08 نوفمبر 2024
إخوان مصر... بين التشظي وحكاية "المراجعات"
قيل الكثير عن ضرورة إجراء جماعة الإخوان المسلمين، لا في مصر فحسب، بل في كل أماكن وجودها، مراجعات حقيقية، جادة، وعميقة، فالجماعة تعيش أزمة وجودية، تنظيمياً وفكرياً، حيث إن كثيرًا من "مسلماتها" التاريخية الفكرية أضحت محل نزاع شديد داخل صفوفها، وليس خارجها فقط. ولعل في المطالب المتصاعدة داخل أطرها التنظيمية بضرورة "الفصل" بين الديني والسياسي، وبين التنظيمي وحقل العمل العام، ما يغني عن مزيد توضيح ومزيد أمثلة. وقد سبق لصاحب هذه السطور أن كتب مقالة في "العربي الجديد" بعنوان: "الإخوان المسلمون... التجديد أو الاضمحلال"، أكد فيها ما سبق، فضلا عن الإشارة إلى أن كثيرين داخل صفوف الجماعة، من قيادات وأعضاء، ما زالوا يعيشون حالة إنكار إزاء ذلك. ولا بد من التذكير هنا بمسألةٍ أشرت إليها من قبل، وهي أن الفوضى داخل صفوف الإخوان المسلمين ليست ذات منشأ داخلي فحسب، بل هي نتيجة، كذلك، للقمع الوحشي الذي تتعرّض له في غير بلد، ومصر، لا شك في مقدمة القائمة.
ضمن السياق السابق، يبدو أن تياراً داخل الجماعة الأم في مصر، رأى فعلا ضرورة إطلاق سيرورة المراجعات، وهو ما أفضى إلى إصدار ما يعرف بـ "المكتب العام لجماعة الإخوان المسلمين"، قبل أيام، ما وصفه بأنه "منتج أولي"، بعنوان "تقييمات ما قبل الرؤية.. إطلالة على الماضي". وحسب بيان للمكتب، والذي يعرف أيضا بـ "تيار التغيير" أو "القيادة الشبابية"، فإن "التقييم" (التقويم) الأولي يمثل "خلاصاتٍ لدراسات وأبحاث وورش عمل، قام بها متخصصون في علوم الاجتماع والسياسة والقانون والشريعة، كما شارك فيه بعض قيادات الإخوان وكوادرهم في الداخل والخارج". كما أن البيان يفيد بأن هذا التقييم أو هذه المراجعة (بيان المكتب يستخدم مصطلح المراجعة كما مصطلح التقييم) عرضت على "ما يزيد على 100 من المفكرين والسياسيين وأصحاب الرأي والشخصيات العامة والعلماء والمهتمين بالشأن الإخواني خصوصا والإسلامي عامة، والقضية الوطنية المصرية". ولم يكد التقييم يخرج إلى النور، حتى سارع مكتب الإرشاد في الجماعة، بقيادة محمود عزت، إلى التنصّل منه رسمياً. و"مكتب الإرشاد"، الأصل فيه أنه أعلى سلطة مركزية في الجماعة، يخوض صراعاً مع "المكتب العام" على شرعية تمثيل الجماعة.
وبالمناسبة، وللتوضيح فقط، أعلن "المكتب العام لجماعة الإخوان المسلمين"، عن ورقة
المراجعة في بيانٍ على صفحته على الإنترنت، في التاسع عشر من الشهر الجاري، على أساس أن تنشر الورقة كاملة في الواحد والعشرين من شهر مارس/ آذار الجاري، غير أن الورقة لم تنشر بعد رسمياً، بل سربت، بقصد أم غيره، إلى مواقع أخرى، لنشرها ضمن أربعة محاور معلنة، ولكن في الورقة المسربة، لا تجد إلا ثلاثة محاور، حيث يغيب الرابع، وإن كانت المواقع التي نشرت الوثيقة تشير إلى ملخصه.
قبل طرح ملاحظات على المراجعة، لابد أولا من تلخيص أهم النقاط التي جاءت فيها، وانتظمت في أربعة محاور رئيسة: غياب ترتيب الأولويات. العلاقة مع الثورة. العلاقة مع الدولة. الممارسة الحزبية لجماعة الإخوان المسلمين (هذا المحور الغائب من ورقة التسريبات، وأشارت المواقع التي نشرت وثيقة المراجعة إلى ملخصه).
