكهرباء حول النيل الأزرق. وهناك مشروعات أخرى قيد التنفيذ، منها إنشاء محطة لتوليد الكهرباء على بحيرة تانا، وإنشاء سد على نهر فيشا لزراعة قصب السكر. كما تقيم المجموعة الاقتصادية الأوروبية مشروعاتٍ عدة لتوفير مياه الري للمنطقة المحيطة ببحيرة تانا ولتوليد الكهرباء من البحيرات الواقعة جنوب غرب إثيوبيا، كما تبني روسيا سداً صغيراً على نهر البارو لري عشرة آلاف هكتار.
مراهنة إثيوبيا على إنتاج الطاقة الكهرمائية
يكمن هدف الحكومة الإثيوبية، في السنوات المقبلة، في تحويل إثيوبيا، هذا البلد الأفريقي الفقير، إلى قوة إقليمية لإنتاج الطاقة الكهربائية، وتكريس نفوذها في منطقة القرن والحوض الأفريقيين، حيث يضم القرن الأفريقي الصومال وإريتريا وجيبوتي، بينما يضم النيل كلاً من جنوب السودان والسودان وأوغندا. إضافة إلى ذلك، تستغل إثيوبيا تراجع مصر في أداء دورها الإقليمي في القارة الأفريقية، إذ هناك بون شاسع بين سياسات الزعيم الراحل جمال عبد الناصر تجاه أفريقيا، ولا سيما في ضوء تراجع الموارد المالية والأزمة الاقتصادية التي تؤثر بشكل لافت في برامج مصر الطموحة، والتحديات التي تواجهها مصر في المرحلة الراهنة، على
صعيد التهديدات المتعلقة بالأمن الغذائي والمائي، وخصوصا أن إثيوبيا تنحو منحى هجوميًا نحو القاهرة، من أجل تعديل الاتفاقيات التاريخية التي عقدتها مصر في سنوات 1891 و1929 و1959، المتعلقة بحصتها من مياه حوض النيل، باعتبار أن إثيوبيا مصدر المياه. لذا تعتبر اتفاقية 1959 هي المحورية، والتي ضمنت استحواذ مصر والسودان على 90% من إجمالي مياه النيل، بواقع 84 مليار متر مكعب، تذهب 55 مليار متر مكعب منها إلى مصر، و18 مليار متر مكعب إلى السودان.
وعرفت العلاقات المصرية - الإثيوبية توتراتٍ كثيرة على خلفية بناء سد النهضة، وتنامي الطموحات الإثيوبية المائية التي باتت تشكل تهديداً لمصر، وبدأت إثيوبيا في التفكير في بناء سد النهضة بين العامين 1956 و1964، وهي الفترة التي أجرت فيها الولايات المتحدة عمليات تحديد موقع مشروع "سد النهضة الإثيوبي الكبير"، عن طريق دراسة للمكتب الأميركي للاستصلاح، والذي اقترح تقريره 33 مكانا لإنشاء سدود للري، وأخرى للكهرباء، أو متعدّد الأغراض، وكان أكبرها قرب الحدود السودانية، أي مكان سد النهضة الحالي، وكان يسمى "سد الحدود"، ربما كان اختيار هذا المكان بالتحديد ردا أميركيا علي اتفاقية 1959 بين مصر والسودان، وبداية إنشاء السد العالي. ويتحكم السد في هذا المكان في كل مياه حوض النيل الأزرق، بما يرفده من شبكته النهرية، فيما عدا نهري الدندر والرهد اللذين يدخلان السودان مباشرة.
