05 نوفمبر 2024
"أستانة"... كعب أخيل بوتين
بدا اجتماع أستانة السوري، في نسخته الأولى، أشبه ما يكون بثمرة سياسية مجزية، اقتطفتها الدبلوماسية الروسية، قبل أن يحين موعد نضوجها الموسمي، ويطيب أكلها بالشوكة والسكين، حيث اتضح، بعد مرور وقت يسير، أن هذه الثمرة العجفاء عصيةٌ على الهضم، وكأنها حبة كمثرى، كل قضمة منها بغصّة، وذلك على نحو ما تجلى عليه الأمر في الاجتماعين اللاحقين في العاصمة الكازاخستانية الغافية في الحضن الروسي البارد.
وأحسب أن عقلية المنتصر، والرغبة في استثمار الإنجاز العسكري، وتحويله إلى مكسب سياسي روسي، قبل أن يتبدّد وهج الحملة الجوية الضارية على حلب، كان وراء استعجال موسكو في شق هذا المسار الموازي لمسار جنيف البطيء، لتظهير حقيقة أن سيد الكرملين هو صاحب اليد العليا في البلد الذي ازدحمت سماؤه بالطائرات متعدّدة الجنسيات، وتحول إلى ملعبٍ لتسوية الحسابات الإقليمية، وإعادة بناء التوازنات الدولية.
ففي لقاءات أستانة الأولى، كانت موسكو هي صاحبة الفكرة من الألف إلى الياء، وهي التي وضعت جدول الأعمال المكوّن من بند واحد، وهو تثبيت وقف إطلاق النار. كما أن الخارجية الروسية هي التي حدّدت بنفسها هوية المشاركين، ورسمت بذاتها أدوار اللاعبين الثانويين (تركيا وإيران)، وأبعدت العرب والأوروبيين، وتجاهلت القوى السياسية السورية (الائتلاف الوطني والهيئة العليا للمفاوضات)، وحدّث ولا حرج عن تهميش دور الأميركيين.
لقد بدت روسيا، في بداية هذا المسار الذي لم تفض محطاته الثلاث الأولى إلى أي شيء، دولة راغبة في إعادة تموضعها في خضم الأزمة التي تبدو بلا نهايةٍ مرئيةٍ، تحاول الانتقال من موضع الشريك الكامل لنظام الأسد إلى منزلة الوسيط الممتلئ بحس المسؤولية، الساعي إلى وقف حمام الدم السوري، أو تخفيف حدة اللهب المضطرم تحت مرجل الأزمة المستفحلة، الأمر الذي لم يكن في وسع أي عاصمة، أو أي طرف، الاعتراض على مبادرةٍ كهذه مشفوعة بحُسن النية.
غير أن عطباً بنيوياً كان كامناً في هيكل مسارٍ رتبت روسيا مكان انعقاده في إحدى الدول السوفييتية السابقة، ووقّتت زمانه في لحظة الفراغ المصاحب لعملية نقل السلطة في البيت الأبيض، وهي لحظة سبقتها فترة انكفاء أميركي طويلة، وذلك كله لكي تدلل الدولة الوارثة لأمجاد الاتحاد السوفييتي، أنها ربّة البيت لهذه الأزمة المديدة، وأنها تستحق دور الدولة العظمى الثانية على المسرح الدولي.
ومع انعقاد مؤتمر أستانة، في أوقات غير متباعدة، وفشله المتلاحق في إحراز أي تقدم من نوعه، بما في ذلك تثبيت وقف إطلاق النار، تجمعت في الأفق ملامح متزايدة على إخفاق روسي منكر في فرض حقائق الأمر الواقع على سائر الأطراف المعنية بدوامة الحرب الدامية، فلم تستطع موسكو، من خلال جذب الفصائل العسكرية إلى طاولة المؤتمر، شق المعارضة السورية. كما لم يستطع الكرملين أيضاً وضع إيران في جيب معطفه الشتوي، ناهيك عن تركيا التي بدأت تغيّر تدريجياً من موضع استدارتها السابقة.