في المحور الأول، تقول المراجعة: "على الأقل، خلال العقود الثلاثة التي سبقت الثورة طوال عهد حسني مبارك، كان التركيز التنظيمي التنفيذي للإخوان المسلمين على الجانب المجتمعي. وفي ظل هذا الجانب، كان يأتي التعامل بصفة تابعة مع محاور العمل العام الأخرى: السياسية والاقتصادية والدعوية والإعلامية". أما المحور الثاني فتخلص فيه المراجعة إلى ضعف التصورات الفكرية والسياسية للجماعة تجاه الثورة، واضطراب خطابها الإعلامي، قبل الثورة وفي أثنائها وبعدها. كما تشير إلى عدم الاستفادة المثلى من الرموز الثورية داخل الجماعة، وتقديم التنظيميين عليهم، فضلا عن عدم الجاهزية السياسية لإدارة مرحلة الثورة الانتقالية. ويؤكد أن الجماعة لم تنتبه لخطورة انفراد العسكر بوضع الأسس والأطر الحاكمة للمرحلة الانتقالية. في المحور الثالث، تتهم المراجعة الجماعة بالقبول بالعمل السياسي تحت السقف، والأفق الذي فرضته الدولة، وعدم محاولة رفع ذلك السقف أو تجاوزه. كما تتهم قيادة الجماعة بالقبول بأن تكون الجماعة ملفاً أمنياً على مدى عقود طويلة، وعدم السعي إلى تحويله إلى ملف سياسي. أيضا، فإنها تشير إلى غياب أي مؤشراتٍ للطموح السياسي عند الجماعة، أو في مساحة تطوير الفكر السياسي، أو التنظير له في مجالات "التعلم والتدريب الأكاديمي والتأليف". فضلا عن عدم انتهاز فرص الانفتاح والتمدد للضغط على النظام؛ كما في برلمان 2005، والذي حققت فيه الجماعة إنجازاً كبيراً. وتؤكد أن الجماعة فشلت في القيام بعملٍ جاد لتجعل من مسألة "حرمان منتسبي جماعة الإخوان المسلمين من الوجود في المؤسسات العامة للدولة؛ كقضية رأي عام ضاغط أو مطلب عادل والاستسلام في ذلك للواقع". أما المحور الرابع فقد تطرق إلى علاقة الجماعة بذراعها السياسية (حزب الحرية والعدالة)، بعد سقوط نظام مبارك عام 2011، وأشارت إلى ما وصفته بـ "التداخل الوظيفي والمقاصدي بين الحزبي التنافسي والدعوي التنظيمي".
هذا ملخص المراجعة، ويحتاج القارئ إلى العودة إلى النسخ المسرّبة المنشورة لها للإحاطة
بالتفاصيل. وفيما يلي أعرض ملاحظاتٍ على هذه المراجعة الأولية، كما يصفها أصحابها.
أولا، للأسف، هذا الجهد الذي بذل يفقد كثيرا من قيمته، إذ يجيء في سياق تشرذم وتشظٍ في الجماعة المصرية، ومناكفة وصراع قيادي على تمثيلها. وكما سبقت الإشارة، فإن "مكتب الإرشاد" رفض التعامل معها أو إقرارها. ولا يعرف كيف يمكن للجماعة أن تنجح في التواصل مع التيارات الأخرى من الخصوم، أو حتى شركاء الثورة، وهي ما زالت عاجزة عن أن توحد صفوفها، حتى وهي تتعرّض للاجتثاث! وبالمناسبة، جُلّ القيادات المتنافسة تعيش في تركيا، فإذا كانت عاجزةً عن الالتقاء، حتى وهي في مأمن نسبي، فكيف لها أن توحد صفاً ثورياً، أو تكون جزءاً منه!؟
ثانياً، على الرغم من أن "التقييم" أو المراجعة تتضمن نقاطاً مهمة كثيرة، غير أنها لا تذهب بعيداً بما فيه الكفاية، ولا تغوص في أعماق الأزمة الإخوانية اليوم، فكرياً وتنظيمياً. ولذلك، أجد نفسي مقتنعاً بأن هذه المراجعة ما هي إلا قراءة بأثر رجعي لأخطاء وقع فيها "الإخوان المسلمون" خلال عامين، ما بين 2011، وحتى وقوع الانقلاب العسكري الدموي عام 2013. وبهذا، فإنها تغدو قراءة لا تغني ولا تسمن من جوع، ذلك أن المطلوب، فضلا عن الاعتراف بأخطاء الماضي والتعلم منها، وضع تصور مستقبلي لما تنتقد الورقة غيابه إخوانياً، سواء عن مفهوم العمل السياسي، أم فصل مجالات العملين الدعوي والحزبي، أو المجتمعي والسياسي.. إلخ. للأسف، لم نر في هذه الورقة ما يشير إلى تأسيس معرفي ومرجعي، ولو حتى بشكل أولي، للمسائل الأساس، كموقف "الإخوان" من الديمقراطية والمواطنة وشكل الحكم والدولة.. إلخ. حتى مسألة فصل الدعوي عن الحزبي، أو تمييز الحقلين، الديني عن السياسي، يحتاجان إلى تأسيس فكري ومعرفي، ذلك أن المدرسة الإخوانية قامت، ولتسعين عاماً، على عدم الاعتراف بالفواصل بينهم.