ومع قدوم عام 1995، حدثت قطيعة تامة في العلاقات، بعد محاولة الاغتيال التي تعرّض لها الرئيس الأسبق، حسني مبارك، في أديس أبابا إبّان زيارته لحضور مؤتمر منظمة الوحدة الأفريقية، بعد تصاعد لهجة التصريحات الرسمية والإعلامية العدائية المتبادلة بين البلدين. واستمرّت القطيعة حتى قيام ثورة يناير في 2011، فاستغلت إثيوبيا التوترات السياسية التي عصفت بمصر إبّان الثورة يناير، وبدأت الخطوات الإنشائية للسد في هذا العام تحديدًا. أما مواصفات السد: كثير من الأرقام الآتية مجرد تقديرات وتخمينات من مصادر مختلفة، حيث البيانات الدقيقة غير متوفرة، إما لعدم وجودها، أو لأنها طي الكتمان، ارتفاع جسم السد 170 مترا (سابقا كان 145 مترا) وطوله 1800 متر، وتمتد البحيرة إلى مسافة 175 كلم بحجم مياه بين 63 إلى 70 مليار متر مكعب (تقدير سابق 24 مليارا). إنتاج الطاقة من 16 توربينا مقسمة على الجانبين، كل منها يحتوي على ثمانية توربينات، ينتج كل واحد منها 375 ميغاوات. الطاقة المصممة تبلغ 6000 ميغاوات، لكن خبراء أجانب يشكّكون في هذه الأرقام، ويرجحون أنها 2000 ميغاوات فقط. وتقدرالكلفة المعلنة للبناء وتوربينات الطاقة بـ4.8 مليارات دولار أميركي، منها 1.8 مليار دولار قيمة التوربينات من شركة فرنسية، قيل إن بنوكا صينية موّلتها أو ستمولها، وتموّل الحكومة المليارات الثلاثة الباقية بسنداتٍ تباع للشعب والعاملين في الخارج.
وتقدر الكلفة الإجمالية لبناء هذا السد العملاق حوالي 4.8 مليارات دولار، أغلبها تمويل حكومي من إثيوبيا، عن طريق سندات للإثيوبيين في الخارج، في وقت يبلغ فيه الناتج المحلي الإجمالي لإثيوبيا 21 مليار يورو. وكانت الصين شريكا أساسيا في بناء السد منذ عام 2013، حين وقعت شركة الطاقة الكهربائية الإثيوبية مع شركة المعدات والتكنولوجيا المحدودة الصينية اتفاقية لإقراض أديس أبابا ما يعادل مليار دولار، من أجل بناء مشروع خط نقل الطاقة الكهربائية لمشروع سد النهضة، بالإضافة إلى الخبرات البشرية التي تشارك بها الصين، بجانب المليار دولار، فقد أقرض بنك الصين الصناعي إثيوبيا 500 مليون دولار في عام 2010، من أجل إعداد الدراسات للسد في بدايته، لتصبح أكبر دولة مشاركة في بنائه.
أما إيطاليا فتعد أحد المساهمين في مشروع السد، من خلال شركة ساليني إمبراليجيو المختصة بتشييد السدود، وهي التي تقوم على بنائه منذ عام 2011. ويعتبر البنك الدولي أيضًا الممول الرئيسي للسد.
لدى إثيوبيا طموح كبير بتصدير الكهرباء إلى قسم كبير من القارة الأفريقية، فحسب دراسة حديثة أعدها البنك الدولي، تنتج الثماني والأربعون دولة أفريقية جنوب الصحراء (800 مليون نسمة) مجتمعة من الكهرباء ما تنتجه إسبانيا (45 مليون نسمة). وهكذا، فإن إثيوبيا التي تريد أن تلقب نفسها "قصر الماء لشرق أفريقيا"، حيث إن 2% فقط من سكانها الريفيين (80% من 80 مليونا عدد سكانها) تصل الكهرباء إلى بيوتهم، تطمح إلى إنتاج مزيد من الطاقة الكهربائية، لتحقيق نهضتها التنموية، إضافة إلى تصدير الكهرباء من أجل الحصول على العملة الصعبة. وقد وقعت إثيوبيا عقدا مع السودان لتصدير الطاقة الكهربائية إليه بقيمة 150 ألف دولار يوميا، وهناك عقود أخرى تم التوقيع عليها مع كل من كينيا وجيبوتي.
وتعاني الدول العربية من شح كبير في المياه، بسبب طبيعتها الجافة، وشبه الجافة، وهي من أكثر الدول حاجة إلى المياه. ومن المعروف تاريخياً أن المياه للدول، وكل الدول، ما يعكس ثلاثة أمور، الأول أنه رمز لغنى الدولة، والثاني مصدر ازدهارها الاقتصادي، والثالث ورقة رهان سياسي في يدها. وهكذا أصبحت مصادر المياه نقطة تجاذب بين دول المنطقة، وأحدثت وضعا أطلقت عليه تسمية "حرب المياه"، وقد برزت في عقد التسعينيات من القرن الماضي الأزمة المائية في كل منطقة الشرق الأوسط عامة، وحوض النيل خصوصا، إذ تسارعت وتيرة هذه الأزمة، بسبب النقص في المصادر المائية، لدى بعض دول المنطقة.