وهكذا، ومع مرور مزيد من الوقت، اتضح أن الأداء الدبلوماسي الروسي قد وقع في خطأين كبيرين، يصعب على موسكو، المنتشية بنصرها الحربي في حلب، أن تخرج منهما معافاة سليمة؛ الأول محاولتها المكشوفة استبدال مسار جنيف المتعثر بمسار "صنع في روسيا"، ومن بنات أفكارها وحدها، والثاني طرح مشروع دستور سوري أثار حفيظة السوريين على اختلاف مواقفهم، حيث أجمع النظام والمعارضة على رفض هذه الصيغة التي لم يحن أوان كتابة نصها.
وفيما بقيت حصيلة مسار أستانة، في محطاته الثلاث، تساوي صفراً مكعباً، وتشير، في الوقت نفسه، إلى فشل سياسي أكبر بكثير من حجم الدور العسكري الروسي الراجح في سورية، عاد مسار جنيف الباهت يستعيد قدراً يسيراً من عافيته، ويستأثر بالأضواء والاهتمامات الدولية، فيما بدا المسار الذي لفّقته موسكو من وراء ظهر المرجعية الأممية، كأنه طريق فرعية ضيقة، لا تتسع لمرور عربةٍ ثقيلة الوزن كالعربة السورية، الأمر الذي وضع نقطة كبيرة في نهاية سطر الحركة الدبلوماسية الروسية، الساعية إلى الاستفراد الكلي، وأخذ الدور الحصري، وجعل انفرادها بالأزمة السورية حقيقة كلية ونهائية. ذلك أن الرياح التي هبت في أستانة على دفعات متلاحقة لم تجر وفق ما كانت تشتهيه السفينة الروسية المبحرة في أعالي مياه بحر سوري متلاطم الأمواج، حيث أدى الاستعجال في قطف ثمرة غير ناضجة، وطرح الدستور في هذه المرحلة المبكّرة، إلى نفور عام من هذه الذهنية الاستعلائية، التي أعادت إلى أذهان الجميع خطيئة الأميركيين في العراق، عندما وضع الحاكم العسكري، بول بريمر، وثيقة المحاصصة الشائنة التي لا يزال العراقيون يدفعون ثمن إملائها.
ولعل المحطة الأخيرة في مسار أستانة، ورفض المعارضة السورية المسلحة المشاركة في هذه اللعبة الدبلوماسية الماجنة، قد حوّلت هذا المسار إلى كعب أخيل، أي من رافعة كان مقدّراً لموسكو أن تقفز من فوقها لركوب ظهر الحصان السوري الجامح وحدها من دون شريك، إلى
نقطة ضعف مميتة، أصابت كبرياء الدولة الكبرى في مقتل دبلوماسي، وأوقعتها في حبائل أزمة حبلى بشتى المتغيرات الميدانية والسياسية، لا سيما بعد أن بدأت الإدارة الأميركية الجديدة تتخلى عن حذرها السابق، وترمي بثقلٍ متزايد، قد يغيّر قواعد اللعبة من أساسها.
وإذا كان من المرجح أن تواصل موسكو الزعم أن مؤتمرات أستانة ناجحة بالجملة والمفرّق، من دون أن تتمكّن من إصدار بيان مشترك واحد، أو أن ترسي وقفاً لإطلاق النار في الأراضي السورية، فإن من المرجح أيضاً أن تصطدم روسيا، في وقتٍ لن يكون بعيداً، بحقائق الأمر الواقع، الذي لا يستطيع فيه الكرملين اختطاف الأزمة السورية من بين أيدي كل هؤلاء المنخرطين في دهاليزها العميقة، وأن يعي مرغماً أنه مجرد لاعب ذي وزنٍ بين عدة لاعبين، لا يقلون عنه أهمية.