ثالثاً، صحيح أن الورقة تحمّل جزءاً كبيراً من مسؤولية "فشل" أو "تَفْشيلِ" الإخوان على مدى عقود عمرها في العمل العام، وتحديداً في إدارة الدولة خلال فترة رئاسة الرئيس محمد مرسي (2012-2013)، للنظام الرسمي القمعي، غير أنها لا تقدم تحليلاً واضحاً لبنية هذا النظام وكيفية التعامل معه. فحتى لو أصلح "الإخوان" كل أخطائهم، هل يعني هذا أن نظام البطش العربي سيغيب أو يسلم الراية لأي تغيير ديمقراطي سلمي!؟
رابعاً، الورقة، وإن كانت تُحَمِّلُ بعض المسؤولية للتيارات الأخرى من ثورية وليبرالية ويسارية وإسلامية سلفية.. إلخ، إلا أنها لا تقدم تحليلا شافيا في هذا السياق. ففي كل الأحوال، فإن مسؤولية فشل الثورات العربية، فضلا عن أنها مسؤولية إخوانية، فإنها جماعية، بل ومجتمعية كذلك، كما هي مسؤولية أنظمة القمع والدعم الخارجي الذي تلقته وتتلقاه.
خامساً، ونتيجة كل ما سبق، لا تعدو ورقة المراجعة هذه أن تكون أكثر من محاولة طرفٍ داخل "الإخوان" إبراء ذمته من الأخطاء الكارثية التي وقعت خلال عاميّ الثورة، ذلك أن كثيرين منهم كانوا في مواقع قيادية في الجماعة، بل وفي نظام الرئيس محمد مرسي، خلال ذينك العامين.
باختصار، ورقة المراجعة هذه أبعد ما تكون عن مفهوم المراجعة، بل هي قراءة سطحية، وبأثر رجعي، لأخطاء وقعت خلال عامي الثورة، وهي تأتي في سياقٍ من المناكفة والتحلل من المسؤولية. إنها فرصة أخرى ضائعة، كما أضعنا ثوراتنا من قبل، لإحداث انعطافةٍ ذات معنى في مسار مجتمعاتنا ومستقبلنا، نحن العرب. وها هم خصوم المراجعة اليوم يستغلون ضحالة هذه الورقة، والتي وللمفارقة، يقول أصحابها إنها عرضت على "ما يزيد على 100 من المفكرين والسياسيين وأصحاب الرأي والشخصيات العامة والعلماء"! ويبقى السؤال قائماً: هل يؤتمن من كان طرفا في الفشل على مراجعة أخطائه؟
ضمن السياق السابق، يبدو أن تياراً داخل الجماعة الأم في مصر، رأى فعلا ضرورة إطلاق سيرورة المراجعات، وهو ما أفضى إلى إصدار ما يعرف بـ "المكتب العام لجماعة الإخوان المسلمين"، قبل أيام، ما وصفه بأنه "منتج أولي"، بعنوان "تقييمات ما قبل الرؤية.. إطلالة على الماضي". وحسب بيان للمكتب، والذي يعرف أيضا بـ "تيار التغيير" أو "القيادة الشبابية"، فإن "التقييم" (التقويم) الأولي يمثل "خلاصاتٍ لدراسات وأبحاث وورش عمل، قام بها متخصصون في علوم الاجتماع والسياسة والقانون والشريعة، كما شارك فيه بعض قيادات الإخوان وكوادرهم في الداخل والخارج". كما أن البيان يفيد بأن هذا التقييم أو هذه المراجعة (بيان المكتب يستخدم مصطلح المراجعة كما مصطلح التقييم) عرضت على "ما يزيد على 100 من المفكرين والسياسيين وأصحاب الرأي والشخصيات العامة والعلماء والمهتمين بالشأن الإخواني خصوصا والإسلامي عامة، والقضية الوطنية المصرية". ولم يكد التقييم يخرج إلى النور، حتى سارع مكتب الإرشاد في الجماعة، بقيادة محمود عزت، إلى التنصّل منه رسمياً. و"مكتب الإرشاد"، الأصل فيه أنه أعلى سلطة مركزية في الجماعة، يخوض صراعاً مع "المكتب العام" على شرعية تمثيل الجماعة.