مصر وبناء سد النهضة
تعتبر قضية المياه من القضايا الحيوية التي تصل دول حوض النيل، وخصوصا دولتي
وللنيل رافدان رئيسان، النيل الأزرق والنيل الأبيض. وينبع الأخير من بحيرة فيكتوريا، وهي جسم ضخم من الماء العذب، تصل مساحته إلى 69.485 كيلومترا مربعا. وتعد ثانية أكبر بحيرات العالم بعد بحيرة سومير يور. وفي الخرطوم، يلتقي النيل الأبيض بالنيل الأزرق في منطقة المقرن (ملتقى النهرين).
وينبع النيل الأزرق من بحيرة تانا في المرتفعات الإثيوبية، ويسير من منبعه إلى الخرطوم قاطعا مسافة 1500 كلم، ويساهم النيل الأزرق وأنهار الهضبة الإثيوبية الأخرى بنسبة 84% من إيراد النيل على مدار العام، وترتفع هذه النسبة إلى 95% في موسم الفيضان. وبالتقاء النيلين، الأبيض والأزرق، يتكون النيل الرئيس الذي يسير من الخرطوم حتى مصبه، في رشيد، على البحر المتوسط، في سهول منبعه. ويصل إيراد النيل إلى 85 مليار متر مكعب عند أسوان، وهي حصيلة النيل الرئيس، إضافة إلى إيراد نهر عطبرة البالغ 13% من إجمالي إيراد النهر، ويجري اقتسام هذا الإيراد بين مصر والسودان، طبقا لاتفاقية عام 1959 بين البلدين التي تحدد 55.6 مليار متر مكعب لمصر و18.5 مليار متر مكعب للسودان.
وفي السنوات الأخيرة، برزت الأزمة المائية في مصر التي أصبحت قلقةً على حصتها من مياه النيل، وذلك للعوامل الرئيسة التالية:
1ـ النسبة العالية في النمو السكاني الديموغرافي، وهي من أعلى النسب في العالم وتصل إلى 3.5%، الأمر الذي جعل قسما من السكان ينتقل، بصورة مكثفة، من الريف إلى المدن، وبالتالي، أدى هذا إلى تزايدٍ في الطلب على المياه للاستعمالين المنزلي والصناعي. وهناك فارق ضخم بين عدد السكان في مصر وعدد السكان في دول الحوض الأخرى. وبالتالي، ستختلف الحاجة إلى التنمية الاقتصادية في الدول الأخرى، من حيث الكم والكلفة، على أن التقديرات تفيد بأنه في العام 2025 سينخفض نصيب الفرد سنويا في مصر إلى 500 متر مكعب من الماء، وهو أقل حد في المياه العذبة، وبالتالي من شأن أي تصرف من دول الحوض أن يؤدي إلى إنقاص حصة مصر المقرّرة من المياه، ما يهدد مباشرة المصلحة الوطنية المصرية.
2- وضع مشاريع طموحة جدا (سدود ضخمة على الأنهر) موضع التنفيذ لدى إثيوبيا، بهدف تحقيق زيادة مهمة في المساحات الزراعية المروية، وإنتاج كمية كبيرة من الطاقة الكهربائية. ولا شك أن المشروعات التي تخطط لها دول حوض النيل منذ سنوات، خصوصا إثيوبيا، تؤثر في الأمن القومي المصري.
3- مصر ملزمة، بشكل أو بآخر، بتنسيق (واستعمال) ثرواتها الطبيعية وقواها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والعسكرية، ضمن مخططات التنمية الطموحة الهادفة إلى تحقيق المصلحة القومية والثروة المائية. وهي من أهم الشرايين في جسم الدولة المصرية، وبالتالي هي جزء جوهري من مصلحتها في التنمية القومية. ولما كان لدى مصر خطط تنموية طموحة، فإن احتياجاتها من المياه ما انفكّت تتعاظم، إذا انتقلت من 55.5 مليار متر مكعب إلى حوالي 63 مليار متر مكعب. ومع دخول مصر القرن الواحد والعشرين، فإن احتياجاتها من المياه تصل الآن إلى حوالي 73 مليار متر مكعب.