وقد يكون خير دليل على فشل هذا المسار الذي مات قبل أن يبدأ، ما أعربت عنه وزارة الخارجية الروسية أخيرا، وما تعللت به من فشل وخيبة أمل إزاء غياب فصائل المعارضة السورية عن اجتماع أستانة الأخير، وإلقاء تبعات ذلك على طرفٍ ثالث لم تسمه، وهو الطرف التركي على الأرجح، ما يشير إلى مدى افتقار الدول الثلاث المنخرطة في هذا المسار، وهي روسيا وتركيا وإيران، لعامل الثقة بعضها ببعض، وفي ذلك خلل بنيوي ظل مرافقاً لهذا الجهد الدبلوماسي الروسي العقيم من المهد إلى اللحد.
وأحسب أن عقلية المنتصر، والرغبة في استثمار الإنجاز العسكري، وتحويله إلى مكسب سياسي روسي، قبل أن يتبدّد وهج الحملة الجوية الضارية على حلب، كان وراء استعجال موسكو في شق هذا المسار الموازي لمسار جنيف البطيء، لتظهير حقيقة أن سيد الكرملين هو صاحب اليد العليا في البلد الذي ازدحمت سماؤه بالطائرات متعدّدة الجنسيات، وتحول إلى ملعبٍ لتسوية الحسابات الإقليمية، وإعادة بناء التوازنات الدولية.
ففي لقاءات أستانة الأولى، كانت موسكو هي صاحبة الفكرة من الألف إلى الياء، وهي التي وضعت جدول الأعمال المكوّن من بند واحد، وهو تثبيت وقف إطلاق النار. كما أن الخارجية الروسية هي التي حدّدت بنفسها هوية المشاركين، ورسمت بذاتها أدوار اللاعبين الثانويين (تركيا وإيران)، وأبعدت العرب والأوروبيين، وتجاهلت القوى السياسية السورية (الائتلاف الوطني والهيئة العليا للمفاوضات)، وحدّث ولا حرج عن تهميش دور الأميركيين.
لقد بدت روسيا، في بداية هذا المسار الذي لم تفض محطاته الثلاث الأولى إلى أي شيء، دولة راغبة في إعادة تموضعها في خضم الأزمة التي تبدو بلا نهايةٍ مرئيةٍ، تحاول الانتقال من موضع الشريك الكامل لنظام الأسد إلى منزلة الوسيط الممتلئ بحس المسؤولية، الساعي إلى وقف حمام الدم السوري، أو تخفيف حدة اللهب المضطرم تحت مرجل الأزمة المستفحلة، الأمر الذي لم يكن في وسع أي عاصمة، أو أي طرف، الاعتراض على مبادرةٍ كهذه مشفوعة بحُسن النية.
غير أن عطباً بنيوياً كان كامناً في هيكل مسارٍ رتبت روسيا مكان انعقاده في إحدى الدول السوفييتية السابقة، ووقّتت زمانه في لحظة الفراغ المصاحب لعملية نقل السلطة في البيت الأبيض، وهي لحظة سبقتها فترة انكفاء أميركي طويلة، وذلك كله لكي تدلل الدولة الوارثة لأمجاد الاتحاد السوفييتي، أنها ربّة البيت لهذه الأزمة المديدة، وأنها تستحق دور الدولة العظمى الثانية على المسرح الدولي.
ومع انعقاد مؤتمر أستانة، في أوقات غير متباعدة، وفشله المتلاحق في إحراز أي تقدم من نوعه، بما في ذلك تثبيت وقف إطلاق النار، تجمعت في الأفق ملامح متزايدة على إخفاق روسي منكر في فرض حقائق الأمر الواقع على سائر الأطراف المعنية بدوامة الحرب الدامية، فلم تستطع موسكو، من خلال جذب الفصائل العسكرية إلى طاولة المؤتمر، شق المعارضة السورية. كما لم يستطع الكرملين أيضاً وضع إيران في جيب معطفه الشتوي، ناهيك عن تركيا التي بدأت تغيّر تدريجياً من موضع استدارتها السابقة.