وبالمناسبة، وللتوضيح فقط، أعلن "المكتب العام لجماعة الإخوان المسلمين"، عن ورقة
قبل طرح ملاحظات على المراجعة، لابد أولا من تلخيص أهم النقاط التي جاءت فيها، وانتظمت في أربعة محاور رئيسة: غياب ترتيب الأولويات. العلاقة مع الثورة. العلاقة مع الدولة. الممارسة الحزبية لجماعة الإخوان المسلمين (هذا المحور الغائب من ورقة التسريبات، وأشارت المواقع التي نشرت وثيقة المراجعة إلى ملخصه).
في المحور الأول، تقول المراجعة: "على الأقل، خلال العقود الثلاثة التي سبقت الثورة طوال عهد حسني مبارك، كان التركيز التنظيمي التنفيذي للإخوان المسلمين على الجانب المجتمعي. وفي ظل هذا الجانب، كان يأتي التعامل بصفة تابعة مع محاور العمل العام الأخرى: السياسية والاقتصادية والدعوية والإعلامية". أما المحور الثاني فتخلص فيه المراجعة إلى ضعف التصورات الفكرية والسياسية للجماعة تجاه الثورة، واضطراب خطابها الإعلامي، قبل الثورة وفي أثنائها وبعدها. كما تشير إلى عدم الاستفادة المثلى من الرموز الثورية داخل الجماعة، وتقديم التنظيميين عليهم، فضلا عن عدم الجاهزية السياسية لإدارة مرحلة الثورة الانتقالية. ويؤكد أن الجماعة لم تنتبه لخطورة انفراد العسكر بوضع الأسس والأطر الحاكمة للمرحلة الانتقالية. في المحور الثالث، تتهم المراجعة الجماعة بالقبول بالعمل السياسي تحت السقف، والأفق الذي فرضته الدولة، وعدم محاولة رفع ذلك السقف أو تجاوزه. كما تتهم قيادة الجماعة بالقبول بأن تكون الجماعة ملفاً أمنياً على مدى عقود طويلة، وعدم السعي إلى تحويله إلى ملف سياسي. أيضا، فإنها تشير إلى غياب أي مؤشراتٍ للطموح السياسي عند الجماعة، أو في مساحة تطوير الفكر السياسي، أو التنظير له في مجالات "التعلم والتدريب الأكاديمي والتأليف". فضلا عن عدم انتهاز فرص الانفتاح والتمدد للضغط على النظام؛ كما في برلمان 2005، والذي حققت فيه الجماعة إنجازاً كبيراً. وتؤكد أن الجماعة فشلت في القيام بعملٍ جاد لتجعل من مسألة "حرمان منتسبي جماعة الإخوان المسلمين من الوجود في المؤسسات العامة للدولة؛ كقضية رأي عام ضاغط أو مطلب عادل والاستسلام في ذلك للواقع". أما المحور الرابع فقد تطرق إلى علاقة الجماعة بذراعها السياسية (حزب الحرية والعدالة)، بعد سقوط نظام مبارك عام 2011، وأشارت إلى ما وصفته بـ "التداخل الوظيفي والمقاصدي بين الحزبي التنافسي والدعوي التنظيمي".