والحال هذه، مصر في حاجة شديدة إلى المياه، لكن استراتيجيتها المائية الداخلية (استراتيجية التنمية) أصبحت محكومة ومحددة، إلى حد كبير، باستراتيجيات الدول الأخرى، بسبب اختراق النيل دولا عدة تربطها علاقات صراع وعداوة، الأمر الذي يصعّب تحقيق استراتيجية مائية مستقلة داخل مصر وحدها، بسبب وجود استراتيجيات دول حوض النيل الأخرى التي تعمل على إقامة مشروعات منذ سنوات، تضرّ بالأمن القومي المصري، ومن هذه المشروعات:
ـ بالنسبة إلى دول البحيرات العظمى، تشرع تنزانيا ورواندا وبوروندي في إقامة مشروعات عدة للري وتوليد الطاقة على نهر كاجيرا على بحيرة فيكتوريا.
ـ بالنسبة إلى بحيرة تانا وحوض النيل الأزرق، شرعت إثيوبيا في تنفيذ 33 مشروعاً للري ولتوليد الكهرباء حول النيل الأزرق. وهناك مشروعات أخرى قيد التنفيذ، منها إنشاء محطة لتوليد الكهرباء على بحيرة تانا، وإنشاء سد على نهر فيشا لزراعة قصب السكر. كما تقيم المجموعة الاقتصادية الأوروبية مشروعاتٍ عدة لتوفير مياه الري للمنطقة المحيطة ببحيرة تانا ولتوليد الكهرباء من البحيرات الواقعة جنوب غرب إثيوبيا، كما تبني روسيا سداً صغيراً على نهر البارو لري عشرة آلاف هكتار.
مراهنة إثيوبيا على إنتاج الطاقة الكهرمائية
يكمن هدف الحكومة الإثيوبية، في السنوات المقبلة، في تحويل إثيوبيا، هذا البلد الأفريقي الفقير، إلى قوة إقليمية لإنتاج الطاقة الكهربائية، وتكريس نفوذها في منطقة القرن والحوض الأفريقيين، حيث يضم القرن الأفريقي الصومال وإريتريا وجيبوتي، بينما يضم النيل كلاً من جنوب السودان والسودان وأوغندا. إضافة إلى ذلك، تستغل إثيوبيا تراجع مصر في أداء دورها الإقليمي في القارة الأفريقية، إذ هناك بون شاسع بين سياسات الزعيم الراحل جمال عبد الناصر تجاه أفريقيا، ولا سيما في ضوء تراجع الموارد المالية والأزمة الاقتصادية التي تؤثر بشكل لافت في برامج مصر الطموحة، والتحديات التي تواجهها مصر في المرحلة الراهنة، على
وعرفت العلاقات المصرية - الإثيوبية توتراتٍ كثيرة على خلفية بناء سد النهضة، وتنامي الطموحات الإثيوبية المائية التي باتت تشكل تهديداً لمصر، وبدأت إثيوبيا في التفكير في بناء سد النهضة بين العامين 1956 و1964، وهي الفترة التي أجرت فيها الولايات المتحدة عمليات تحديد موقع مشروع "سد النهضة الإثيوبي الكبير"، عن طريق دراسة للمكتب الأميركي للاستصلاح، والذي اقترح تقريره 33 مكانا لإنشاء سدود للري، وأخرى للكهرباء، أو متعدّد الأغراض، وكان أكبرها قرب الحدود السودانية، أي مكان سد النهضة الحالي، وكان يسمى "سد الحدود"، ربما كان اختيار هذا المكان بالتحديد ردا أميركيا علي اتفاقية 1959 بين مصر والسودان، وبداية إنشاء السد العالي. ويتحكم السد في هذا المكان في كل مياه حوض النيل الأزرق، بما يرفده من شبكته النهرية، فيما عدا نهري الدندر والرهد اللذين يدخلان السودان مباشرة.