وهكذا، ومع مرور مزيد من الوقت، اتضح أن الأداء الدبلوماسي الروسي قد وقع في خطأين كبيرين، يصعب على موسكو، المنتشية بنصرها الحربي في حلب، أن تخرج منهما معافاة سليمة؛ الأول محاولتها المكشوفة استبدال مسار جنيف المتعثر بمسار "صنع في روسيا"، ومن بنات أفكارها وحدها، والثاني طرح مشروع دستور سوري أثار حفيظة السوريين على اختلاف مواقفهم، حيث أجمع النظام والمعارضة على رفض هذه الصيغة التي لم يحن أوان كتابة نصها.
وفيما بقيت حصيلة مسار أستانة، في محطاته الثلاث، تساوي صفراً مكعباً، وتشير، في الوقت نفسه، إلى فشل سياسي أكبر بكثير من حجم الدور العسكري الروسي الراجح في سورية، عاد مسار جنيف الباهت يستعيد قدراً يسيراً من عافيته، ويستأثر بالأضواء والاهتمامات الدولية، فيما بدا المسار الذي لفّقته موسكو من وراء ظهر المرجعية الأممية، كأنه طريق فرعية ضيقة، لا تتسع لمرور عربةٍ ثقيلة الوزن كالعربة السورية، الأمر الذي وضع نقطة كبيرة في نهاية سطر الحركة الدبلوماسية الروسية، الساعية إلى الاستفراد الكلي، وأخذ الدور الحصري، وجعل انفرادها بالأزمة السورية حقيقة كلية ونهائية. ذلك أن الرياح التي هبت في أستانة على دفعات متلاحقة لم تجر وفق ما كانت تشتهيه السفينة الروسية المبحرة في أعالي مياه بحر سوري متلاطم الأمواج، حيث أدى الاستعجال في قطف ثمرة غير ناضجة، وطرح الدستور في هذه المرحلة المبكّرة، إلى نفور عام من هذه الذهنية الاستعلائية، التي أعادت إلى أذهان الجميع خطيئة الأميركيين في العراق، عندما وضع الحاكم العسكري، بول بريمر، وثيقة المحاصصة الشائنة التي لا يزال العراقيون يدفعون ثمن إملائها.
ولعل المحطة الأخيرة في مسار أستانة، ورفض المعارضة السورية المسلحة المشاركة في هذه اللعبة الدبلوماسية الماجنة، قد حوّلت هذا المسار إلى كعب أخيل، أي من رافعة كان مقدّراً لموسكو أن تقفز من فوقها لركوب ظهر الحصان السوري الجامح وحدها من دون شريك، إلى
وإذا كان من المرجح أن تواصل موسكو الزعم أن مؤتمرات أستانة ناجحة بالجملة والمفرّق، من دون أن تتمكّن من إصدار بيان مشترك واحد، أو أن ترسي وقفاً لإطلاق النار في الأراضي السورية، فإن من المرجح أيضاً أن تصطدم روسيا، في وقتٍ لن يكون بعيداً، بحقائق الأمر الواقع، الذي لا يستطيع فيه الكرملين اختطاف الأزمة السورية من بين أيدي كل هؤلاء المنخرطين في دهاليزها العميقة، وأن يعي مرغماً أنه مجرد لاعب ذي وزنٍ بين عدة لاعبين، لا يقلون عنه أهمية.
وقد يكون خير دليل على فشل هذا المسار الذي مات قبل أن يبدأ، ما أعربت عنه وزارة الخارجية الروسية أخيرا، وما تعللت به من فشل وخيبة أمل إزاء غياب فصائل المعارضة السورية عن اجتماع أستانة الأخير، وإلقاء تبعات ذلك على طرفٍ ثالث لم تسمه، وهو الطرف التركي على الأرجح، ما يشير إلى مدى افتقار الدول الثلاث المنخرطة في هذا المسار، وهي روسيا وتركيا وإيران، لعامل الثقة بعضها ببعض، وفي ذلك خلل بنيوي ظل مرافقاً لهذا الجهد الدبلوماسي الروسي العقيم من المهد إلى اللحد.
مقالات أخرى
29 أكتوبر 2024
22 أكتوبر 2024
15 أكتوبر 2024