هذا ملخص المراجعة، ويحتاج القارئ إلى العودة إلى النسخ المسرّبة المنشورة لها للإحاطة
أولا، للأسف، هذا الجهد الذي بذل يفقد كثيرا من قيمته، إذ يجيء في سياق تشرذم وتشظٍ في الجماعة المصرية، ومناكفة وصراع قيادي على تمثيلها. وكما سبقت الإشارة، فإن "مكتب الإرشاد" رفض التعامل معها أو إقرارها. ولا يعرف كيف يمكن للجماعة أن تنجح في التواصل مع التيارات الأخرى من الخصوم، أو حتى شركاء الثورة، وهي ما زالت عاجزة عن أن توحد صفوفها، حتى وهي تتعرّض للاجتثاث! وبالمناسبة، جُلّ القيادات المتنافسة تعيش في تركيا، فإذا كانت عاجزةً عن الالتقاء، حتى وهي في مأمن نسبي، فكيف لها أن توحد صفاً ثورياً، أو تكون جزءاً منه!؟
ثانياً، على الرغم من أن "التقييم" أو المراجعة تتضمن نقاطاً مهمة كثيرة، غير أنها لا تذهب بعيداً بما فيه الكفاية، ولا تغوص في أعماق الأزمة الإخوانية اليوم، فكرياً وتنظيمياً. ولذلك، أجد نفسي مقتنعاً بأن هذه المراجعة ما هي إلا قراءة بأثر رجعي لأخطاء وقع فيها "الإخوان المسلمون" خلال عامين، ما بين 2011، وحتى وقوع الانقلاب العسكري الدموي عام 2013. وبهذا، فإنها تغدو قراءة لا تغني ولا تسمن من جوع، ذلك أن المطلوب، فضلا عن الاعتراف بأخطاء الماضي والتعلم منها، وضع تصور مستقبلي لما تنتقد الورقة غيابه إخوانياً، سواء عن مفهوم العمل السياسي، أم فصل مجالات العملين الدعوي والحزبي، أو المجتمعي والسياسي.. إلخ. للأسف، لم نر في هذه الورقة ما يشير إلى تأسيس معرفي ومرجعي، ولو حتى بشكل أولي، للمسائل الأساس، كموقف "الإخوان" من الديمقراطية والمواطنة وشكل الحكم والدولة.. إلخ. حتى مسألة فصل الدعوي عن الحزبي، أو تمييز الحقلين، الديني عن السياسي، يحتاجان إلى تأسيس فكري ومعرفي، ذلك أن المدرسة الإخوانية قامت، ولتسعين عاماً، على عدم الاعتراف بالفواصل بينهم.
ثالثاً، صحيح أن الورقة تحمّل جزءاً كبيراً من مسؤولية "فشل" أو "تَفْشيلِ" الإخوان على مدى عقود عمرها في العمل العام، وتحديداً في إدارة الدولة خلال فترة رئاسة الرئيس محمد مرسي (2012-2013)، للنظام الرسمي القمعي، غير أنها لا تقدم تحليلاً واضحاً لبنية هذا النظام وكيفية التعامل معه. فحتى لو أصلح "الإخوان" كل أخطائهم، هل يعني هذا أن نظام البطش العربي سيغيب أو يسلم الراية لأي تغيير ديمقراطي سلمي!؟
رابعاً، الورقة، وإن كانت تُحَمِّلُ بعض المسؤولية للتيارات الأخرى من ثورية وليبرالية ويسارية وإسلامية سلفية.. إلخ، إلا أنها لا تقدم تحليلا شافيا في هذا السياق. ففي كل الأحوال، فإن مسؤولية فشل الثورات العربية، فضلا عن أنها مسؤولية إخوانية، فإنها جماعية، بل ومجتمعية كذلك، كما هي مسؤولية أنظمة القمع والدعم الخارجي الذي تلقته وتتلقاه.
خامساً، ونتيجة كل ما سبق، لا تعدو ورقة المراجعة هذه أن تكون أكثر من محاولة طرفٍ داخل "الإخوان" إبراء ذمته من الأخطاء الكارثية التي وقعت خلال عاميّ الثورة، ذلك أن كثيرين منهم كانوا في مواقع قيادية في الجماعة، بل وفي نظام الرئيس محمد مرسي، خلال ذينك العامين.
باختصار، ورقة المراجعة هذه أبعد ما تكون عن مفهوم المراجعة، بل هي قراءة سطحية، وبأثر رجعي، لأخطاء وقعت خلال عامي الثورة، وهي تأتي في سياقٍ من المناكفة والتحلل من المسؤولية. إنها فرصة أخرى ضائعة، كما أضعنا ثوراتنا من قبل، لإحداث انعطافةٍ ذات معنى في مسار مجتمعاتنا ومستقبلنا، نحن العرب. وها هم خصوم المراجعة اليوم يستغلون ضحالة هذه الورقة، والتي وللمفارقة، يقول أصحابها إنها عرضت على "ما يزيد على 100 من المفكرين والسياسيين وأصحاب الرأي والشخصيات العامة والعلماء"! ويبقى السؤال قائماً: هل يؤتمن من كان طرفا في الفشل على مراجعة أخطائه؟