ومع قدوم عام 1995، حدثت قطيعة تامة في العلاقات، بعد محاولة الاغتيال التي تعرّض لها الرئيس الأسبق، حسني مبارك، في أديس أبابا إبّان زيارته لحضور مؤتمر منظمة الوحدة الأفريقية، بعد تصاعد لهجة التصريحات الرسمية والإعلامية العدائية المتبادلة بين البلدين. واستمرّت القطيعة حتى قيام ثورة يناير في 2011، فاستغلت إثيوبيا التوترات السياسية التي عصفت بمصر إبّان الثورة يناير، وبدأت الخطوات الإنشائية للسد في هذا العام تحديدًا. أما مواصفات السد: كثير من الأرقام الآتية مجرد تقديرات وتخمينات من مصادر مختلفة، حيث البيانات الدقيقة غير متوفرة، إما لعدم وجودها، أو لأنها طي الكتمان، ارتفاع جسم السد 170 مترا (سابقا كان 145 مترا) وطوله 1800 متر، وتمتد البحيرة إلى مسافة 175 كلم بحجم مياه بين 63 إلى 70 مليار متر مكعب (تقدير سابق 24 مليارا). إنتاج الطاقة من 16 توربينا مقسمة على الجانبين، كل منها يحتوي على ثمانية توربينات، ينتج كل واحد منها 375 ميغاوات. الطاقة المصممة تبلغ 6000 ميغاوات، لكن خبراء أجانب يشكّكون في هذه الأرقام، ويرجحون أنها 2000 ميغاوات فقط. وتقدرالكلفة المعلنة للبناء وتوربينات الطاقة بـ4.8 مليارات دولار أميركي، منها 1.8 مليار دولار قيمة التوربينات من شركة فرنسية، قيل إن بنوكا صينية موّلتها أو ستمولها، وتموّل الحكومة المليارات الثلاثة الباقية بسنداتٍ تباع للشعب والعاملين في الخارج.
وتقدر الكلفة الإجمالية لبناء هذا السد العملاق حوالي 4.8 مليارات دولار، أغلبها تمويل حكومي من إثيوبيا، عن طريق سندات للإثيوبيين في الخارج، في وقت يبلغ فيه الناتج المحلي الإجمالي لإثيوبيا 21 مليار يورو. وكانت الصين شريكا أساسيا في بناء السد منذ عام 2013، حين وقعت شركة الطاقة الكهربائية الإثيوبية مع شركة المعدات والتكنولوجيا المحدودة الصينية اتفاقية لإقراض أديس أبابا ما يعادل مليار دولار، من أجل بناء مشروع خط نقل الطاقة الكهربائية لمشروع سد النهضة، بالإضافة إلى الخبرات البشرية التي تشارك بها الصين، بجانب المليار دولار، فقد أقرض بنك الصين الصناعي إثيوبيا 500 مليون دولار في عام 2010، من أجل إعداد الدراسات للسد في بدايته، لتصبح أكبر دولة مشاركة في بنائه.
أما إيطاليا فتعد أحد المساهمين في مشروع السد، من خلال شركة ساليني إمبراليجيو المختصة بتشييد السدود، وهي التي تقوم على بنائه منذ عام 2011. ويعتبر البنك الدولي أيضًا الممول الرئيسي للسد.
لدى إثيوبيا طموح كبير بتصدير الكهرباء إلى قسم كبير من القارة الأفريقية، فحسب دراسة حديثة أعدها البنك الدولي، تنتج الثماني والأربعون دولة أفريقية جنوب الصحراء (800 مليون نسمة) مجتمعة من الكهرباء ما تنتجه إسبانيا (45 مليون نسمة). وهكذا، فإن إثيوبيا التي تريد أن تلقب نفسها "قصر الماء لشرق أفريقيا"، حيث إن 2% فقط من سكانها الريفيين (80% من 80 مليونا عدد سكانها) تصل الكهرباء إلى بيوتهم، تطمح إلى إنتاج مزيد من الطاقة الكهربائية، لتحقيق نهضتها التنموية، إضافة إلى تصدير الكهرباء من أجل الحصول على العملة الصعبة. وقد وقعت إثيوبيا عقدا مع السودان لتصدير الطاقة الكهربائية إليه بقيمة 150 ألف دولار يوميا، وهناك عقود أخرى تم التوقيع عليها مع كل من كينيا وجيبوتي.